| أفكار ونظريات | العلاقة بين الدِّين والعلم... تعارض أم لا ؟
2021-11-20 1003
العلاقة بين الدِّين والعلم... تعارض أم لا ؟
كانت البشرية، وكان معها الدِّين
والعلم قرينان لم يفارقا الإنسان مذ وطأت قدماه الأرض، فالدين الذي
بدأت تعاليمه السماوية تتنزّل على أول الأنبياء آدم عليه السلام سعت
لإرشاد هذا الكائن نحو طريق الهداية والفضيلة وتحذيره من الانحراف
نحو الرذيلة، وأما عن العلم - والذي هو صنيعة العقل البشري ونتاجه -
فإن العقل البشري لم ينتظر كثيرا حتى شرع في النشاط والفعل، فاكتشف
النار وطوّعها لغرض التدفئة والشوي والإنارة، وانتقى من الأحجار
صلبها ومن باطن الأرض معدنها ليصنع منها أسلحة يصطاد بها ويدفع بها
عنه المخاطر.
ولأن هذا العقل البشري لا يتوقّف عن التفكير والتكيّف والتأقلم وتطويع التحديات فإن حركته التطوّرية وصلت به إلى مرحلة يرى معها أنه الحلّ الأوحد والملجأ الأعظم للبشرية، فظهرت إثر ذلك قصة لا زالت تنام وتصحو البشرية على أنغامها، وهي إشكالية العلاقة بين الدين والعلم.
ولعل أولى ارهاصات هذه الإشكالية ظهرت في أوائل القرن التاسع للميلاد، حينما غزت الفلسفة اليونانية العالم الإسلامي أيام الخليفة العباسي المأمون، واستمر الجدل حول هذه الإشكالية حتى يومنا هذا، لكن الملاحَظ أن وتيرته شديدة في المحافل العلمية الغربية دون الشرقية، نظرا لما تتمتع به الأولى من رقيّ وتصاعد في العلوم الطبيعية والتجريبية، فتبرز هذه الإشكالية بجدّية عند الغربيين، بينما تبهت عند المشرقيين نظرا لافتقارهم العلمي و التكنولوجي، فلا يلاحَظ تعارض جدّي بين الدين والعلم التجريبي.
والباحث في أقوال من فصّلوا في علاقة الدين بالعلم، يجد ثلاث فرضيات يمكن تصوّرها لتلك العلاقة، وهي:
- فرضية التَّكامل بين الدين والعلم.
- فرضية التغاير بين الدين والعلم.
- ثم فرضية التعارض.
ومن هنا يمكن للقائلين بالتَّعارض بين الدِّين والعلم، أن يحصروا ذلك في عدة مستويات: كالتَّعارض بين التَّعابير الدِّينية مع الأخرى العلمية، أو بين المفروضات والمقبولات الدينية مع المفروضات والمقبولات العلمية، أو بين الرؤية الكونية الدينية مع الرؤية الكونية العلمية، اللتين وإن اتفقتا في مراحل ما، إلا إنهما تتعارضان بشدة نتيجةً وخلاصةً .
ولمناقشة هذه الإشكالية بشكل أجود ، يجب بداية تحديد محل النزاع ثم الخوض فيها وكشف حقيقتها، ولعل ذكر ماهيتي الدِّين والعلم أمر جوهري في تحديد محل النزاع، ذلك أن منشأ كثير من النقاشات حول علاقة الدين بالعلم، هو الوقوع في ورطة الإيهام والإبهام التي تحصل نتيجة الخلط بين المصاديق الحقيقية لبعض المفاهيم، وأخرى غير المندرجة تحت تلك المفاهيم.
فالدين عند الاجتماعيين الغربيين هو مجموعة ضوابط وقوانين تحكم مجتمعا بشريا ما، ويغلب عليها كثيرا الطابع البشري لا الإلهي، وأما عند النفسيين فهو حالة نفسية وحاجة بشرية يشعر الجميع بضرورتها، وهذه الحالة متمحورة حول الإحساس والشعور الذاتي والتجربة الشخصية، وعند فلاسفة الأخلاق فهو شعور أخلاقي بضرورة فعل الواجبات وترك المحظورات الإلهية، وأما عند المتدينين الغرب فكل التَّعاريف ناظرة إلى الدين من ناحية دينية بحتة، دالة على إيمان مسبق بالدين والإله ومتمحورة حول مفاهيم الإيمان والقوة الخارقة القاهرة (الآلهة).
