11 شوال 1445 هـ   20 نيسان 2024 مـ 3:38 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أحكام مجتمعية |  هل يصلح الإسلام لكل زمان؟
2021-11-14   2106

هل يصلح الإسلام لكل زمان؟

يرى المتتبع منا للواقع الثقافي والفكري في المجتمعات المسلمة، حجم ما تتعرض له هذه المجتمعات من غزو ثقافيٍّ مُمنهجٍ يستهدِف تغيير هويتها الإسلامية وبنيتها القيمية، بل ويرى بوضوح حالة التنامي الكبيرة للأفكار التي تحاول أن تبرر حالة التخلِّي عن الأفكار الدينية، وتمنهج لقبول الأفكار الهجينة عليها، وكنتيجة طبيعية لكل ذلك، فأن الأمة التي تتعرض للغزو سيميل بعض أفرادها الضعفاء تلقائياً للتخلي عن هويتهم، والميل نحو هوية الأمة الغالبة كما يقول علماء الاجتماع.
ومما نسمعه  داخل مجتمعنا وخارجه؛ التساؤل السمج عن مدى صلاحية الأحكام الدينية الإسلامية في زماننا الحالي؟ فزماننا زمن التكنولوجيا والتقدّم والسرعة، حيث وصل الإنسان للفضاء، وتنقل كيفما شاء بطائرة شخصية أو سيارة طائرة، وازدادت الاكتشافات العلمية، وتطورت الآلات والتقنيات واختلفت الأفكار والنظريات، وستظل الأمور تتغير مع مرور الزمن، وهو ما أثار سؤال مهم، قوامه: هل يمكن للدين الإسلامي أن يكون مناسباً لكل هذه الأزمنة المتغيرة؟
وبعبارةٍ أخرى: أن  أحكام الدين الإسلامي جاءت موافقة لظروف زمانية قبل خمسة عشر قرناً وهذه الأحكام لا تناسب زماننا الحالي، فهل يمكن أن تتطور وفقا لذلك؟ على فرض إن الأحكام الإسلامية ثابتة والحياة في حالة تغير، وهذا التغيّر يستدعي قوانيناً وأحكاماً جديدة تناسب ظروفنا الحالية، أي أن ذلك يستدعي أن يتوافق الثابت والمتغيّر.
وقبل مناقشة هذا التساؤل، لا بد لنا أن نعي بأن الاعتقاد بهذه الأفكار ستُهيِّئ الأرضية لقبول الأفكار الهدَّامة التي يتمُّ الترويج لها عالمياً كالشذوذ والإلحاد وهدم مفهوم الأسرة، باعتبار أن هذه الأفكار "الجديدة" تتسق وعصرنا المتسم بالتقدم والتحضر، علمياً وتقنياً، وهو ما لا يمكن أن يتفق وأحكام الدين، كون الأخيرة تعارض هذا التطور، ولا تتناسب والطفرة النوعية في الحياة.
ومناقشة هذه الفكرة والاستدلال على كونها خاطئة مهمٌ في تحصين عقيدة المسلم وهويته ضد الغزو الثقافي الذي يواجهه، فعند التأمّل بهذه الفكرة، سنجد أنها تبتني على اعتبار الأحكام والقوانين الإسلامية التي أمر بها الله تعالى بها كالقوانين الوضعية التي يشرعها البشر حسب تجاربهم وعقولهم الناقصة، فهذه القوانين تحتاج للتغيير والتبديل كل فترة، لأن واضعها بشرٌ وإمكاناته محدودة، وآراؤه تحتمل الخطأ، فكلما تقدّم الزمن تبيّن الخلل في قوانينه، فيأتي غيره ويضع قانون آخر وهكذا، طبعاً هذه القوانين تحمل الكثير من السلبيات وتجعل من المجتمعات عرضة لتجارب واضع القوانين وأهوائِه الشخصية، لذلك نرى مجتمعاتهم تنتقل من تجربةٍ إلى أخرى، ويتحملون توابعها من حروبٍ عالميةٍ وأزماتٍ اجتماعية واقتصادية وسياسية، في حين أن القوانين والأحكام الإسلامية إنما هي تشريع من الله عزّ وجل، الله الحكيم العالم، خالق البشر الذي يعرف ما ينفعهم وما يضرّهم، القدير الذي لا تَحدُّ قدرته شيء، ولا زمانٌ ولا مكان، فهو قادرٌ على أن يجعل أحكاماً وقوانين تناسب الإنسان مهما اختلفت ظروفه الزمانية والمكانية، وقد ثبت أن الله تعالى اختار الشريعة الإسلامية خاتمةً لكل الشرائع، وأمر بتبليغها لكل البشر ليعملوا بها إلى يوم القيامة، وما ذلك إلا لكونها مناسبةً لكلِّ زمانٍ ولكلِّ البشر.  
