| أخلاقيات الإسلام | التوبة.. واللّه انـها ليـست إلا لأهل الإيمان
التوبة.. واللّه انـها ليـست إلا لأهل الإيمان
التوبة هي ترك الذنب والإقلاع عنه
بنية وعزم اللا عودة إليه، وهي من المفاهيم الدينية والأخلاقية،
مع انها مما يمكن أن تنصرف اليه في المجال القانوني.
وقد حثت الأديان السماوية ـ بل
والوضعية حتى ـ على ضرورة أن يتوب المرء من افعاله المشينة وأن
يداوم على التوبة كلما أذنب وأخطأ، وبالتالي فهي مران أخلاقي
وترويض قيمي، يجعل للفرد فرصة لمحاسبة نفسه وإعادة نظمها كلما
مسها خلل أو خطأ.
والتوبة عماد المنظومة الأخلاقية،
بل ومحركها، فبدونها تكون أفعال العباد بلا جدوى، تهزها ريح
الأهواء ونزعات الأنفس، وهذا ما جعل القرآن الكريم يمنح موضوعة
التوبة قيمتها التي تستحق، بل وقرنها مع غيرها من القيم الكبرى
التي ندب إليها.
ففي محكم القرآن الكريم، قال عز
من قال: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ
بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا))(سورة النساء
ـ 64)، وقوله جل وعلا: ((إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ
فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا))(سورة النساء ـ 146)، وقوله
أيضا: ((وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ
كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ))(سورة هود ـ3)، وقوله ((وإذا
جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه
الرحمة، أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه
غفور رحيم))(سورة الأنعام ـ 54)، وقوله ((إلا من تاب وآمن وعمل
عملا صالحا فأولئك يبدل اللّه سيئاتهم حسنات وكان اللّه غفورا
رحيما (70) ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب الى اللّه
متابا(71))(سورة الفرقان 70 ـ 71).
وعلى الرغم من كثرة الآيات
القرآنية الشريفة التي بينت قيمة التوبة في السلوك الفردي
والجماعي لدى الإنسان، فأن النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله، حث
هو الأخر على ذلك، وبين اهميتها في الكثير من أحاديثه الشريفة، بل
وأمعن في تطبيقها عمليا، فقد ورد عن بعض الصحابة أنهم قالوا له
عليه وآله الصلاة والسلام بأنهم يخشون النفاق، فقال عليه الصلاة
والسلام مستفهما منهم ذلك: ولم تخافون ذلك؟!، فقالوا: "إذا كنا
عندك فذكرتنا ورغّبتنا وجلنا ونسينا الدنـيا وزهدنا حتى كأنا
نعاين الآخرة، والجنة والنار؛ فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه
البيوت وشممنا الأولاد ورأيـنا العـيال والأهـل يكاد أن نحول
عن الحال التي كنا عليها عندك؛ وحتى كأنا لم نـكن عـلى شيء! أ
فتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا؟"، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
"كلا.. إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا؛ واللّه لو
تدومون على الحالة التـي وصـفتم أنـفسكم بها لصافحكم الملائكة
ومشيتم على الماء، ولو لا أنكم تذنبون فتستغفرون اللّه لخلق
اللّه خلقا حتى يـذنبوا ثـم يستغفروا اللّه فيغفر لهم؛ إن
المؤمن مفتتن تواب".
كما حث عليه الصلاة والسلام على
المعاجلة والمبادرة الى التوبة قبل ان يكون بين المرء وعودته
حائلا، بل ورسم لها كيفية تجعل فيها مما يُرجى، فقد سأل صلى الله
عليه وآله وسلم أصحابه ذات مرة عن التائب بقوله: "أ تدرون من
التائب؟"، فقالوا: اللهم لا، فقال: "إذا تاب العبد ولم يرض
الخصماء فليس بتائب، ومن تاب ولم يغير مجلسه وطعامه فليس بتائب،
ومن تاب ولم يغير رفقاءه فليس بتائب، ومن تاب ولم يزد في العبادة
فليس بتائب، ومن تاب ولم يغير لباسه فليس بتائب، ومن تاب ولم يغير
فراشه ووسادته فليس بتائب، ومن تاب ولم يفتح قلبه ولم يوسع كفه
فليس بتائب ومن تاب ولم يقصر أمله ولم يحفظ لسانه فليس بتائب، ومن
تاب ولم يقدم فضل قوته من بين يديه فليس بتائب، وإذا استقام على
هذه الخصال فذاك التائب".
