10 شوال 1445 هـ   19 نيسان 2024 مـ 7:37 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | شخصيات إسلامية |  شعراء الواحدة .. ابن زيدون إنموذجا
2021-11-15   1901

شعراء الواحدة .. ابن زيدون إنموذجا

لا يمكن لأديب أو باحث يتعرّض لتاريخ الأندلس أو يتناول أدبها دون أن يذكر معها شاعرها وفتاها ابن زيدون، الشاعر الرقيق والكاتب المبدع, كما لا يمكن لدارس الشعر العربي أن يغض الطرف عن نونيته العصماء الخالدة التي حازت على شهرة كبيرة وواسعة: 
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا    ونــابَ عن طيبِ لقيانا تجافينا 
تكادُ حين تناجيكمْ ضمائرُنــــــا يقضي علينا الأسى لولا تآسينا 
حالــــــــتْ لبعدكمُ أيامُنا فغدت    ســوداً وكانت بكمْ بيضاً ليالينا
وهذه القصيدة تعد من عيون الشعر العربي وقد ختم بها الشيخ ابن نما الحلي كتابه مقتل الحسين عليه السلام المسمى بـ "مثير الأحزان" قائلا "وقد ختمت كتابي هذا بهذه الأبيات لابن زيدون المغربي فهي تنفذ في كبد المحزون نفوذ السمهري"، وقال شمس الدين الخاوي في كتابه (الجواهر والدرر): "لو رأى ابن حزم قصيدة ابن زيدون النونية لعدل عن قصيدة ابن زريق". 
وهناك روايات وأقوال كثيرة دارت حول هذه القصيدة, دلت على شهرتها وجعلت أدباء الأندلس يتحدون بها أدباء المشرق, ولشهرتها أيضاً فقد نسجت حولها الأساطير حتى قيل: "ما حفظها أحد إلا وفجع ببعض أحبائه"!!
كما لهج الكثير من الشعراء بمعارضتها منذ ولادتها حتى شعراء العصر الحديث وأبرز من عارضها صفي الدين الحلي وأحمد شوقي والجواهري وغيرهم. 

الشاعر 
ولد أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي المعروف بـ (ابن زيدون) عام (394هـ / 1003 م) في قرطبة، ويعود في نسبه إلى قبيلة مخزوم العربية، وكانت أسرته في الأندلس لها شأن وصيت في العلم والأدب، وقد عُرف أبوه وجده بالعلم والأدب فحذا حذوهما، فكان شاعراً وكاتباً وقد تولى الوزارة لملك قرطبة أبو الوليد ابن جمهور والسفارة له فكان يوفده إلى ملوك الطوائف في الأندلس. 
ولكن علاقة الصفاء بينهما لم تدم طويلا حيث قطع الوشاة والحسَّاد حبل هذه العلاقة وأقنعوا ابن جمهور أن ابن زيدون يميل إلى المعتضد بن عباد ملك إشبيلية، فسجنه ولم تنفع رسائل ابن زيدون لابن جمهور واستعطافه في إطلاق سراحه حتى تمكن من الهرب عام (441هـ) واللجوء للمعتضد الذي أكرمه ونصبه وزيراً له فلقب بـ (ذي الوزارتين) وبقي في إشبيلية حتى وفاته عام (463هـ / 1071 م). 
ولم تقتصر شهرة ابن زيدون على قصيدته النونية بل إن هناك حدثاً آخر في حياته فقد عُرف بقصّة حبِّه لولادة بنت المستكفي والتي أفاض المؤرخون فيها.

