| مقالات في القرآن الكريم | المواكبة وروح المعاصرة في القرآن الكريم
المواكبة وروح المعاصرة في القرآن الكريم
يتسم القرآن الكريم بروح التجدد
والمعاصرة، من خلال قدرته على المواكبة والمزامنة مع حركة الحياة
وتعقيداتها وتطوراتها الحتمية، بل يتسم بفاعليته على إخضاع هذه
التطورات لسننه ومجاراة الفاعلية الزماكانية، واستجابته لشرائط
التحولات الحياتية بل والكونية، بما في ذلك ما يُخّلقه المجموع
البشري، السلبي منهم والإيجابي، فضلا عن سعته ـ القرآن الكريم ـ
على احتواء السنن الكونية والتاريخية، ليس لأنه كتاب شمولي وحسب،
بل لأنه من لدن الخالق الأوحد والعالم بما كان وما سيكون، علام
الغيب.
وقد عبر الله جل شأن عن هذه
المواكبة والمزامنة لكتابه الشريف في نفس الكتاب وفي موارد عدة،
منها قوله عز وجل: ((..... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ
لِلْمُسْلِمِينَ))(سورة النحل ـ 89) وقوله تعالى: ((.... مَّا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ))(سورة الأنعام ـ 38) .
وبالتالي فأن هذا الكتاب تبيان
لكل شيء، يحيط بما كان وسيكون، وله من مداليل السعة والاستيعاب ما
لا يفقهه بشر، ولا تدركه حاسة، وهو ما يجعله متسقا مع حاجات البشر
أينما كانوا ومتى وأين وجدوا وتواجدوا، يبين الأشياء للناس،
المؤمن به منهم والجاحد له والكافر به، يحكم فيما بينهم؛ ويفيض
عليهم بالعلم والمعرفة دونما انقطاع او تلكؤ، يشرق بنوره على البر
منهم والفاجر، يستفيده الجميع دونما تمييز، لأنه من
خالقهم.
كما تكمن روح المواكبة والمعاصرة
القرآنية للحياة ـ كل حياة ـ من خلال ظروف نزول آياته، وتوافقها
على مر سنوات تنزيله على صدر النبي الأكرم صلوات الله تعالى عليه
وآله، فضلا عن تنوع معالجاته، واستغراقه لها على اختلافها، ففي
الوقت الي يعالج فيه قضية فقهية فيها ما فيها من تبيان للحلال
والحرام، تجده يقدم القصة ومن خلالها العظة والعبرة، كما تجده في
مورد أخر يصف ما كان في غابر الأزمنة، بل وما ستؤول إليه الحوادث،
تجده في مورد أخر يفلسف الحركة الكوني، ويكشف ما لا يستطيعه العقل
بدونه، بل ويرسم خرائطه البينات التي تشي بمخرجات الأشياء بناء
على مقدماتها؛ سيما في تبيان سننه وحتمياته، التاريخية والعلمية،
الثقافية والاجتماعية، السياسية والاقتصادية، فضلا عن الدينية
والتشريعية، قدر تعلم الأمر بالفرد، أو بالمجتمع.
ووفقا لكل ذلك، فأن هذا الكتاب
الإعجازي، كتاب عمل وسلوك، كتاب هدى ورحمة، وليس كتابا سرديا أو
قصصيا ولا كتاب مماراة ومباراة وجدلية بين العرب في لغتهم، وأن
تحداهم بفصاحته، إلا أنه اشمل من ان يكون كذلك، لأنه كتاب للأولين
والأخرين، كتاب للواقع وللحياة، بل وللممات، كتاب يُعّبد لما بعد
الحياة من خلالها، وهو ما يجعله حركيا وفاعليا على مر حياة الفرد
وأمته، لا ينفك عنهما ولا يترك غيره لمعالجتهما، وهو بذلك
وكيلا.
كما يتسم هذا الكتاب الكريم بكونه
كتابا واقعيا، يشتغل على الحياة وتفاعلاتها، بخلاف ما سبقه من كتب
صُيرت كتبا روحيا وربما فسلفية أكثر من كونها عملية، وهو ما
يجعلها لا تتسق مع تعقيدات الحياة، ويمكنها من مجاراة التغيرات
الجيلية من الواحي الفكرية والاجتماعية، فضلا عن عدم مجاراته
لعامة الناس إن كانت فيه المسحة الفلسفية التي تتسق وذائقة النخبة
كما هو في كتب الفلسفة الإغريقية واليونانية والبوذية والهندوسية
المفتقرة لروح المواكبة بابتعادها عن الواقعية وتعطيلها للواقع
وأعمالها للخيال وربما الفانتازيا والماورائية اللا
معقولة.
وعلى الرغم من تعامل القرآن
الكريم بشكل مطلق مع النزعة الإنسانية، كونه موجها للإنسان، إلا
أنه لم يغفل عن جره لمستويات فكرية خيالية بل وقد تبدو ما ورائية
وغير حسية، والحديث هذا في القرون الأولى لنزوله، كحديثه عن عوالم
اخرى، كواكب ومجرات، افلاك واجرام، برازخ وحيوات، ومع ذلك فقد
اثبتت سنة التطور الفعالياتي للحياة أن تطرق القرآن لهذه العوالم،
لم يكن ماورائيا، بل كان متسقا مع الواقع ومندكا في الحقيقة
الحسية، إنما ظروف من نزل بينهم كانت سببا في عدم استيعابهم لما
يحمله القرآن الكريم، وكأن الأمر فيه جنبة تجريبية لهذا الكتاب
المعجز قرآن بينهم، إذ اثبتت الايام أنه ـ القرآن الكريم ـ كتاب
يواكب الحياة، متحضر بتحضرها ومتقدم بتقدمها، باستيعابه لما كان
سائدا من معارف، وهو أسلوب إلهي خاص يجر العامة فيه للترقي الفكري
والبحث والتحري، وهو ما كان، على الأقل من قبل المؤمنين
به.
فاطمة الناظم