10 شوال 1445 هـ   19 نيسان 2024 مـ 8:00 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أفكار ونظريات |  أئمة أهل البيت والتأسيس لمرجعية الفقهاء العدول
2021-11-17   1323

أئمة أهل البيت والتأسيس لمرجعية الفقهاء العدول

ما زال أئمة أهل البيت يشتغلون على ملئ الوعاء الإنساني بالمعرفة الحقة، ويمنعون من يُسّطح وعيهم، سيما أولئك الذين يحترفون حرفة الدين، ويسترزقون من دين الناس قبل دنياهم.
وأكثر من عمّق فكرة ملئ الوعاء الإنساني بالمعلومة الدينية الحقة، بل وأسس لها، هو الإمام جعفر الصادق عليه الصلاة والسلام ومن ثم الإمام الهادي عليه الصلاة والسلام ومن ثم الإمام العسكري عليه الصلاة والسلام، حيث أسسوا القواعد العلمية في إرجاع الأمة لمن يمكن أن يتحمل مسؤوليتها، وأعني بذلك؛ الفقهاء، كونهم حفظة الدين وحماة الشريعة.
ويمكن أن نطلق على اشتغالات هؤلاء الأئمة عليهم الصلاة والسلام ـ مع ملاحظة من عاصروهم حكام الجور وطغاة الدهور ـ بأنها تأسيسات للمرجعية العادلة أو ما يصطلح عليه بمرجعية الفقهاء العدول، قبالة ما كان سائدا من فقه سلطوي وفقهاء بلاط.
وفي دوامة الجهل المجتمعي الذي أسست له سلطات الجور، وبلحاظ فقر الوعي المجتمعي، من جهة، والتعمية التي طغت على الأبصار والعقول بسبب الخوف مرة والجوع في مرة أخرى، في مرة ثانية، برزت المدرسة الإمامية؛ التي تتلمذ عليها فقهاء، كان الورع سمتهم، والحلم صفتهم، والعلم والعمل ديندنهم، ومحاربة الجور ضالتهم، والعدل لازمنهم الأبدية، حتى صار للناس وعيهم الحاذق في تسمية هذا الفقيه الوازن دون ذاك الإمعة، وذاك الورع دون هذا المحابي، وهي صفات نوعية وجوهرية، لا يمكن ان يدعيها مدع، أو يتصنعها متصنع، لأصالتها في النفس والسلوك، فترى الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام يوصي بذلك من خلال حديثه الشريف: "انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما بحكم الله استخف، وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله عز وجل"، وهي قواعد عظيمة أرسى بها عليه الصلاة والسلام لبنات الوعي المجتمعي، بتأكيده على مريديه ومناصريه والمؤمنين بخطه العصموي؛ بضرورة التمحيص والفحص قبل القبول، وهو ما تؤكده مفردة "أنظروا" المتضمنة الزامات أدبية ملحة، ومن ثم يؤكد عليه الصلاة والسلام على ضرورة أن يكون هذا الفقيه من الناس، بدلالة عبارة "منكم" وهي عبارة ذكية وعميقة، مفادها أن يكون هذا الذي توكلون له أمور دينكم، منكم، وليس من حاشية السلطان مع ضرورة أن يكون ممن يروي حديثنا وليس غيره مما أُلحق بدين محمد صلوات الله تعالى عليه وآله وهو منه براء، بل وممن انتهج منهج أهل البيت عليهم الصلاة والسلام في تبيان الحلال من الحرام،؛ لأنه قطعا سيكون الحكم العدل والفقيه الحق، لأنه يحكم بحكم الله.
من جهته، لم يغفل الإمام الهادي عليه الصلاة والسلام ـ وهو يعيش أيامه بحكومة أعتى الطغاة والجبابرة العباسيين، لم يغفل تسمية ذلك وتنبيه الناس الى أن الدين لا يؤخذ إلا بعد بحث وتحري شديدين، فتراه عليه الصلاة والسلام يؤكد ذلك بقوله الشريف: "لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا  من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل".
إذ يؤكد عليه الصلاة والسلام بأن هؤلاء الفقهاء العدول هم من يمسكون قلوب المؤمنين الضعفاء من زلل الشيطان كما يمسك السفينة سكانها (مقوها)، لأنهم هم الذابين عن دين الله والدالين عليه. 
إما إمامنا الحسن العسكري عليه الصلاة والسلام، فقد كان يوجه أنصاره وشيعته الى مراجعة الفقيه الجامعة للشرائط، ـ وهي شرائط وشروط لا يمكن انتحالها دون وجه حق ـ حيث ورد عنه صلوات الله تعالى عليه قوله الشريف: "من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه".
والحديث العسكري الشريف هذا، ليس مجرد نصيحة او توصية؛ إنما فيه من العمق ما فيه، فهو من جهة يشُّد المؤمنين له ويلزمهم بتوخي أمور دينهم، ومن قبل ذلك أمور دنياهم، كما أنه يسمي الفقيه بعينه، ولا نقصد بذلك أسمه، إنما صفته الاعتبارية، فمن صفات الفقيه الذي يمكن أن يرجع له عامة الناس؛ حفظا لدينهم وعلاقتهم ببارئيهم سبحانه، هي:
ـ صيانة النفس.
ـ حفظ الدين.
ـ مخالفة الهوى.
ـ إطاعة أمر الله تعالى.
وهي ـ كما ترون ـ صفات حقة، لا يمكن أن يفوز بها إلا من كان له مع الله علقة حقيقة.
وعن موقف الإمام العسكري عليه الصلاة والسلام، فمرده التمهيد لأسباب النجاة التي ستخلص الأمة بعد التيه الذي سيضربها بُعيد انتهاء السفارة الخاصة أو ما تسمى تأريخيا بالغيبة الصغرى لإمامنا الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وما يمكن أن يدعيه من ليس له الحق، فجاء الإمام العسكرية عليه الصلاة والسلام بحجته على الناس في استبيان من يحق لهم اتباعه وأخذ دينهم منه، وهو ما يطلق عليه بالاجتهاد، باعتبار هؤلاء الفقهاء سفراء غير مباشرين، لمعصوم ورأيهم من رأيه عليه الصلاة والسلام، لأن الاجتهاد هو الطريق الحصري الوحيد الذي يسوغ للفرد استنطاق الموقف الفقهي حيال الابتلاء محل الحاجة للفتيا، ولا يكون الفرد مجتهدا ما لم يمر بدورة حياة الفقيه، وهي دور صعبة ومجهدة، لأن الاجتهاد استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم الشرعي، وبذل الجهد الكافي بغية إدراك الحكم الشرعي حيال الابتلاء، وعليه فالعالم المجتهد هو الأدرى بالحكم الشرعي ومن خلال ذلك فهو الأجدر بالإتباع وقبول قوله برضا وطمأنينة.
وتكمن أهمية الاجتهاد ضرورته في كونه الحل الأمثل لمسايرة التطور الحياتي، وقبول سعة الحياة وتعقدها بعد شرعنة مستحدثاتها وما يستجد فيها من تعاملات سيما تلك التي تلامس الواقع، ولا يكن إرجاع الفيتا فيها لسالف الأزمنة وغابرها، وهو ما يصلح  عليه بفقه المستحدثات او الحوادث الواقعة، وهي في حالة تنامي وتعقد كلما تطورت أساليب العيش وتقدمت سبل الحياة.