عوامل شهرة القصيدة الواحدة
في الحقيقة إن من يطلع على ديوان ابن زيدون يجد أن هناك قصائد لا تقل قوة وأثراً عن هذه القصيدة ويأتي السؤال:
لماذا اشتهرت هذه القصيدة دون سواها من قصائد ابن زيدون حتى عُرفت به وعُرف بها ؟
إن فكرة القصيدة الواحدة التي تجتاز امتحان العصور وتخلد في الأذهان تفتح الآفاق فعلا في معنى الشعر ومكانته في الأمة, وتاريخنا الأدبي يزخر بقصائد منفردة خلدت دون سواها وكانت السبب في شهرة شعراء خلدوا بها في حين لم يستطع سواهم أن يخترقوا حجاب زمنهم بدواوين كبيرة.
والإجابة عن مثل هذا السؤال تقتضي دراسة مستفيضة وتحليل واسع وإحاطة تامة بجميع جوانب القصيدة وتفاصيلها, فكل قصيدة (واحدة) يمكن أن تكون نواة لدراسة خاصة بها وبصاحبها إضافة إلى أن المقارنة عنصر أساسي في مثل هذه الدراسة حيث يجب أن تتوفر على النواحي السيكولوجية والنفسية والتاريخية والاجتماعية والفكرية حتى يمكن معرفة أسباب شهرة القصيدة الواحدة وحتى يكون البحث في هذا المضمار مستوفياً. 
وتختلف أسباب شهرة القصيدة الواحدة عن الأخرى من حيث العوامل التي أدت إلى شهرتها كما تتباين أهميتها من النواحي الفنية والتاريخية والسياسية والاجتماعية, كما يجدر بنا الإشارة إلى أنه ليس من الضرورة أن تكون القصيدة الواحدة هي الوحيدة لشاعرها فأغلب من حمل لقب (شاعر الواحدة) لديه ديوان كبير كالتهامي والطغرائي وغيرهما ولكن هناك خصائص فنية وعوامل ساعدت على شهرة القصيدة الواحدة دون سواها فكان سبب اشتهار (لامية السموأل) المشهورة: 

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه    فكل رداء يرتديه جميل

الحادثة التي جرت بينه وبين الحارث بن ظالم رسول المنذر بن ماء السماء حينما أرسله المنذر ليأخذ وديعة امرئ القيس فرفض السموأل إعطاءها فقتل الحارث ابن السموأل وهو عائد من الصيد ولم يجدِ قتله في أخذ الأموال المودعة ومن أجل هذه الحادثة قال السموأل قصيدته, ومثل حكاية السموأل نجد مالك بن الريب في يائيته: 

أيا ليت شعري هل أبيتن ليلة    بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا

والتي كان سبب شهرتها ميتته المجهولة حيث قالها وهو يحس بدنو أجله فرثى نفسه. 

أما لامية الشنفرى فقد حملت بُعداً قومياً فسمّيت بـ (لامية العرب), ومثلها (لامية الطغرائي) التي حملت اسم (لامية العجم), وتتشابه قصيدتا دين الجن الحمصي وأبي الحسن التهامي من ناحية المعنى والغرض فكلاهما مفجوع, الأول: على زوجته, والثاني: على ابنه, أما عينية ابن سينا فقد حملت معاني فلسفية وعلمية تتعلق بالطب والإنسان والحياة, أما أكثر قصائد (الواحدة) فقد حملت جانب الحكمة والشاعرية الفائقة, كحائية ابن النحاس, وسينية ابن الخطيب, وموشحة ابن سناء الملك, وموشحة ابن زهر الحفيد, وعينية ابن زريق البغدادي, ولامية الشهرزوري وغيرها.