وعند الطبيعيين فهو مجموعة النواهي والأوامر المانعة لفعلية استعداداتنا، ولعل بعضهم ذهب بعيدا ليقول بأن الدين مجموعة من المطالب التي لا تنسجم مع العقل والمنطق وأنه إيمان بقضايا يأبى العلم قبولها.
وأما تعريف الدين عند المسلمين فإن تنوع التعاريف وتعددها يجعل من الوقوف على تعريف حقيقي للدين أمرا مستعصيا، فالدين ليس مفهوما ماهويا بل انتزاعيا يصعب حصره في تعريف مانع جامع، وحتى ننأى بأنفسنا عن مأزق التعريف والحدود والإطناب فلنختر من التعاريف تعريفا تقريبيا وهو أن المقصود من الدين مجموعة القضايا الموجودة في القرآن الكريم والسنة الثابتة عن المعصومين عليهم السلام.
وأما عن مصطلح العلم، فالحديث في تعريفه وتشعّبه يطول كثيرا، ولذا خيّرنا استعراض ما يستوجبه مقامنا من تعريفات ونكات مهمة، فالعلم بمعناه الأعم هو المعرفة المطلقة في مقابل الجهل ويقابل هذا المصطلح في اللغة الإنجليزية ( knowledge )، وبمعناه الأخص هو المعرفة المستندة إلى التجربة الحسية المباشرة، فتخرج كل من علوم التاريخ، الفقه.....إلخ، تخرج من دائرة هذا التعريف الأخص لعدم خضوعها للتجربة الحسية، ويقابله في اللغة الإنجليزية (science) أو (experimental science)، وما يهمنا هنا هو ما يقصده الماديون والقائلون بالتعارض بين الدين والعلم من وراء مفهوم العلم، وبتتبّع آراء برتراند راسل والاستاذ وندل نجد أنهما يعتبران العلم التجريبي العلم الحقيقي وكل ما لم يأت عن طريق التجربة يبقى في دائرة المبهمات والمجهول.
ويتّضح مما ذُكر آنفا، أن تعاريف الطبيعيين الملحدين للدين مبنيّة على أحكام ذهنية مسبقة ومفروضات نظرية سابقة، بل إن تبنّيهم المسبق لفرضية التعارض بين العلم والدين ثم وضعهم للتعاريف انطلاقا من هذا التسليم المسبق، حقيقة لا غبار عليها.
وعليه، فما يمكن أن نستخلصه هو أنَّ القائلين بالتعارض بين الدين والعلم، يرون بأن الصراع بينهما لم يكن بسبب الاكتشافات العلمية التي عارضت معتقدات دينية معينة -فذلك تفسير سطحي للصراع القديم بين الدين والعلم- وإنما حقيقة الصراع أكثر عمق مما نتصوّر، ولعل ما ذكره «وولتر ستيس» في كتابه «الدين والعقل الحديث» خير دليل على ذلك، فالتعارض إذن بين مباني ومفروضات فلسفية ومعرفية نتج عنها تعارض في المعتقدات والأفكار، لأنَّ المباني الفلسفية والمعرفية الناتجة عن ترجيح الدين على العلم ليست كالمباني الفلسفية والمعرفية الناتجة عن ترجيح العلم عن الدين.
لذلك نلحظ أنَّ ترجيح الماديين والملحدين للعلم على الدين راجع للاعتقاد السائد بضرورة كذب إحدى النظريتين، حينما تتعارض نظرية دينية وأخرى علمية، فإن صدق نظرية علمية ما يعني كذب النظرية الدينية بالضرورة، ذلك أن جلّ الفلاسفة والعلماء الغربيين اعتقدوا بأن وظيفة كل من الدين والعلم تبيين الظواهر وتوصيفها وهذا ما جعل من المعرفتين الدينية والعلمية متقابلتين ضرورة، خاصة وأنهم اعتقدوا أيضا بوحدة موضوعات وغايات الدين والعلم، وهذا ما جعل العلاقة بينهما موغلة في التعارض، غير أنه تعارض وهمي لا أساس له من الصحة.