وهو بذلك يقطع دواعي الرجوع عما
توب منه، وجعل من التوبة أمرا ناجزا، خصوصا وأن التائب أحب لله من
غيره، فقد ورد عن النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله وسلم انه
قال: "ليس شيء أحب الى اللّه من مؤمن تائب أو مؤمنة
تائبة".
ولما كان الاستغفار شعبة من شعب
التوبة، فقد عرّف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة
والسلام الاستغفار في مورد سؤاله لشخص قد استغفر في حضرته، فقال
عليه السلام: ذلك بقوله: "أ تدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة
العـليين، وهـو اسم واقع على ستة معان: أولها؛ النـدم عـلى
مـا مضى، والثاني؛ العزم على ترك العودة إليـه أبـدا، والثالث؛
أن تؤدي الى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى اللّه أملس ليس عليك
تعبة، والرابع؛ أن تعمد الى كـل فـريض عليك ضيعتها فتؤدي
حقها، والخـامس: أن تـعمد الى اللحـم الذي نـبت عـلى السحت
(والسحت هو المال الذي يأتي من طريق الكـسب الحـرام) فتذيبه
بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد،
والسادس؛ أن تـذيق الجسم ألم الطاع كما أذقته حلاوة
المـعصية، فعند ذلك تقول "أستغفر اللّه".
كما أكد أهل بيت النبوة عليه
السلام على ضرورة تـجديد التـوبة وملازمتها بشكل دائمي، بالقول
والفعل ومنه الاستغفار، فعن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال
لمحمد بن مسلم: "يا محمد بن مسلم؛ ذنوب المؤمن إذا تاب عنها
مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يـستأنف بـعد التـوبة والمغفرة، أما
واللّه انـها ليـست إلا لأهل الإيمان"، فقال له ابن مسلم: فـإن
عـاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب وعاد في التوبة؟، فقال
عليه السلام: "يا محمد بن مسلم؛ أتـرى العـبد المؤمن يندم على
ذنبه ويستغفر اللّه تـعالى مـنه ويتوب ثـم لا يـقبل اللّه
تـوبته"، فقال محمد: فإن فعل ذلك مـرارا، يذنب ثم يتوب ويستغفر؟،
فقال عليه السلام: "كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة، عاد
اللّه عليه بالمغفرة وإن اللّه غفور رحـيم يـقبل التوبة، ويعفو عن
السيئات؛ فإياك أن تـقنّط المـؤمنين مـن رحـمة اللّه
تـعالى".
اما عن قيمة التوبة، فقد ورد عن
الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "إذا تاب العبد توبة نصوحا،
أحبه اللّه تعالى فستر عليه في الدنيا والآخرة"، فسأله أحدهم:
وكيف يستر اللّه عليه؟، قال عليه السلام: "يـنسي مـلكيه مـا كتبا
عليه من الذنوب، ثم يوحي الله الى جـوارحه: اكـتمي عـليه ذنـوبه،
ويوحي الى بقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب،
فيلقى اللّه تعالى حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من
الذنوب".
وهو ما أكده الإمام علي الرضا
عليه السلام بقوله نقلا عن جده صلوات الله عليه وآله: "التائب مـن
الذنب كمن لا ذنب له".
وللتائب ثواب جزيل عند الله جل
شأنه، لا يعدله ثواب، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام
أنه قال: "إن الله عز وجل أعطى التائبين ثلاث خصال، لو أعطى
خصلة منها جميع أهل السموات والأرض لنـجوا بـها، قال تعالى: ((إن
اللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين))(سورة البقرة ـ 22)، فمن أحبه
اللّه لم يعذبه، وقوله تعالى: ((الذين يحملون العرش ومن حوله
يسبحون بحمد بهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا، ربنا وسعت كل
شيء رحمة وعلما فـاغفر للذيـن تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب
الجحيم (7) ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من
آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم (8) وقـهم
السـيئات ومن تق السيئات يومئذ فـقد رحـمته وذلك هو الفوز
العظيم(9))(سورة المؤمن 7-9)، وقوله عز وجل: ((والذين لا يدعون مع
اللّه إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم اللّه إلا بالحق
ولا يزنون… ومن يفعل ذلك يلق آثاما (68) يضاعف له العـذاب يوم
القيامة ويخلد فـيه مـهانا (69) إلّا من تاب وآمن وعمل صالحا
فأولئك يبدل اللّه سيئاتهم حسنات وكان اللّه غفورا
رحيما(70))(الفرقان 68 - 70).
وبذلك فأن التوبة هي مفتاح العودة
الى الله، وباب الرجوع إليه ونقطة الشروع في تهذيب النفس
اللوامة.
فاطمة الناظم