11 شوال 1445 هـ   20 نيسان 2024 مـ 6:04 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | شخصيات إسلامية |  رودكي.. بلبل خراسان
2021-11-15   1492

رودكي.. بلبل خراسان

أرتقت اللغة الدَرية إلى المكانة الأدبية بعد الفتح الإسلامي لإيران بنحو ثلاثة قرون، وكانت اللغة البهلوية ـ لغة الأدب العامة ـ قد انهارت في عهد الساسانيين بانهيار الامبراطورية الكسروية، وقد اعتُمدت هذه اللغة الجديدة كي تصبح لغة الأدب الفارسي وبدا هذا واضحاً في نشأة النثر الأدبي في القرن العاشر الميلادي بالترجمة والاقتباس ثم بالخلق والإنشاء المعتمدين على لغة العرب وآدابهم، ثم بدا الأثر واضحاً كذلك في الشعر الموزون الفارسي بعد أن نقل الفرس الأوزان العربية. 
وهذه اللغة هي لغة متداولة في أفغانستان وهي شقيقة الفارسية، وتدلنا القرائن التاريخية على أن الشاعر رودكي ـ وهو رائد هذا المجال في الأدب الفارسي ـ قد اعتمد كثيراً على الشعراء العرب في الموضوعات العامة والمعاني حين ارتاد هذا الميدان، ولا نريد بحال من الأحوال أن نغض من قدر رودكي حين ذكرنا أنه أفاد وحاكى شعراء من غير أدبه فنمّى مواهبه ونهض بلغة أمته وأشعارها، طالما كانت الإفادة من الثقافات والحضارات هي دائماً شأن كل أمة تطمح للتقدم؛ وعن هذا الطريق؛ غُنيت الآداب ونهضت ونمت الحضارات وازدهرت بل نمت الحضارة الإنسانية بوصفها كلاً متكاملاً يتعاون فيه الجنس البشري مهما مزقته الخلافات والأطماع السياسية؛ فالوطن العقلي والفكري لا يعرف هذه العوائق التي لا تقف إلا في وجه المتخلفين.
كان الشعر العربي الذي تعمق فيه رودكي هو مصدر إشعاعه ونبوغه فكان يعاني تجربته ويصوّر ذات نفسه بعد أن اطلع وقرأ وأفاد شأن كل العبقريات الأصيلة فالتأثر الأدبي لا يمحو الأصالة بحال بل هو السبيل لتنميتها.
لم يكن رودكي أول من نظم الشعر الفارسي على الطريقة العربية في الأدب الإسلامي ـ أدب ما بعد الفتح ـ ولكنه أول شاعر كبير نظم على هذه الطريقة في أدب الفرس وأول من أكتمل به معنى هذا الشعر لديهم حيث تتلمذ عليه كبار شعراء الفرس الذين أتوا بعده وشهدوا له بالفضل والسبق فقد كان رودكي على ثقافة عربية واسعة شأنه في ذلك شأن جميع من أسهموا في نهضة الأدب الفارسي شعره ونثره فقد كانوا كلهم ذوي لسانين! عربي وفارسي، وقد أظهر رودكي نبوغاً في إقباله على العربية وتعلمه إيّاها حتى أنه أتم حفظ القرآن الكريم في سن الثامنة. 
ويبدو أن تأثر هؤلاء الشعراء من الفرس بأوزان الشعر العربي دليل على اطّلاعهم وتعمّقهم بالثقافة العربية عامة والشعر العربي خاصة فنقلوا الأوزان العربية ونسجوا على منوالها حتى قرَّر بعض مؤرخي الأدب من المتقدمين أن الفرس القدماء لم يكن لهم شعر منظوم وأنهم نقلوا أوزان شعرهم من العرب ورغم أن هذا الرأي لا صحة له إذ اثبتت البحوث أن الشعر الإيراني القديم ـ قبل الفتح الإسلامي ـ كانت له أوزان إلّا أن هذا الرأي يحمل دلالة واضحة على تأثر الشعر الفارسي المنظوم بأوزان الشعر العربي وهذا ما يهمنا هنا. 
ومن مشاهير شعراء إيران القدماء ـ الذين بقيت لنا أسماؤهم ـ وكانوا ينظمون على أوزان الشعر الشاعر فهليد شاعر خسرو الثاني في عهد الساسانيين، أما بعد الفتح الإسلامي فظهرت أسماء شعراء نهجوا نهج الشعر الموزون على أن رودكي كان أول رائد كبير لهؤلاء الشعراء جميعاً فكانت محاكاته رشيدة في كل مجالاته للشعراء العرب.