فالخلاصة أنَّ التعارض- في حقيقة الأمر- يعود لفهم خاطئ لدى التجريبيين للطبيعة وقوانينها الممتدة، ولدى بعض المتدينين للدين، أما حقيقة الطبيعة وجوهر الدين فلا تعارض بينهما على الإطلاق، فالوقوف عند سلسلة عللٍ طبيعيةٍ ثبتت بالملاحظة والتجربة لا ينفي – علميا - وجود سلسلة عللٍ ماورائيةٍ عجزت التجربة على إثباتها، فكم من النظريات العلمية التي جزمنا بها ثم بان قصورها فحلت مكانها نظريات أخرى أكثر تكاملا، وكذا فإن الفهم الخاطئ للدين وتفسير القضايا الدينية بشكل غير صحيح، لا يعني خللاً في نفس الدين بل غاية ما يفيده ذلك بطلان ما كنا نعتقده من الدين.
سلمان التومي
ولأن هذا العقل البشري لا يتوقّف عن التفكير والتكيّف والتأقلم وتطويع التحديات فإن حركته التطوّرية وصلت به إلى مرحلة يرى معها أنه الحلّ الأوحد والملجأ الأعظم للبشرية، فظهرت إثر ذلك قصة لا زالت تنام وتصحو البشرية على أنغامها، وهي إشكالية العلاقة بين الدين والعلم.
ولعل أولى ارهاصات هذه الإشكالية ظهرت في أوائل القرن التاسع للميلاد، حينما غزت الفلسفة اليونانية العالم الإسلامي أيام الخليفة العباسي المأمون، واستمر الجدل حول هذه الإشكالية حتى يومنا هذا، لكن الملاحَظ أن وتيرته شديدة في المحافل العلمية الغربية دون الشرقية، نظرا لما تتمتع به الأولى من رقيّ وتصاعد في العلوم الطبيعية والتجريبية، فتبرز هذه الإشكالية بجدّية عند الغربيين، بينما تبهت عند المشرقيين نظرا لافتقارهم العلمي و التكنولوجي، فلا يلاحَظ تعارض جدّي بين الدين والعلم التجريبي.
والباحث في أقوال من فصّلوا في علاقة الدين بالعلم، يجد ثلاث فرضيات يمكن تصوّرها لتلك العلاقة، وهي:
- فرضية التَّكامل بين الدين والعلم.
- فرضية التغاير بين الدين والعلم.
- ثم فرضية التعارض.
ومن هنا يمكن للقائلين بالتَّعارض بين الدِّين والعلم، أن يحصروا ذلك في عدة مستويات: كالتَّعارض بين التَّعابير الدِّينية مع الأخرى العلمية، أو بين المفروضات والمقبولات الدينية مع المفروضات والمقبولات العلمية، أو بين الرؤية الكونية الدينية مع الرؤية الكونية العلمية، اللتين وإن اتفقتا في مراحل ما، إلا إنهما تتعارضان بشدة نتيجةً وخلاصةً .
ولمناقشة هذه الإشكالية بشكل أجود ، يجب بداية تحديد محل النزاع ثم الخوض فيها وكشف حقيقتها، ولعل ذكر ماهيتي الدِّين والعلم أمر جوهري في تحديد محل النزاع، ذلك أن منشأ كثير من النقاشات حول علاقة الدين بالعلم، هو الوقوع في ورطة الإيهام والإبهام التي تحصل نتيجة الخلط بين المصاديق الحقيقية لبعض المفاهيم، وأخرى غير المندرجة تحت تلك المفاهيم.
فالدين عند الاجتماعيين الغربيين هو مجموعة ضوابط وقوانين تحكم مجتمعا بشريا ما، ويغلب عليها كثيرا الطابع البشري لا الإلهي، وأما عند النفسيين فهو حالة نفسية وحاجة بشرية يشعر الجميع بضرورتها، وهذه الحالة متمحورة حول الإحساس والشعور الذاتي والتجربة الشخصية، وعند فلاسفة الأخلاق فهو شعور أخلاقي بضرورة فعل الواجبات وترك المحظورات الإلهية، وأما عند المتدينين الغرب فكل التَّعاريف ناظرة إلى الدين من ناحية دينية بحتة، دالة على إيمان مسبق بالدين والإله ومتمحورة حول مفاهيم الإيمان والقوة الخارقة القاهرة (الآلهة).
وعند الطبيعيين فهو مجموعة النواهي والأوامر المانعة لفعلية استعداداتنا، ولعل بعضهم ذهب بعيدا ليقول بأن الدين مجموعة من المطالب التي لا تنسجم مع العقل والمنطق وأنه إيمان بقضايا يأبى العلم قبولها.
