16 شوال 1445 هـ   25 نيسان 2024 مـ 4:25 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | النبوة |  حامل بريد السماء... تصور فلسفي أولي عن دور النبي ونبوته بين الله وعباده
2021-11-10   2346

حامل بريد السماء... تصور فلسفي أولي عن دور النبي ونبوته بين الله وعباده

يُعّرف العقلاء الدين بأنه ضرورة تنظيمية للكون، بكل مكوناته، ومنها بالطبع حياة وسلوك الفرد ومن خلاله، المجموع، وعلاقتهما مع الكون وربه، وبالتالي فهو نظام اختياري كيفي لا قسر فيه ولا إكراه، غير إكراه المنطق والحكمة اللازمين لذلك، باعتبار أن الدين اختيار عقلائي يؤسس للإرادة وينظم تزاحم المصالح ويحكم الضمير ومن خلال الأخير، السلوك وصولا لقيمة إنسانية عظمى تسهل على هذا الكائن العيش مع اشباهه ونظراءه بسلام وأمان. 
ولأن الدين ـ كل دين ـ إنما هو علاقة للمربوب بربه وللمخلوق بخالقه، وهي علاقة لا يمكن ان تكون مباشرة ـ نقصد هنا علاقة الرب بعبده بالمباشرة اليومية؛ مكاشفة او محادثة او غير ذلك مما يمكن وصفه بالمباشر دون وسيلة ـ  وهذا ما يحتم ان ينقل أحدهم البريد بين الرب وعباده، وبشكل آمن تستريح له النفوس، بعيدا عن الشك والمصلحة الشخصية، ولا يكون ذلك إلا من خلال اشباه هذا الإنسان، وإلا لو كان هذا البريد من خلال كائن أخر كالملائكة مثلا أو غير ذلك، لصعب التواصل وصارت ثمة حلقة أخرى تستوجب البعد أكثر مما تقربهما ((وَقَالُوا مَا لهَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا))(الفرقان ـ7)، في وقت اشكل المشككون حتى على كون حامل هذا البريد ـ النبي ـ يتصرف كما يتصرفون، فما بالك لو كان غير ذلك ((أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا (8) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا))(الفرقان ـ 8).
وعلى هذا وذاك، فأن بشرية حامل البريد الإلهي صارت منطقية لا مراء فيها، إما ضرورتها، وبالتحديد ضرورة أن يكون ذلك من خلال عنوان "النبوة"، هو الأخر ضروري ولازم، وضرورة ذلك يقتضيها الدين بما يوفر الفرصة الكافية لحامل البريد السماوي من أن يبلغ العباد احكام دينهم فضلا عن عقائدهم ويبين لهم سبل أعمالهم بما يضبط سلوكياتهم. 
وأخيرا، فلا محيد عن ارسال الله لأنباءه لئلا تهتز هذه العلاقة ((رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا))(النساء ـ 165)، خصوصا وأن المصدر الوحيد لا متناهي الحكمة والرحمة بخصوص عباده هو الله سبحانه وتعالى، ما يعني أن العباد ليس بمقدورهم تفهم جزئيات دينهم، فضلا عن كلياته، من الله مباشرة دون وسيط النبوة التي يمثلها بشرا بكل ما تعنيه مفردة البشرية من تصور. 
لذا يمكن أن نوصف النبوة على أنها سفارة عن الله لعباده، ايضاحا وأفهامنا منه لهم، ناهيك عن كونها حجة عليهم، ما يجعل أولى واجبات النبي ـ أي نبي كان ـ إفهام الناس عقائدهم وشريعتهم ونظم امورهم من خلال تبيانه الحق من الباطل، الحلال من الحرام، الهدى من الضلال، ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (48))(الأحزاب ـ 45 ـ 48)، ما يجعل من النبوة ضرورة قصوى بضرورة الدين ذاته، ناهيك عن كونها جزئيته الكبرى وآلة بريده. 
