| التوحيد | جواب شبهة الثنائية بين الذات والصفات الإلهية
2022-07-02 1307
جواب شبهة الثنائية بين الذات والصفات الإلهية
عند العودة إلى التراث الإسلامي،
وما أنتجه المسلمون من معارف وأفهام للنصوص القرآنية والروائيّة،
وخاصة تلك النصوص المتعلّقة بالجانب العقائدي، سنلحظ وجود علم قد
اختصّت مباحثه بالمسائل التي يجب على المسلم الاعتقاد والتسليم بها،
وقد أُطلقت عدّة تسميات على هذا العلم عبر القرون المتعاقبة، فمنهم
من أطلق عليه اسم «علم الكلام»، ومنهم من سمّاه بـ «أصول الدين»،
وثالث اصطلح عليه بـ «الفقه الأكبر»، ورابع أطلق عليه «علم
العقائد»، وأخيراً هناك من أدرجه تحت عنوان
«الإلهيات».
ولعلنا لو حاولنا دراسة الإختلافات الجزئية الحاصلة بين أبرز وأهم المدارس الكلامية الإسلامية، سنجد أنّها لا تعود للإختلاف في المصدر الذي منه يتم استقاء المعارف الكلامية العقائديّة، بل الخلاف بالأساس يعود إلى أفهام وكيفية تصوَّر أصحاب هذه المدارس للمسائل العقائدية نفسها، فكل المدارس المعتبرة في الإسلام، تتفق على النقل والعقل كأهمّ مصدرين في تشييد المسائل العقائديّة، وكذلك نراهم يتفقون على أمهات المسائل العقائديّة، فالرب هو الله عزّ وجل، والنّبي هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، والكتاب هو القرآن، والدين هو الإسلام، وكذلك نراهم يتفقون على ضرورة الإعتقاد بالله، والنّبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وباقي الأنبياء والرُّسل عليهم السلام، وكذلك الملائكة عليهم السلام والكتب السماويّة الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن، وأيضا يعتقدون بالحياة والموت والنشور والحساب والثواب والعقاب، واليوم الآخرة... إلخ، ولكنّنا سنجد أنّه وعندما بدأت حركة ترتيب وتبويب وتنظيم المعارف الإسلاميّة المتعلّقة بالدين الإسلامي، وبالتحديد تلك المعارف التي تتعلّق بالجانب العقائدي، بدأت تظهر بعض الخلافات بين المدارس في تصوّراتهم للمطالب والمسائل الاعتقادية، وكذلك امتدّ الخلاف لترتيب وتنظيم الأصول العقائديّة عن الفروع.
ونحن اليوم سوف نتعرّض لمسألة في غاية الأهميّة، وقد وقع الإختلاف في كيفيّة معالجتها من مدرسة إلى أخرى ومن عقل لآخر، وهي مسألة الثنائية بين الذّات والصّفات عند الخالق المُوجد، والتي تتعارض مع أهم ركائز التوحيد، الذي يقتضي بالضرورة أن يكون واجب الوجود «الله» بسيط غير مركب، فالمدارس الأساسيّة في الإسلام تتّفق بأنّ لواجب الوجوب «لله» ذات، بل وأقاموا على ذلك الأدلّة والبراهين، وكذلك أجمعوا على وصف الله بالصّفات وكذلك نفي بعض الصّفات عنه تعالى، وذلك تبعًا لوصف المولى تعالى نفسه في مئات المواضع من القرآن الكريم.
فهذه الثنائية بين الذّات والصّفات، والمتعارضة مع المبدأ التوحيدي المقتضي لبطلان التركيب عن واجب الوجوب «الله» بإجماع السواد الأعظم، كانت من أكبر المعضلات المعرفيّة التي واجهها العقل الإسلامي، وذلك لوضوح عدم قدرة العقل البشري على التمسّك بمبدأ البساطة لواجب الوجود «الله» وعدم تركيبه، في اللّحظة التي يُفترض ويُستدلّ فيها على أنّ لواجب الوجود «الله» ذات وصفات.
وعند بروز هذه المعضلة المعرفية أمام الوعي الإسلامي، شرعت المدارس في إيجاد الطرق المختلفة لعلاجها، ممّا ولّد رأيين عامّين مُتباينين:
• الأول: هو الذي ذهب لإثبات الإثنينيّة بين الذّات والصّفات، وخَرَّجَ قوله بطرق خاصة ليتجنب مشكلات أخرى قد تترتب على القول بالإثنينيّة.
• والثاني : ذهب لنفي الإثنينيّة بين الذّات والصّفات في واجب الوجود «الله»، خلاف ما عليه ممكن الوجود «المخلوق»، وكانت له أيضًا تخريجاته المختلفة فمنهم مَن نفى الصّفات بالمرّة، ومنهم مَن قال أنّ صفات واجب الوجود «الله» هي عين ذاته، وذاته عين صفاته.