وتنبع أهمية وجود المجتهد المطلق من قدرته على الإجابة على أسئلة العصر، والإبداع في معالجة القضايا الجديدة، وليس فقط ممارسة الاجتهاد في المسائل العبادية للفرد المسلم. إذ أن المطلوب من المجتهد في كل عصر هو معالجة قضايا عصره، والإجابة على أسئلة زمانه، وعدم الاقتصار على ما سبق للفقهاء المتقدمين أن أجابوا عليه؛ وإلا فإن الاجتهاد يفقد حيويته وقدرته على مواكبة المتغيرات الزمانية والمكانية، إذ لا يمكن للتراث الفقهي أن يساير جدة الحياة وتنوعها ما لم يكن من خلال فقيه يستوعب هذه الجدة ويقبل هذا التطور ويسبر غوره بعد استنطاق الصول والقواعد العامة الحاكمة في ذلك ومنها اساليب استنباط الحكم الشرعي وعرض الإبلاء عليها بتجرد وموضوعية، لأن الجمود والانغلاق على الفقه القديم قد يميت الحياة ويعطل عجلتها وربما يمن مسايرتها وهو ما لا يقبله منطق ولا يتقبله عاقل، لأن التطور سنة الحياة.  

 

العلوية فاطمة الجابري

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م