16 شوال 1445 هـ   25 نيسان 2024 مـ 8:55 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أخلاقيات الإسلام |  التطوع لفعل الخير والمسابقة اليه.. رياضة الأنبياء والأوصياء
2021-11-20   1309

التطوع لفعل الخير والمسابقة اليه.. رياضة الأنبياء والأوصياء

لما كان القرآن الكريم، كتاب هداية ورحمة، فلا بد أن يتسع لكل النواحي الحياتية، ومن ضمنها الأخلاقية والسلوكية، ولا يقف عن الضرورات، بل يشتغل على مساحة المستحبات أيضا، تأسيسا منه لمجتمعه الفاضل، ومن ذلك تطرقه لفكرة التطوع في فعل الخير، وإن لم يكن واجبا، وهي ما يقابل العمل التطوعي (الكيفي) في المفاهيم العصرية.
وتكمن فكرة المبادرة للعمل التطوعي بقضية جد مهمة، قوامها الشعور بالغير ممن هم خارج حدود المسؤولية، وفي ذلك اختبار لروح الأثار لدى صاحبه المبادر.
وإمعانا في أهمية ذلك، لم يقبل الإسلام بمجرد التطوع هذا، إنما دعا الى التنافس فيه، والمسارعة والمسابقة اليه؛ كما تبينه الآية الشريفة من قوله تعالى: (( ... فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))(سورة البقرة ـ 148)، بل وعّد ذلك خيرا، ((مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115))(سورة آل عمران (113 ـ 115)، ولو على حساب أنفسهم، كما في قوله تعالى في مدح هؤلاء ـ وأن كانت الآية بخصوص أمير المؤمنين والسيدة الزهراء عليهما الصلاة والسلام: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))(سورة الحشر ـ 9)، فضلا عن قوله تعالى: ((... فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ......))(سورة البقرة ـ 184).
ومن مصاديق وصور التطوع في فعل الخير هي الإصلاح بين الناس مثلا، ومساعدة المحتاج بالصدقة، والأمر بالمعروف، وهو مما بينته الآية الشريفة: ((لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ.....))(سورة النساء ـ 114).
ولا ينصرف فعل الخير للأفراد فحسب، إنما يكون ذلك على الأمم ايضا، بعد أن تتطوع نخبهم وصفوتهم بما يجعل من هذا العمل الطوعي؛ ظاهرة اجتماعية ايجابية تسهم في البناء المجتمعي، كما في قوله تعالى: ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وأولئك هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ))(سورة آل عمران ـ 104).
على أن مفهوم التطوع للخير لا يقف عند ما ذكرنا في اعلاه، بل له صور وحالات عديدة، يمكن شمولها بكل ما يعتبره الشارع المقدس والعقل الواعي والعرف الاجتماعي خيرا، فنشر العلم بين الناس؛ خيرا، وازالة الأذى عن طريقهم خيرا، وإعانة المعوزين؛ خيرا، وبناء المبرات؛ خيرا، وتثقيف الناس؛ خيرا، وسقي المزروعات؛ خيرا، وما الى ذلك من ملايين الصور.
ولم يندب القرآن الكريم لفعل الخير تطوعا، إلا لأنه ممدوح في أصله، أي أن فعله مشروعا بالأصل، ومستحسن عقلا؛ وبالتالي شرعا، وهو ما جعل من الأنبياء ـ قبل النبي الأكرم صلوات الله تعالى عليه وآله ورسالته الخاتمة ـ يفعلونه ويوصون به، ليكونوا بالفعل والقول؛ القدوة والإسوة الحسنة لمجتمعاتهم التي يشتغلون على بناءها وتصويب سلوكيات افرادها، كوظيفة أولى للأنبياء صلوات الله تعالى عليهم اجمعين. 
ومن الموارد التي تطوع فيها الأنبياء لفعل الخير، كفالة النبي زكريا عليه السلام لمريم عليه السلام، وهو ما تبينه الآية الشريفة: (( ... وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أنى لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ))(سورة آل عمران ـ 37)، حيث تكفل بتربيتها وتخليقها بأخلاق السماء وتوفير احتياجاتها، فضلا عن الحفاظ عليها كونها يتيمة.
كما يبين القرآن الكريم في مورد أخر، تطوع النبي موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم في أعانة الناس، ومنه تطوعه في إعانة النسوة اللواتي يستسقين الماء، كما في قوله تعالى: ((وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(24))(سورة القصص ـ 23 ـ24)، كما مد يده عليه الصلاة والسلام لمناصرة الحق على الباطل، مما تبينه الآية الشريفة في قوله تعالى: ((وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ))(سورة القصص ـ 15).
وفي مورد أخر، نجد نبي الله يوسف الصديق عليه السلام وهو يبادر في عرض أسمه كوزير للمالية لعلمه أن هذه المسؤولية التطوعية ستأتي بالخير على أهل مصر جميعا، وهو ما يسوغ له التطوع لذلك، كما في قوله تعالى على لسان النبي يوسف عليه السلام: ((وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)  قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(55))(سورة يوسف ـ 54 ـ 55)، ناهيك عن تطوعه في تبيان رؤيا صاحبيه في السجن ـ وهي مبادرة في توضيح ما ستؤول إليه الأمور، ((وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(40 ))(سورة يوسف ـ 36 ـ 40).
أما عن نبي الإنسانية محمد بن عبد الله صلوات الله تعالى عليه وآله، فما حياته إلا تطوع لفعل الخير، حتى شاع خيره بين مريديه وأعداءه على حد سواء، بدء من تطوعه في الأعمال العبادية من نوافل وطاعات، كما في قوله تعالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فاستوى عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا))(سورة الفتح ـ 29)، مرورا بأعمال البر، كما في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتقوى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ))(سورة المائدة ـ 2)، وقوله تعالى: ((وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير))(سورة البقرة ـ 110).
كما حث صلوات الله تعالى عليه؛ المسلمين على فعل الخير في الكثير من احاديثه الشريفة، فقد ورد عنه صوات الله تعالى عليه وآله: "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن سرّ مسلما ستره الله يوم القيامة"، وقوله صلوات الله تعالى عليه وآله في مورد آخر: "من مشى في حاجة أخيه ساعة من ليل أو نهار، قضاها أو لم يقضِها، كان خيراً له من اعتكاف شهرين"، وقوله صلوات الله تعالى عليه وآله: "نّ أحبَّ الأعمال الى الله إدخال السرور على المؤمنين". 
كما ورد عن الإمام الحسين الشهيد عليه الصلاة والسلام قوله: "إنّ حوائج الناس إليكم من نِعم الله عليكم، فلا تملّوا النِعم، فتحوزوا نقما"، وهو قريب جدا مما قاله الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام: "ايّما مؤمن أتى أخاه في حاجة فإنّما ذلك رحمة من الله، ساقها إليه وسبّبها له، فإن قضى حاجته كان قد قبل الرحمة بقبولها، وإن ردّه عن حاجته، وهو يقدر على قضائها، فإنّما ردّ عن نفسه رحمة من الله عزّ وجلّ ساقها إليه وسبّبها له"
وعلى هذا وذاك، فأن الأعمال التطوعية مما أوصى بها الله؛ انبياءه وحججه، كونها مادة الخير ومخ الإيثار، بها يروض المرء نفسه وينتصر على الشر في روحه، فضلا عن كونها تجارة مع الله سبحانه، ((إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(30))(سورة فاطر ـ 29 ـ 30).

فاطمة الناظم 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م