ولكي نفهم كيف أن الأحكام الإسلامية مناسبة لكل الأزمنة، لا بدّ أن نفهم أن الزمان متغيّرٌ لكن لا يتغيّر معه كل شيء، فعندما نتأمّل في التاريخ سنجد أن هناك أموراً ثابتة لم تتغير، ونعرف من خلال عقلنا أنها لن تتغير، فمثلاً، أن عقولنا تدرك أن العدل أمرٌ جيدٌ وممدوحٌ عند جميع البشر منذ قديم الزمان ومهما اختلفت انتماءاتهم، وسيبقى كذلك مهما طال الزمن، وكذلك الظلم قبيحٌ ومذمومٌ مهما تغيّر الزمن، وهذا ما لا ينكره عاقل، والدين الإسلامي كذلك فيه أمورٌ ثابتةٌ واضحة، لا تتغير بمرور الزمن، كالأمور الاعتقادية من وجود الله تعالى وصفاته والنبوة والإمامة والمعاد، وكالأمور الأخلاقية الثابتة كحسن الصدق وقبح الكذب والخيانة، والعبادات كالصلاة والحج والزكاة والصيام، فلا يمكن رفض هذا القسم من الأحكام بعد أن ثبت أنه توجد أشياء غير قابلة لأن يغيرها الزمن، والله تعالى عندما أوجب شيئاً ثابتاً كالصلاة أو الحج أو الخمس فذلك يعني كونها مناسبة لكل الأزمنة والاعتراض على هذه الأمور اعتراضٌ على قدرته وحكمته، وإذا حرّم شيئاً كالخمر والقمار والشذوذ الجنسي فهذا يعني كونها ضارّة مهما اختلف الزمن.
أما بالنسبة للأمور التي تتغير بمرور الزمن وتختلف من عصرٍ لآخر، كالملابس والأزياء والعادات والأعراف والتقاليد، وبعض المعاملات التي يستحدثها البشر لتنظيم العلاقة فيما بينهم،  فإن الله تعالى جعل قواعد وقوانين عامة للحكم عليها والتعامل معها، فكلما واجهنا شيئاً مُستحدَثاً يكفي أن نرجع لهذه القواعد ونطبقها حتى نعرف حكم هذا الأمر المُستحدَث، وهذا ما يفعله الفقهاء والمراجع لاستنباط الأحكام، ففي الشريعة الإسلامية لكل واقعة حكم ولا يوجد شيء لا نستطيع استنباط حكمه، فمن باب المثال، لو اكتشف الكيميائيون مادةً جديدة ونريد أن نعرف حكمها، هنا نلاحظ عدة قوانين شرّعها الله في مثل هذه الحالة، فكل ما يسبب ضرراً يحرم، وكل ما يسبب ذهاب العقل ويسبب الإسكار يُحرم، وكل ما اُدرج ضمن النجاسات العشرة حرام، وكل ما عداها حلال، فنأتي إلى هذه المادة ونرى هل تنطبق عليها أحد هذه العناوين، فإذا سببت ضرراً، أو أذهبت العقل، أو كانت من النجاسات؛ حكمنا بحرمتها، وإلا فحكمها الحلية وجواز استخدامها.
وفي مثال أخر، وعلى عكس ما يذهب إليه المشككون في أن الإسلام يعارض التزيّن والاهتمام بالأناقة والأزياء الجميلة ويقتصر على ما يناسب العصور القديمة، إلا أنه ـ الإسلام ـ يقبل ذلك بل ويشجع عليه، بعد أن وضع شروطه المعقولة لما يمكن أن يٌلبس؛ من كونه غير مثير للشهوات ولا يصف عورته ولا يسبب ذلةً له، وبالتالي فأنه لم يحدد نوعاً خاصاً من الألبسة، فللإنسان أن يلبس ما يشاء من الألبسة والموضات بشرط أن لا يخالف هذه الشروط.
ونفس الأمر بالنسبة لمواكبة الإسلام للتطور التقني أو الطبي، بل وحتى الفكري مما يتناوله الفقهاء في مباحثهم الفقهية.
ومن هذا يظهر كيف أن أحكام الدين الإسلامي لا تمنعنا من التطوّر والتقدّم، ولا تقمع رغبات الإنسان الفطريّة بالتمتُّع بالحياة، وإنما يجعل لها شروطاً حتى لا يطغى، وتسبِّب رغباته الضرر له، ويكون تقدّمه وتطوّره إيجابياً لا سلبياً، كما هو الحاصل في بعض المجتمعات التي تُصنف على أنها متقدّمة ومتطوّرة، إلا أنها تعاني من سلبيات كثيرة، كانتشار الأمراض النفسية وانتشار الرذيلة، فضلا عما تتعمده حكومات هذه البلدان المتقدمة من وحشية حيال الشعوب الضعيفة، بسبب ابتعادها عن الأحكام الإلهية التي وضعت لتنظيم الحياة.
وخلاصة ذلك، إن الإسلام لا يهترِئ بمرور الزمن بل يتجدّد، بمعنى أنه كلما تطورت وتقدمت علوم البشر ازدادت الأدلة على أحقيِّته ومناسبته لقيادة البشرية، لذا نرى تصريحات وآراء الكثير من العلماء والفلاسفة من ديانات وثقافات أخرى تشيّد بقوانين الإسلام وعظمة رسوله صلوات الله تعالى عليه وآله ومن بعده أئمة الهدى صلوات الله عليهم؛ بسبب ما رأوه من حكمة ودقة وشمولية في بعض القوانين الإسلامية، وكذلك نرى الهجمة الشرسة التي تشنُّها لوبيات الشر للسيطرة على مقدرات الشعوب ضد كل ما يعتبر إسلامياً وما ذلك إلا لأن هذا الدين بأفكاره وأحكامه تُشكّل مانعاً قوياً ضد مخطَّطاتهم السيّئة.
وهو ما يدعونا للحفاظ على مبادئ هذا الدين العظيم وعدم التهاون بها والالتزام في تطبيق أحكامها السمحاء، والاعتزاز بهوية الإسلام أمام موجات الانحراف وتغيير الفطرة البشرية، والتيقن في أن كل خير نرغب به؛ موجودٌ في ديننا الحنيف، لا في القوانين والأفكار المُشوَّهة التي تُصدِّر لنا وتُعلّب بشكلٍ ظاهره جميل لكن باطنه قبيح.

السيد علي قاسم الرضوي

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م