 وبناء على أهمية النبوة في كونها أداة التبليغ السماوي للخلق، صارت الضرورة الى إحاطتها بجملة دعامات وحصانات تتيح لها العمل بحرية وضمان، وأهم هذه الدعامات هي دعامة "العصمة"، حيث عصمة النبي قولا وفعلا بما يتيح له النقل عن ربه بمنتهى النزاهة والأمانة، خصوصا وإن دليل الحق لا بد أن يكون متسما بالحق والصدق والأمانة، كما أن قيّم العدالة لا بد هو الأخر أن يتسم بما تحتمه العدالة من ضبط للأهواء وسيطرة على النزوات والرغبات، وبخلاف ذلك؛ فإن الريبة ستتخلل نظرة العباد لهذا النبي، بل وربما "صوبوا" و"صححوا" عمله! ليس بالضرورة عصيانا وتمردا، إنما لأن فيهم من "يعتقد" بأنه أفضل من النبي، وهذا ما قد يفتح المجال للاجتهادات الشخصية وتحكيم حكومة الأهواء النفسية للأفراد وبالتالي المجتمع من خلالهم، في وقت سيُسلم الجميع ـ تحت عنوان صدق النبي وعصمته فيما يقول ويفعل ـ ويذعنون لقناعاتهم الكابحة لجماح الشك والتخرص، من خلال طاعتهم له وتوقيرهم وتبجيلهم لما يقوله. 
من جهة أخرى، فأن ملامح النبوة ليست مجرد منظومة أخلاقية توصل اليها النبي بمجاهدة هواه وتهذيبه لنفسه، وحسب، وإن كانت هذه من لوازمها، إلا أن حالة الاصطفاء الإلهي، والانتخاب الرباني لهذا النبي او ذاك، دون كل البشر، هو الأخر سيكون ملمحا مهما في بناء شخصية النبي التي تُمكّنه من أداء دوره المحوري في عملية التغير المجتمعي، كهدف نبوي عام يشترك به كل الأنبياء عليهم السلام، باعتبار أن حالة الخلل المجتمعي هو الداعي الحقيقي للدين ومن خلاله النبوة، باعتبارهما الحل الحقيقي لبناء الفرد ومنه المجتمع.
من جهة أخرى، فإن هذا الاصطفاء ـ ودواعيه وضوابطه ـ، هو الأخر لا يكون إلا تحصيلا لصفات ذاتية وموضوعية في ذات النبي، ناهيك عن فترة المران والتدريب التي يمر بها كل نبي قبل نبوته بما يجعل من سماته الشخصية عرضة للاختبار، وبالتالي فأن هبة الاصطفاء تتمرحل بدورات الاختبار والتمحيص إثباتا للنبي أولا وللناس القريبين منه بما يجعله مصدقا من قبلهم ثانيا، ناهيك عن حاجة ذلك للدعم السماوي تأدية لواجب النبوة حيال العباد ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ.........))(النساء ـ46)، ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا))(الأحزاب ـ36).
 وما تمييز النبي عن غيره بالاصطفاء، إلا سدا لذريعة تطاول من ليس أهلا لها، خصوصا وأن بعض الصفات التي يتحلى بها النبي ـ كل نبي ـ يمكن ان تولّد مطمعا لغيره، ففقر النبي او بساطة عيشه، يمكن أن تولد طمع لأغنياء القوم بضرورة أخذ "عنوان" النبوة أن لم يكن أكبر منها!!! ((وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ)) (الأنعام ـ124).
ومن حتميات النبوة هو السمات القيمية والأخلاقية للنبي كمنشأ تربوي، يحتم بالضرورة حسن الأرومة وطهارة الرحم وما الى ذلك، خصوصا وأن تربية المجتمع وتطهير قلوبهم وتزكيتهم، هي من أهم أدوار النبوة وواجبات النبي فيها ((لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)) (أل عمران ـ 164).

 

عبد الحسن الشمري

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م