9 شوال 1445 هـ   18 نيسان 2024 مـ 11:01 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أفكار ونظريات |  نظرة جوانية فاحصة في الإعجاز والمعجز
2021-11-19   1287

نظرة جوانية فاحصة في الإعجاز والمعجز

تُعرف المعجزة على أنها الإتيان بعمل خارق للعادة وخارج عن المألوف، كسرا لقانون من القوانين الطبيعية، على اعتبار أن الحياة تُحرك وتتحرك وفقا لقانون العلية (علة ومعلول)، أي أن ثمة مقدمة للفعل (سبب) ستؤدي حتما للنتيجة، إلا أن ذلك لا يكون ضروريا بالنسبة المعجزة، إذ انها تغير القانوني الطبيعي بنتيجة غير متوقعة.
ويرى الماديون من العلماء أن لا وجود لشيء إعجازي، بل وينكرون أصل كل ما يسمى معجزة، ويستحيلون ذلك البتة، استنادا لما توصلوا اليه من حكومة مادية فيزيائية تحكم الأشياء، وحسب ظنهم أن كل الظواهر الطبيعية إنما هي محكومة بمسلسل من العلل، وأن لكل حركة او تبدل منها؛ علة حاكمة، بل ولا بد أن تكون هذه العلة من نفس قماشة العلة والعلول، أي أن السنخية تحكم العلة ومعلولها، وليس من استثناء على ذلك مطلقا، بل أنهم يصرون على استحالة أن يوجد موجود (معلول) دون علة مباشرة، وبذلك فأنهم ينسفون الكثير من المعاجز التي شهدتها البشرية سيما تلك التي تعتبر عكس نواميس الطبيعة كتحول العصا الى ثعبان، انشقاق البحر وابراء الاکمه والأبرص واحياء الموتى وفلق القمر والمعراج الى السماء وما الى ذلك من معاجز حدثت وتواتر الحديث عنها بعد مشاهتها والتيقن بحدوثها.
وفي مورد الرد على الاستحالة العقلية التي حكم بها هؤلاء على تحقق الخرق والإعجاز، لا بد لنا من أن نسلط الضوء على جملة قضايا، منها:
ـ لم يقل أحد أن الإعجاز منافيا للعقل، ولا مجافيا لقوانين العلية، فبعد تفسير هذه الظاهرة الإعجازية أو تلك، سنجد أنها تنطبق وقوانين العلية هذه، ولكن بشكل ليس بالضرورة أن يكون متسلسلا، أي أن للمعجزة علة خاصة بها، وقد مد الله جل شأنه صاحبها بعلة ما، وأن اختلفت هذه العلة عما يعتقدوه هؤلاء، لأن علّة الإعجاز هذه قد تختلف عن غيرها، ومرد ذلك هو وجود علل أخرى غير الظاهرة التي يحتكم لها أهل المادة والطبيعة، فثمة علل غير ما يراه هؤلاء، وربما جهلها العقل العادي لضعفه او لقلة ادراكه او للتسطيح الذي تعوده في فهم الأشياء، والدليل على وجود ما لا يستوعه العقل العادي، هو ما يثبته علماء النفس من وجود مستويات طاقة خاصة للبعض بل وطاقات وقابليات قد ينفرد بها واحد من كل العالم، وهي من القابليات مدهشة وتدعو للأنكار! لصعوبة تصديقها، فضلا عن أن ضعف القدرة البشرية ومحدوديتها هو ما يمنع من استيعاب التصورات الوافية عن الأشياء الخارجية، كانعدام تصور فقدان النار لخاصية الإحراق، أو انعدام مصدرية الشمس للضوء، او خروجها من المغرب المعتاد، إلا أن رياضة بعض الأنفس وسعة افقها يمكن لها أن تتصور ذلك بل وما يمكن أن يصيره كذلك، كتلك القوى التي يتحصل عليها اصحاب اليوغا مثلا، في حين أن مقصدنا هنا تلك الرياضات التي يتحصل عليها العارفون بالله سبحانه وتعالى حق معرفته ممن يمكن لهم مشاهدة ما لا يراه غيرهم كالاتصال بعالم الغيب، وتحصيل بعض القابليات التي يمكنهم وفقا لها تغيير القوانين الطبيعية وقطع متسلسلتها بحاجز أخر يقطع سلسلة العلية، ويحول العصا الى ثعبان، أو يحيى الموتى؛ ومن ثم يعيد الوضع الى سابقه بقدرة الله ومشيئته بعد ان يهبها الصورة التي يريد ويسلخ عنها الصورة التي يريد.
ـ أما ما يخص تحقق المعجز، فينحصر بواحد من طريقين اثنين، وكما يأتي:
ـ أما أن يكون من خلال الوضع الطبيعي بمرور هذه الاشياء ـ عبر قانون العلية ـ بسلسلة العلل والتحولات الطبيعية المألوفة للبشر ويكون ذلك وفقا لزمنها الأصلي.
ـ أو ان يكون عن طريق التدخل الإلهي المباشر ـ أو ما يسمى بالفيض الإلهي ـ الذي يكسر التسلسل الضروري للتحول من الطبيعي الى ما وراء الطبيعي؛ خرقا لناموس الزمن  بعد اختزاله بلحظة او برهة.

ما يعني أن لكلا الطريقين قوانينه ومتسلسلة علله، إلا أن الثاني يختزل الزمن تأييدا من الله لنبيه او وصيه، في حيني ان الثاني يبقى يسير وفقا لناموس الحركة الزمانية العادية.
وقد تساءل أحدهم، هل ان قانون الأعجاز ينصرف لكل شخص أم ثمة لوازم يستلزمها ذلك بحيث يكون حصريا ببعضهم دون الآخر؟ والجواب هو أن ثمة لوازم يستلزمها ذلك وهو ما يجعل الإعجاز خاصة بشخص دون غيره، ولا يمكن ان يأتي الزمن بمثلهم، كالأنبياء والأوصياء وما الى ذلك، ولا يكون إلا من خلال الله جل شأنه، كنوع من التأييد لهؤلاء الأنبياء وتصديقا لدعواهم، كما يثبت ذلك القرآن الكريم على لسان نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام في قوله تعالي: (( ... أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ... ))(سورة آل عمران ـ 49)، وقوله عز وجل في مورد اخر مخاطبا نبيه عيسى المسيح عليه الصلاة والسلام: (( ... وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِي ... ))(سورة المائدة ـ 110)، وقوله تعالى على لسان نبيه موسى عليه الصلاة والسلام: ((قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ(108))(سورة الأعراف ـ 106 ـ 108).
وكل ذلك يجري بعين الله ومشيئته، فما كان لهذا النبي او ذاك الوصي أن يفعل ذلك بمعزل عن إرادة الله سبحانه: (( ..... وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ))(سورة غافر ـ 78).
وعليه فإن الإعجاز لا يمكن أن يكون لولا تدخل الله جل شأنه وبأذنه، كاستحقاق لهذا النبي او ذاك، لأنه هذا الإعجاز وتلك المعجزة ما هي إلا طلب نبي أو وصي أو صالح؛ يستمد التحقق من الفيض الرباني، حيث تأتي في سياق الآيات والبراهين تصديقا له بعد أن كان محلا التشكيك.

فاطمة الناظم

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م