شهرة القصيدة وتهميش الشاعر
ولنرجع إلى ابن زيدون ونونيته, فهذا الشاعر لم ينل ما يستحقه من العناية والاهتمام في حياته وبعد مماته حتى العصر الحديث, ففي حياته طغت شهرة ابن هاني الأندلسي عليه وساعدت هذه الشهرة إحاطة الفاطميين له بهالة من المجد والشهرة تمهيداً لإعداده شاعراً للدولة, ورغم أن ابن هاني قتل وهو شاب, إلا أن أصداء شعره ظلت باقية بعده خاصة إن الفاطميين قد أذاعوها في الآفاق ونوّه بشعره حتى الخليفة الفاطمي المعز لدين الله حيث قال: (كنا نريد أن نفاخر به شعراء الشرق) كما كان للمؤرخين دوراً كبيراً في هذه الشهرة وإضفاء صفات المجد عليه كقول ابن خلكان: "وليس في المغاربة من هو في طبقته لا من متقدميهم ولا من متأخريهم بل هو أشعرهم على الإطلاق وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة وكانا متعاصرين".
ونحن لا نُنكر أن ابن هانئ كان شاعراً كبيراً ولكن لا يُنكر أيضاً أن في هذا القول نوعاً من المغالاة وقد ظلت نظرة ابن خلكان مسيطرة على الباحثين قروناً عديدة فعقدوا لواء الزعامة الشعرية في الأندلس لابن هانئ بعد أن بايعه لذلك مؤرخ كبير فكان من الطبيعي أن تغطي هذه الشهرة على شعراء كبار أمثال ابن زيدون, وابن حمديس, وابن خفاجة, وابن دراج وغيرهم. 
ورغم ذلك فقد وازى ابن زيدون ابن هانئ في الشهرة بنونيته ويعود سبب اشتهارها إلى ما حملت من مشاعر متأججة سببها لوعة الفراق, حتى أصبحت سلوة لكل من فقد حبيباً أو عزيزاً, إضافة إلى أنها لامست الواقع السياسي والاجتماعي في ذلك الوقت حيث الفتن والاضطرابات والحروب التي مزقت جسد الأندلس والتي أدت إلى فقدان الكثير من الناس أحباءهم وأقرباءهم.
ولم يتناقل المؤرخون على مدى قرون طويلة من شعر ابن زيدون غير قصيدته المشهورة, حتى ليُحسب إنه لم يقل غيرها من الشعر وقد ظل ديوان ابن زيدون مخطوطاً حتى سنة (1930م), إذن فقد لعبت عوامل عديدة في شهرة هذه النونية فهي "تنفذ في كبد المحزون نفوذ السمهري" كما وصفها ابن نما الحلي وتناقلها المؤرخون على أنها من القصائد المحدودة ـ أي المشؤومة وسيئة الحظ ـ ومن المعروف أن المؤرخين مولعون بنقل الغريب حتى وإن كان خرافة حتى أجزموا إن: "ما حفظها أحد إلا مات غريبا".
كما كان لمعارضتها من قبل عدد كبير من الشعراء الكبار على مدى قرون طويلة سبباً آخر في شهرتها والقصيدة, عبارة عن لوحة تراجيدية رسمها ابن زيدون وعلقها على جدار الزمن وربما لم يدر حتى في ذهن ابن زيدون نفسه إن هذه القصيدة المشحونة بالعاطفة التي بذرها في أرض الأدب العربي امتدت في أعماق الطين وشق ساقها التربة وامتد في الفضاء؛ لا تزال تثمر في قلوب أفعمها الأسى وأججها الفراق ولشدة تفجعها فقد خمّسها كثير من الشعراء وجعلوها في رثاء الإمام الحسين عليه السلام؛ يقول ابن زيدون في هذه القصيدة: 
أضحى التنائي بديـلاً مـن تدانينـا    وناب عن طيـب لقيانـا تجافينـا 
ألا وقد حان صبح البيـن صبحنـا    حيـن فقـام بنـا للحيـن ناعينـا 
من مبلـغ الملبسينـا بانتزاحهمـو    حزناً مع الدهـر لا يبلـى ويبلينـا 
أن الزمان الـذي مـازال يضحكنـا    أُنساً بقربهمـو قـد عـاد يبكينـا 
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعـوا    بأن نغـص فقـال الدهـر آمينـا 
فانحـل ما كـان معقـوداً بأنفسـنـا    وانبت ما كـان موصـولاً بأيدينـا 
وقـد نكـون وما يخشـى تفرقـنـا    فاليـوم نحـن وما يرجـى تلاقينـا 
يا ليت شعري ولم نعتـب أعاديكـم    هل نال حظاً من العتبـى أعادينـا 
لم نعتقـد بعدكـم إلا الوفـاء لكـم    رأيـاً ولـم نتقلـد غيـره ديـنـا
ماحقنا أن تُقـرّوا عيـن ذي حسـد    بنـا ولا أن تسـرّوا كاشحـاً فينـا 