وأما تعريف الدين عند المسلمين فإن تنوع التعاريف وتعددها يجعل من الوقوف على تعريف حقيقي للدين أمرا مستعصيا، فالدين ليس مفهوما ماهويا بل انتزاعيا يصعب حصره في تعريف مانع جامع، وحتى ننأى بأنفسنا عن مأزق التعريف والحدود والإطناب فلنختر من التعاريف تعريفا تقريبيا وهو أن المقصود من الدين مجموعة القضايا الموجودة في القرآن الكريم والسنة الثابتة عن المعصومين عليهم السلام.
وأما عن مصطلح العلم، فالحديث في تعريفه وتشعّبه يطول كثيرا، ولذا خيّرنا استعراض ما يستوجبه مقامنا من تعريفات ونكات مهمة، فالعلم بمعناه الأعم هو المعرفة المطلقة في مقابل الجهل ويقابل هذا المصطلح في اللغة الإنجليزية ( knowledge )، وبمعناه الأخص هو المعرفة المستندة إلى التجربة الحسية المباشرة، فتخرج كل من علوم التاريخ، الفقه.....إلخ، تخرج من دائرة هذا التعريف الأخص لعدم خضوعها للتجربة الحسية، ويقابله في اللغة الإنجليزية (science) أو (experimental science)، وما يهمنا هنا هو ما يقصده الماديون والقائلون بالتعارض بين الدين والعلم من وراء مفهوم العلم، وبتتبّع آراء برتراند راسل والاستاذ وندل نجد أنهما يعتبران العلم التجريبي العلم الحقيقي وكل ما لم يأت عن طريق التجربة يبقى في دائرة المبهمات والمجهول.
ويتّضح مما ذُكر آنفا، أن تعاريف الطبيعيين الملحدين للدين مبنيّة على أحكام ذهنية مسبقة ومفروضات نظرية سابقة، بل إن تبنّيهم المسبق لفرضية التعارض بين العلم والدين ثم وضعهم للتعاريف انطلاقا من هذا التسليم المسبق، حقيقة لا غبار عليها.
وعليه، فما يمكن أن نستخلصه هو أنَّ القائلين بالتعارض بين الدين والعلم، يرون بأن الصراع بينهما لم يكن بسبب الاكتشافات العلمية التي عارضت معتقدات دينية معينة -فذلك تفسير سطحي للصراع القديم بين الدين والعلم- وإنما حقيقة الصراع أكثر عمق مما نتصوّر، ولعل ما ذكره «وولتر ستيس» في كتابه «الدين والعقل الحديث» خير دليل على ذلك، فالتعارض إذن بين مباني ومفروضات فلسفية ومعرفية نتج عنها تعارض في المعتقدات والأفكار، لأنَّ المباني الفلسفية والمعرفية الناتجة عن ترجيح الدين على العلم ليست كالمباني الفلسفية والمعرفية الناتجة عن ترجيح العلم عن الدين.
لذلك نلحظ أنَّ ترجيح الماديين والملحدين للعلم على الدين راجع للاعتقاد السائد بضرورة كذب إحدى النظريتين، حينما تتعارض نظرية دينية وأخرى علمية، فإن صدق نظرية علمية ما يعني كذب النظرية الدينية بالضرورة، ذلك أن جلّ الفلاسفة والعلماء الغربيين اعتقدوا بأن وظيفة كل من الدين والعلم تبيين الظواهر وتوصيفها وهذا ما جعل من المعرفتين الدينية والعلمية متقابلتين ضرورة، خاصة وأنهم اعتقدوا أيضا بوحدة موضوعات وغايات الدين والعلم، وهذا ما جعل العلاقة بينهما موغلة في التعارض، غير أنه تعارض وهمي لا أساس له من الصحة.
فالخلاصة أنَّ التعارض- في حقيقة الأمر- يعود لفهم خاطئ لدى التجريبيين للطبيعة وقوانينها الممتدة، ولدى بعض المتدينين للدين، أما حقيقة الطبيعة وجوهر الدين فلا تعارض بينهما على الإطلاق، فالوقوف عند سلسلة عللٍ طبيعيةٍ ثبتت بالملاحظة والتجربة لا ينفي – علميا - وجود سلسلة عللٍ ماورائيةٍ عجزت التجربة على إثباتها، فكم من النظريات العلمية التي جزمنا بها ثم بان قصورها فحلت مكانها نظريات أخرى أكثر تكاملا، وكذا فإن الفهم الخاطئ للدين وتفسير القضايا الدينية بشكل غير صحيح، لا يعني خللاً في نفس الدين بل غاية ما يفيده ذلك بطلان ما كنا نعتقده من الدين.
الأكثر قراءة
20063
18069
12458
9729
9651