10 شوال 1445 هـ   19 نيسان 2024 مـ 3:09 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | شخصيات إسلامية |  صدر الدين عيني.. شاعر طاجيكستان
2021-11-16   1162

صدر الدين عيني.. شاعر طاجيكستان

أولئك الأدنياء مرفّهون
وهؤلاء الشرفاء معذّبون
بعضٌ يكدح دون هوادة طاوياً الليلَ بالنهارِ
وبعض آخر يعبث ..
يسفحُ الخمرَ صبحاً ومساء ....

في مثل هذا الجو الذي يعجّ بمظاهر الفساد الإداري والاجتماعي والتفاوت الكبير والطبقية المقيتة التي تتأرجح بين ثراء فاحش وفقر مدقع نشأ الشاعر صدر الدين عيني, وفي مثل هذا المناخ النفسي والشعوري والفكري تفتحت نفثة وحُرقة أطلقتها قريحته وهو يرى الشعب الطاجيكي يرزح تحت سوط الاقطاع والقنانة واستغلال المتنفذين.
قبل الدخول إلى حياة الشاعر صدر الدين عيني والتعرف عليه عن كثب لابد من تسليط الضوء - ولو ملخّصاً - على الظروف الاجتماعية القاسية التي كانت تعيشها طاجيكستان وهي من بلاد آسيا الوسطى في ذلك الوقت لكي تتضح المعالم الرئيسية في شعر صدر الدين.
كانت الحياة الاجتماعية في طاجيكستان ـ التي كانت تتبع قديماً إمارة بخارى وأميرها كان تابعاً للقيصر الروسي ـ هي حياة الخضوع والعبودية التامة للنظام القيصري الروسي الذي فتح بلاد آسيا الوسطى، فكانت بلاد ما وراء بحر قزوين والتي بلغت عشق آباد ـ عاصمة جمهورية تركمانستان الحالية ـ هي في متناول مخالب النظام القيصري وكانت إمارة بخارى تحقق بحلفها الوثيق وخضوعها التام للنظام الروسي مصالحه فتوفر له الأيدي العاملة الرخيصة كما كان إنتاج القطن يتم في شروط مجحفة غاية في الاستغلال لفلاحي آسيا الوسطى وكان الأمير وحاشيته هم الوحيدون الذين يتمتعون ـ مع بعض الاقطاعيين هنا وهناك ـ  بخيرات الإمارة الواسعة, أما الشعب فكان يعيش في ظلام دامس من الفقر والجوع والعوز والاستغلال. 
في ضوء هذه الأوضاع المزرية كان لابد أن ينشأ فن شعري أو على وجه أدق مذهب شعري وأدبي جديد يعكس صوت الشعب ويجسد طموح الجماهير في التخلص من ذلك الوضع الظالم والمظلوم الذي كانت تعيشه بخارى وهي ـ الإمارة الواسعة التي كانت تشمل طاجيكستان وأجزاء من جمهورية أوزبكستان ـ وكان لابد أن ينشأ مثل هذا الفن التجديدي ليس في الشكل فقط، بل في المضمون أيضاً في مقابل تيارين: 
الأول: هو تيار الألوان والأبواق من الوصوليين الذين يقتاتون على موائد السلطة ويسرحون ويمرحون على آهات المظلومين والمعذبين ويمجّدون الظالمين مهما بلغوا من القسوة والوحشية. 
أمّا التيار الثاني: فهو الذي عكس صورة الشعب ولكن بصورة سلبية تشاؤمية إغراقاً في الحزن فكان نوعاً من الاستسلام للنظام القيصري والرضوخ تحت سطوته وجبروته وكان من إفرازات هذا التيار القصيدة التي انبثقت فنياً واجتماعياً في ظل ظروف قائمة آنذاك وكانت تعكس الحزن والأسى الذي كان يسكن أرواح الناس الكادحين منهم والمثقفين على حد سواء. تقول القصيدة:

آه لقد ثارَ الترابُ في الطريق
آه يا جنينتي العامرة بالخزامى
لقد ضربوني بالسوطِ بضراوة
آه يا جنينتي العامرة بالخزامى
ورموني على كفل حصان 
لقد سقطت في السبي ....
ليس في منطقة (أمين كار) ماء ......
كما ليس عند خادم (علم خان) شفقة
فاحتفظن بلعبي
آه يا جنينتي العامرة بالخزامى
واحكين لصديقاتي الأمر 
لقد سقطت في السبي ....
ولقد تركت قُلّتي على الحجر
آه يا جنينتي العامرة بالخزامى
وظل منديلي في التراب. 
فقد استاقوني سبية ...
إن هذه القصيدة هي صورة واضحة عن بشاعة النظام الإقطاعي فهي تحكي قصة طفلة أخذوها سبية وضربوها ومنعوا عنها الماء، فجلاوزة أمير بخارى لم يكونوا بشراً بل كانوا سلقاً يفرضون الضرائب ويجبونها بمنتهى القسوة ومن لم يستطع أداء الضريبة نقداً أو عيناً كانوا يصادرون بيته أو يأخذون أولاده أو بناته سبايا, فكان الفلاحون يهيمون على وجوههم تاركين المناطق التي لاقوا فيها الإهانة والسبي والسلب والنهب باحثين عن عمل في المدن فكانوا احتياطياً كبيراً للمعامل والمصانع التي كانت بيد السلطة. 
غير أن شريحة المثقفين والمفكرين تصدوا لهذا الوضع المزري ولم يخضعوا لبطش السلطة رغم تنكيلها ونزعوا عن الشعب إطار الاستسلام والخوف وانطلقوا به ثائرين أحراراً مطالبين بتحقيق العدالة فظهر في طاجيكستان وأوزبكستان وأذربيجان وكازخستان وتاتاريا وغيرها من بلاد آسيا الوسطى مفكّرون أحرار ومثقفون ثوار وظّفوا أعمالهم الإبداعية والأدبية والفكرية في النضال ضد القيصرية والاقطاعية, من هؤلاء أحمد دانش، وميرزا آخوندوف، وفرقات، وأباي، وعبد الله طوقاي, وفي طليعة هؤلاء كان الشاعر صدر الدين عيني الذي كان خير مثال لهذا النهوض بوجه الاستعباد. 
عبّر هذا الشاعر من خلال التحامه الوثيق بشعبه ثم مشاركته الفعلية في النضال من أجل استقلاله عن تجسيد مطامح الإنسان المضطهد ليس في طاجيكستان وحدها بل في كل البلاد الواقعة تحت نير العبودية، فكان الطريق الشعري والحياتي الذي سلكه صدر الدين عيني هو المعبّر عن جوهر الروح الإنسانية المشتركة وعن تعاليم الدين الاسلامي الحنيف في العمل والجهاد من أجل الحرية والاستقلال.

من هو عيني
ولد صدر الدين سعيد مراد زاده عيني في قرية (سوقطاري) ــ من توابع مدينة بخارى في أوزبكستان ــ عام 1878م وهناك عاش عشرة أعوام بين فلاحين من مختلف القوميات، طاجيك، وأوزبك، وعرب، وفرس مهجرين من مشهد, وتعرّف عيني على لغات السكان الذين أثّروا على والده سعيد مراد خوجة تأثيراً كبيراً من خلال معايشته لهم والاطلاع على معناتهم وآلامهم. 
كما أثر سعيد في ابنه فحبَّب إليه الشعر، وكان يحرص على أن يحفظ ابنه نصوص الشعر عن ظهر قلب، بل كان يمارس النظم أحياناً ومرة سأله ابنه (صدر الدين) عن السر في فن الشعر ونعته بالشاعر فأجابه :(لا تسمني يا بني شاعراً فالإنسان الذي وفِّقَ إلى نظم بيت أو بيتين لا يصبح شاعراً، إن كلمة شاعر تنحدر من الشعور ومع ذلك فهذا لا يكفي لكي يكون المرء شاعراً حقيقياً، فالشاعر مُلزم مثل إيسو، وصائب، وبديل، وحافظ, إن يعرف الحياة كما يستطيع الإجابة بأشعار رائعة عن كل تحدِّياتها ومظاهرها). وكان هذا هو الدرس الأول لعيني في مدرسة الشعر. 
في عام 1890م اشتدت حالة البؤس والفقر بعائلته فسافر هو واخوه (محي الدين) إلى بخارى ولم يدخل شاعرنا المدرسة (لا في القرية ولا في المدينة) فالمدرسة كانت تسير وفق نسق ظالم ومظلم حرمت فيه العلوم العصرية إضافة إلى ذلك فإن شاعرنا يجب عليه أن يعمل ليوفّر المال له ولعائلته وليس هناك وقتاً للمدرسة فكانت هذه هي الشرارة التي اشعلت في نفسه الثورة مبكراً.
دخل اسم صدر الدين عيني عالم الأدب عام 1895م بأسماء (مُهان)، (مُحتاج)، (تعيس)، (معذب)، وهذه الأسماء المستعارة كانت ناطقة بواقعة وواقع شعب طاجيكستان وأوزبكستان بل وعموم شعوب آسيا الوسطى آنذاك، وكان شعر (عيني) حزيناً لكنه كان حاداً لا يخلو من نغمات السخط والهجاء وألحان الثقة بالمستقبل الزاهر:

تدعو الحبيبة إليها الثري والمتنفذ
ولكن لو امتلك
عيني الفقير الذهب
فماذا سيكون ؟
وكان لثورة 1905م الأثر الكبير على شعر وتطور أفكار عيني، فالفترة من 1905م / 1917م هي الفترة التي حدّد فيها عيني موقفه ومكانته في الأدب والحياة، فقد كان يؤمن أن شعباً جاهلاً لن يقدّر قيمة الحرية، ولذلك لابد من الثقافة والتنوير قبل كل شيء وتأكد هذا لديه بعد فشل ثورة 1905م وهكذا هبّ مع أصدقائه ليؤسّس عام 1909م جمعية سرية باسم (تربية الأطفال), وبصعوبة كبيرة أنشأ مدرسة أهلية عصرية كان يكتب لتلامذتها الأشعار والقصائد ويسهم في التدريس فيها وكان تأسيس هذه المدرسة عملاً كبيراً أقضّ مضاجع أمير بخارى وجلاوزته, ذلك أن التربية فيها كانت إنسانية وكانت الدراسة تقوم على أساس الأخوة واحترام الآخرين. 
ولم يقف نضال عيني من أجل شعبه على تأسيس هذه المدرسة بل انخرط في النضال الفعلي، فحين اشتد الاستغلال الاقطاعي والسلطوي في آسيا الوسطى أخذ الفلاحون الفقراء يبيعون ما عندهم من أراضٍ من أجل تسديد الديون المتراكمة ولم يكن للشاعر إلّا أن يثور ناصحاً الفلاحين أن لا يفعلوا هذا:

اسمع أيها الصديق, 
يا سند حياتي
يا فرحة روحي ـ يا ضعفي
أود أن أقول لك كلمة حكيمة:
لاتبع أرضك
لاتبعها .... انها الأم الرؤوم
لتكن قاحلة .. سوداء .. لكنها عابقة بالأوج كالمسك
لاتبعها ... ابداً .. لاتبعها
أدرك أمير بخارى خطورة الأعمال التي يقوم بها (عيني) وتأثيرها في الناس فحاول استمالته إلى جانيه بالأموال, وفعلاً فقد أرسل إليه الرسل يدعوه إلى بلاطه, لكن شاعرنا رفض رفضاً قاطعاً وأصر على الرفض وهدّد الرسل بحرق كتبه ومؤلفاته، فقال أمير بخارى في محاولة يائسة منه للتقليل من شان عيني : 
إن هذا الشاعر لا يليق ببلاطنا، لقد كان قول أمير بخارى في منتهى الحقيقة إن (عيني) لم يكن شاعراً بلاطياً فقد كان أجل وأكرم من أن يكون كذلك.
واستمر نضال عيني فكان في طليعة الدعاة إلى الوحدة والأخوة ضد الطائفية التي كانت تفتعلها القيصرية الروسية وأذنابها، فكان يقاومها محاولاً توعية الشعب بجوهرها وأسبابها فأصبح عيني في خطوط النار الأولى في الجبهة ضد القيصرية فاغلقوا مدرسته وصاروا يطاردونه في كل مكان, وحينما انطلقت الانتفاضة الكبرى في عامي 1915م ـ 1916م كان في طليعة ثوّارها وكذلك في ثورة 1917م التي عمّت آسيا الوسطى ضد النظام القيصري الذي كان لشاعرنا بالمرصاد فقد اختطفه الجلاوزة من بيته وضربوه وعذّبوه ثم زجّوا به في السجن ولم ينقذه من الموت إلاّ زحف الثورة إلى بخارى. 
وكانت أشعار عيني في تلك الفترة تعكس تحوّله الثوري متخذاً من التطورات الجديدة وسيلة للتعبير الشعري مؤكداً بشكل أساس على وحدة الذات والموضوع :

آه يا وطني صعبٌ عليَّ فراقك
لو استطعت لمنحتك حياتي المتواضعة هذه
ترى .... أيمكنني الصبر
حين تقتل الغربان رعشان البلابل؟

وفي مرحلة النضوج الأدبي لشاعرنا ظهرت في شعره أنغام فلكلورية بقيت أصداؤها في أرجاء البلاد:

إن فجر الغد قريب
فاستعد بأسك يا شعب الشرق
ولكن ترى أيغفو شعب الشرق
أمام الفجر؟
إن وضع العبد
لم يعد لبوساً أبدياً لشعب الشرق
فإما النضال بشرف
وإما الموت باستحقاق

توفي صدر الدين عيني عام 1954م عن عمر يناهز السادسة والسبعين كان فيه مثالاً رائعاً لشاعر عاش كل مراحل الجديد والتجديد في شعبه وأمته. 
لقد غنى صدر الدين للحياة والشعب والحرية والربيع والأخوة مواصلاً النضال في مختلف مراحله ومستوياته وبكثير من وسائله ملاحماً بين الفكر والحياة بين الشعر والشعب والقلب والعقل مفيداً من التراث مطوّراً إيّاه على نحو خلّاق، ومع أنه ابن طاجيكستان إلّا أن كتابته الشعر باللغتين الطاجيكية والأوزبكية يمنح الشعبين معاً حق التمجّد به فرغم فداحة التضحيات التي دفعها في حياته باسم الحرية والكرامة الإنسانية إلا أن آثاره كانت عميقة في فكر ونضال شعبه وشعوب آسيا الوسطى.

محمد طاهر الصفار

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م