من هو رودكي؟
ولد أبو عبد الله جعفر بن محمد بن حكيم بن عبد الرحمن بن آدم حوالي (244 هـ / 858 م) في قرية رودك بين بخارى وسمرقند وإلى هذه القرية يُنسب، وتوفي عام (330هـ / 941م)، وقد اشتهر بصلته بالأمين الساماني نصر بن أحمد، ولحظوته لديه كان له تأثيراً عظيماً يبلغ حدّاً أسطورياً فيحكي هو عن نفسه في بعض أشعاره فيقول:
(أذيع أشعاري متغنّياً بصوتي العذب كالبلبـــل
وفي قامة بارعة الحسن كيوسف أسير السجن
وكم جالستُ كبارَ القومِ وأعيانهم
أزوّدهم بالعلم خفية وعلانيــــــة)
وقد ذكر بعض مؤرخي الأدب الفارسي أن رودكي كان أعمى، وإنه ولد كذلك ولكن المرجح ـ كما تدل بعض أشعاره وكما يتجلى من حدة إدراكه للأشياء والألوان ـ أنه لم يولد أعمى وإنما أدركته هذه العاهة بعد أن تقدم به السن. 
طرق رودكي كل أغراض الشعر من المدح والرثاء والغزل وغيرها بطابعه القديم الذي نمّى مواهبه وانضج أصالته ويسرّ أمامه السبيل إلى تخليد ما يجول بأعماق نفسه. كانت الطمأنينة تملؤه فعاش عيشة الراضي بحياته رضاً يقيناً لا سذاجة فيه ولا غرور بل يروّض نفسه عليه تأسياً كي تظل الحياة أمراً يمكن احتماله:
(قد منحني دهري نصيحةَ الأحرار الكرام
والزمان كله عظة حين تتأمّل
فقال: لا تأسَ على عيشِ السعداء
فكم من امرئ يتوق إلى عيشك!!)

ثم يشخص بفلسفته إلى اليقين الحقيقي متأسياً بقول: (لا تأس على ما فاتك ولا تفرح بما أصابك):
(ما عليك سوى أن تطيبَ نفساً بما يأتيك
وأما الماضي فاصرف عنكَ ذكراه
فالسعيدُ مَن أعطى وتمتّع
والبائسُ مَن أحجمَ وتراجع)

وعلى ضوء هذا التعمّق في الجوانب النفسية كان إحساس رودكي بهروب الزمن وبكد الدهر وفناء العمر رهيباً:
(تآكلتْ أسناني وتساقطت جميعاً، لم تكن أسناناً
لا، بل كانت مصابيح مشرقــــة
وكانت منضدة في بياض الفضة
وكانــــــــــــــــــــت درّاً ومرجانــــاً
وكانت كنجمِ السحرِ وقطراتِ المُزن
والآن لم تبق لي منها واحدة!!
بليتُ كلها وتساقطـــــت!....)

ويبرز جانب الحزن الدفين الذي يبين كومضات خاطفة وهو يبكي على عهد الشباب:
(أي حبيبتي! يا شبيهة البدر وجهاً! يامن ترين رودكي الآن
لم تريه في ذلك الزمن الذي انقضى
حين كان في عهد الشباب!
لم تريه آنذاك يجوبُ المروجَ متغنّياً بشعره
حتى لتحسبينه بلبلاً
قد انقضى ذلك العهد الذي كان فيه رودكي أنس الأحرار
وكانت له الصدارة في عرينِ الأسود
حين كان شعري يدوِّنه العالمُ كله
وكنتُ شاعرَ خراسان!
والآن تبدّلَ الزمنُ غير الزمن
وصرتُ خلقاً آخرَ فاحضرُ عصا التسيار
وشدَّ الرحيل، فقد آنَ وقتَ الرحيل).

محمد طاهر الصفار

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م