10 شوال 1445 هـ   19 نيسان 2024 مـ 9:03 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2020-05-30   669

الدين بين التعقل والتقليد

يتوارث أغلب الناس دينهم ومعتقداتهم عن آبائهم وأجدادهم بشكل تقليدي أعمى، وعبر أجيال عديدة تتشكل دورة حياة الدين في نفوسهم، بملامح طقوسية لا تقبل التهاون او النقاش، فتصبح هذه الطقوس هي الدين، والأصل أنما هي ملمحا من ملامحه، بل ويصبح لديهم مقدسا، ليس لأنه كذلك ـ وقد يكون مقدسا بالفعل ـ، إنما لأن طريقة توارثهم له منحته القدسية في نفوسهم، خصوصا وأنها ـ القدسية ـ تتجلى لهم منذ طفولتهم، وبأشكال وأوضاع لا تسمح للكثير منهم بمجرد التفكير قبالتها، إلا من يحاول منهم وضع ملامح دينه ومعتقداته على مشرحة التحقيق، ليس للتشكيك، إنما للبحث عن الحقيقة، خصوصا وأن الحقيقة هي ضالة المؤمن، ليختار دينه عن بينة ووعي أحتكم بهما الى نبيه الباطن، عقله الذي إودع، حجة الله سبحانه وتعالى عليه، ليحرره من قيود ورواسب الطقسنة التي تصبغ الدين وتمنعه عن التعقل فيه.
 إنموذجنا الأمثل في التحرر من هيمنة التنشئة والبيئة والمحيط بفرض الدين، والقدرة على ازالة رواسب الآباء والأجداد أمام حركة التعقل، هو الصحابي الجليل سلمان المحمدي، الرجل الذي تمرد على البيئة المجوسية التي ولد فيها، وكفر بعبادة النار التي كانت سائدة بين قومه، ليعتنق المسحية باعتبارها أكثر عقلانية من المجوسية، ليكتشف بعد ذلك ما يدعوه للبحث مرة أخرى عما يقنعه بحقيقة خلقه ودواعي ذلك، بحقيقة خالقه، ليجد ضالته هذه المرة عند الإسلام، بعد رحلته الشاقة التي كبدته خسائر كبيرة؛ بدءا من فقدانه أمواله كلها، وانتهاءً باسترقاقه؛ ليصل في نهاية المطاف حيث الحقيقة تتجلى، والمنطق يفرض نفسه، والحق يعبر عن الحقيقة، الإسلام دين الله الأوحد،(( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ))(سورة آل عمران ـ 19 ـ20)، خصوصا وأن من النادر أن يسجل لنا التاريخ دافعا ذاتيا للأفراد نحو البحث عن الحقيقة، والوقوف بثبات أمام زيف ما يكتشفوه في انفسهم وأن كان متأخرا، فضلا عن تعريضها للخسارة او الخطر، خصوصا فيما إذا كان الوضع الاجتماعي المحيط هو الغالب، على عكس ما قد يظهر لدى الشباب من الناس ـ لأن الرواسب العقدية لهم لم تتعملق بعد ـ ممن يُبهَرون بالمخاضات والهزات التي تسبق ظهور دعوة دينية ما، وهو ما قد يدعوهم لتفكيك ما ألفته بيئاتهم، وربما التمرد عليه بداعي التجديد مرة، والتشكيك في أخرى، وربما لخصوبة فكرية حتمت عليهم البحث عما يسكت في نفوسهم ثورة التساؤل، باعتبار أن الجيل الشاب في كل مجتمع انما يمثل الأرضية الخصبة لبذار التجدد والتطلع، بل وحتى المغامرة، كنتيجة طبيعية لقلة روابطهم بالسائد من الفكر الديني في مجتمعاتهم، فضلا عن طقوسه. 
  من جهة أخرى، فإن قبول الصغار لما يوجههم به ابائهم بخصوص أفكارهم وتقاليدهم بل وعقائدهم أمر شائع وطبيعي، ولا جدال فيه، وأس ذلك، هو استثمار الآباء الفراغ الفكري لدى صغارهم، وبالتي حشوه بما اعتادوا هم عليه، إلا أن الشائق بالأمر، هو تحرر هؤلاء الصغار من رواسب ما الفوه في طفولهم بعد تشكل وعيهم ونضج فكرهم ونمو حالة التساؤل في قرارة أنفسهم، فتكون البداية بمحاكمة ومناقشة العقائد التي إعتقدوها على إكراها منهم، لتبدئ رحلة البحث عن الحقيقة وتبيان الصواب من مسارهم وتحرير ذممهم من التقليد الأعمى المبنى على "نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا"، فراح الإسلام يؤسس لمنظومة فكرية تؤكد على ضرورة إعمال العقل في قبول هذا الدين من ذاك، كما أكد على أن يكون العقل هو واسطة الوصول الى الحقيقة المحضة، التي تستلزم استخدامه بالتفكر والتدبر في البناء العقائدي السائد، وعقلنة التدين وتحرير رقبته من الطقوس التي ليس لها جذر عقلي او مسوغ فكري، فضلا عن ذمه ـ الإسلام ـ للتقليد الأعمى في الدين، واتباع الخلف للسلف فيه دون روية، مع تشجيعه على حكومة البرهنة والاستدلال القائمين على إثارة العقل بالتفكير السليم والاحتكام للنتائج التي يفرزها ذلك.
وفي الوقت الذي يأخذ الدين ـ أي دين ـ في نفوس المنتمين اليه مأخذا مقدسا ومقاما رفيعا، بل وينبري هؤلاء للدفاع عن دينهم هذا بكل ما أوتوا من قوة، ويضحون في سبيله بالمال والأنفس، لمجابهة من يمس بقداسته، إيمانا منهم بأنه الأصح دون غيره من الأديان والعقائد، ولا يقبلون حتى بحل المناجزة الفكرية بينهم وبين اتباع الديات الأخرى، أو من يريد استيضاح الحقيقة منهم، بما في ذلك من ينتمي للديانات الوضعية، فضلا عمن يصنع لنفسه ربا من تمر او حجر، كما كان عليه قوم النبي إبراهيم عليه السلام (( قَالُوا مَن فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72))(سورة الأنبياء ـ 59 ـ 72)، نجد إن الإسلام يبني صفوف المنتمين اليه بشكل ميتن، أسه الأساس هو العقل، وأس الدعوة اليه هو التحلي بالمرونة والحسنى في الدعوة إليه، ((ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ))(سورة النحل ـ 125)، فضلا عن أنه يؤكد بشكل متوازي مع كل فكرة عقائدية ضرورة التلازم العقلاني لها، وبالتالي فهو يدعو بشكل واضح وصريح الى إطلاق العقول من أسرها وتحريرها مما علق بها من رواسب الماضي، وبالتالي دفعها للتأمل في الخلق والخالق، النشأة والمنشئ ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))(سورة أل عمران ـ 190 ـ 191)، (( أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20))(سورة الأعلى ـ 17 ـ20)، بل والتدبر في مختلف شؤون الحياة ((أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ))(سورة طه ـ 128)، ((وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))(سورة الجاثية ـ 5)، ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ))(سورة الحج ـ 46)، فضلا عن رفضه لبراثن العصبية المقيتة التي كانت تحكم العقل افردي والجمعي في حينها ((أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))(سورة محمد ـ 24)، خصوصا وأنه أنزل بأهم مفردة تحفز على العقل والتعقل، ألا وهي مفردة (أقرأ) باعتبار ان القراءة مادة العقل الأولى، ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5))(سورة العلق ـ 1 ـ 5). 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م