كنا نرى اليأس تسلينـا عوارضـه    وقـد يئسنـا فما لليـأس يغريـنـا 
بنتم وبنـا فمـا ابتلـت جوانحنـا    شوقـاً إليكـم ولا جفـت مآقيـنـا
نكـاد حيـن تناجيكـم ضمائرنـا    يقضي علينا الأسى لـولا تأسّينـا 
حالـت لفقدكمـو أيامنـا فـغـدت    سوداً وكانت بكـم بيضـاً ليالينـا 
إذ جانب العيش طلـقٌ مـن تآلفنـا    ومورد اللهو صافٍ مـن تصافينـا 
وإذ هصرنا فنون الوصـل دانيـة    قطافهـا فجنينـا منـه ماشيـنـا 
ليسق عهدكمو عهد السـرور فمـا    كنتـم لأرواحـنـا إلا رياحيـنـا 
لا تحسبـوا نأيكـم عنـا يغيـرنـا    إن طالمـا غيّـر النـأى المحبينـا 
والله ما طلبـت أهـواؤنـا بــدلاً    منكم ولا انصرفت عنكـم أمانينـا 
ولا استفدنا خليـلاً عنـك يشغلنـي    ولا اتخذنـا بديـلاً منـك يسلينـا 
يا ساري البرق غاد القصر واسق به    من كان صرف الهوى والود يسقينا 
واسأل هنالك هـل عنـى تذكرنـا    إلفـاً تـذكـره أمـسـى يعنّيـنـا 
ويا نسيـم الصبـا بلـغ تحيتـنـا    من لو على البعد حيّا كـان يحيينـا 
فهل أرى الدهر يقضينـا مساعفـةً    منه وإن لـم يكـن غِبّـاً تقاضينـا 
ربيـب ملـك كـأن الله أنـشـأه    مسكاً وقدر إنشـاء الـورى طينـا
أو صاغه ورقـاً محضـاً وتوّجـه    من ناصع التبر إبداعـاً وتحسينـا 
إذا تــأوّد آدتـــه رفـاهـيــــــــــــة    تؤم العقـود وأدمتـه البـرى لينـا 
كانت له الشمس ظئـراً فـي أكِلّتـه    بـل ما تجلـى لهـا الا أحاييـنـا 
كأنما أُثبتت فـي صحـن وجنتـه    زهر الكواكـب تعويـذاً وتزيينـا 
ماضر أن لم نكـن أكفـاءه شرفـاً    وفي المـودة كـافٍ مـن تكافينـا 
يا روضةً طالمـا أجنـت لواحظنـا    ورداً جلاه الصبا غضـاً ونسرينـا 
ويا حـيـاة تمليـنـا بزهـرتـهـا    منـىً ضروبـاً ولـذات أفانيـنـا 
ويا نعيماً خطرنـا مـن غضارتـه    في وشي نُعمى سحبنا ذيلـه حينـا 
لسنـا نسميـك إجـلالاً وتكرمـةً    وقدرك المعتلـى عـن ذاك يغنينـا 
اذا انفردت وما شوركت فـي صفـة    فحسبنا الوصف إيضاحـاً وتبيينـا
يا جنـة الخلـد أُبدلنـا بسدرتـهـا    والكوثر العـذب زقومـاً وغسلينـا 
كأننـا لـم نبـت والوصـل ثالثنـا    والسعد قد غضّ من أجفان واشينـا 
إن كان قد عزّ في الدنيا اللقـاء بكـم    في موقف الحشر نلقاكـم ويكفينـا 
سرّان في خاطر الظلمـاء يكتمنـا    حتى يكاد لسـان الصبـح يفشينـا 
لاغرو في أن ذكرنا الحزن حين نهت   عنه النّهى وتركنا الصبـر ناسينـا 
انا قرأنا الأسى يوم النـوى سـوراً    مكتوبـة وأخذنـا الصبـر تلقينـا 
أمـا هـواك فلـم نعـدل بمنهلـه    شِرباً وإن كـان يروينـا فيظمينـا 
لم نجف أفق جمـال أنـت كوكبـه    سالين عنـه ولـم نهجـره قالينـا 
ولا اختياراً تجنبنـاه عـن كثـب    لكن عَدَتنـا علـى كـرهٍ عوادينـا 
نأسى عليـك إذا حُثّـت مشعشعـة    فينـا الشمـول وغنّانـا مغنيـنـا 
لا أكؤس الراح تبـدي مـن شمائلنـا    سيما ارتياح ولا الأوتـار تلهينـا 
دومي على العهد ـ ما دمنا ـ محافظةً    فالحر من دان إنصافـاً كمـا دينـا 
فما استعضنا خليـلاً منـك يحبسنـا    ولا استفدنـا حبيبـاً عنـك يثنينـا 
ولو صبا نحونا من عُلـوِ مطلعـه    بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينـا 
أولي وفاءً وإن لـم تبذلـي صلـةً    فالذكـر يقنعنـا والطيـف يكفينـا 
وفي الجواب متاع إن شفعـت بـه    بيض الأيادي التي مازلـت تولينـا 
عليـك منـا سـلام الله ما بقـيـت    صبابـة بـك نُخفيهـا فتخفيـنـا 
وقد خمسها السيد محمد بن مال الله وجعلها في رثاء الإمام الحسين وتخميسه قصيدة ابن زيدون التي جعلها في رثاء الحسين عليه السلام


محمد طاهر الصفار

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م