والحقّ الذي يمكن أن نشير إليه هنا، والذي لمسناه من خلال التحقيق في أقوالهم حول هذه المسألة وغيرها من المسائل الكلاميّة، هو أنّ حبّ الغلبة والانتصار على المقابل، الذي سيطر على أعلام وأتباع هذه المدارس هو ما أدَّى إلى الفهم الخاطئ لأقوال بعضهم البعض، فكلّ أصحاب مدرسة نجدهم يحاولون وضع فهمهم لأقوال المقابل، دون الرجوع إلى مباني ومنطلقات الطرف المقابل، ولو تمكّنا من تجاوز هذه السلبية المدرسيّة المذهبيّة، سندرك أنّ أقوالهم متقاربة، وكذلك الحال في غاياتهم فهي مشتركة، ولَتمكَّن كل طرف من إدراك أنّ بعض خلافات المتقدمين ـ الراجعة في الحقيقة لمقدار فهمهم وتصوّرهم للمطالب والمسائل ـ هي لفظية أكثر من كونها خلافات معنوية، وكذلك لعَذَرَ في الخلافات المعنويّة كلّ صاحبِ رأيٍ أصحاب الآراء المقابلة له، لوضوح أن تحديد الأفهام والتصوّرات في أغلبها هي نتاج عقول بشريّة تقترب وتبتعد عن الحقيقة بدرجات متفاوتة.
وبالعودة لمقام بحثنا، فالذي خلصنا له من مواقف اتجاه مسألة الثنائية المتحقّقة بين ذات واجب الوجود «الله» وصفاته، هو وجود رأيين متباينين، والمُسلّم به بين أتباع المذهب الجعفري، هو الرأي الذي تضمّنته جملة من النصوص الواردة من أئمة أهل البيت عليهم السلام، وهو الرأي الثاني القائل بالعينيّة بين الذّات والصّفات في واجب الوجود «الله»، في الوقت الذي يثبتون فيه الذّات، وكذلك الصّفات لواجب الوجود «الله» من خلال الدليل العقلي والنقلي.
والحقّ في المقام هو أنّ هذا القول رغم أنّه يجاوزنا ويحلّ لنا معضلة التركيب السابقة، إلاّ أنّه وللوهلة الأولى صريح التعارض مع أحكام العقل البشري، لوضوح عدم تقبّل العقل أن تكون الصّفة بما هي صفة هي عين الموصوف، والموصوف بما هو موصوف هو عين الصّفة، ويؤيّد هذا الكلام، قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، في نهج البلاغة، حيث نجده يقول: "وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الإِخْلاصُ لَهُ، وَكَمَالُ الإِخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَة".
وعليه، فلا بد لنا من طرح بيان وتفصيل ليحلّ ويوضّح لنا مباني ومدلولات كلمات أئمة أهل البيت عليهم السلام، التي وردت في الرّد على من ذهب للتغاير بين الصّفة والذّات، بحيث نتمكن بعد ذلك من بلوغ الحقيقة التي يريد أن يكشف عنها الأئمة عليهم السلام.
ولكي نصل لما سيقودنا إليه التحقيق والتأمل، لابد لنا من التقديم بمقدّمتين:
المقدّمة الأولى هي:
أنّ الفرد البشري وفي إدراكه للأشياء والحقائق الخارجيّة، يستند على جملة من الأدوات والوسائل الحسيّة المحدودة، وهذه الوسائل الحسيّة وفي بلوغها للشيء، تشترط أن يكون هذا الشيء متحصّلا على جملة من الشروط والشؤون الماديّة، ومع عدم توفر هذه الخصائص الماديّة في الشيء الخارجي، سوف يكون هذا الشيء خارجًا عن نطاق قدرة الحواس الإدراكيّة التي يتمتّع بها الكائن البشري.
غير أنّ الإنسان وفي ما يمتلكه من ملكات وقُدرات، لا تقتصر عملية إدراكه على تلك الحدود الضيّقة للحس، بل نجده ومن خلال العقل قادرا على إدراك جملة كبيرة من الحقائق رغم عدم تمكّن الحواس من إدراكها والوصول إليها، كإدراكه للأفعال البشريّة، وكذلك صفاتهم المعنويّة والنفسية.
ورغم تمكّن العقل من تجاوز حدود الحسّ، إلاّ أنّه بقي مقيّدًا ومحكومًا بجملة من القوانين والضوابط والأدوات، فالعقل البشري محكوم بمجموعة من المقولات التي من خلالها يتمكّن من الوصول لتشخيص الحقائق، وبالتالي يتمكّن من وضع الحدود أو الرسوم لها، وهذه المقولات تمثّل للإدراك المِرآة التي من خلالها يُقَوْلَب ذاك التَّكثُر الحاصل للموجودات الخارجيّة، كما سنجد أنّ كل حقيقة خارجة عن نطاق هذه المقولات سيعجز الإدراك البشري على الوصول إليها أو تشخيصها.
المقدّمة الثانية هي:
أنّ الذي أوجد الوجود والموجودات من العدم ضمن قوانين مُحْكمة ودقيقة، بحيث جعلهم خاضعين لهذه القوانين ومُسيّرين على وفق مقتضياتها، وكذلك الذي خلق العقل لغاية إدراك الكون وقوانينه، وجعله يعمل ضمن قانون وضوابط بحيث يتمكن ـ في أقصى فرضٍ ـ من بلوغ الحقيقة الكلّية التي مع اكتسابها يتمكن من الإحاطة بواقع الكون وقوانينه، والتي هي عمليّة ما زال الإنسان عاجزًا عن تحقيقها ليومنا هذا، بل مازال لم يحقّق منها إلاَّ النّسبة التي هي في الواقع غير معتدٍّ بها، ولا هي معتبرة مقايسة بما بقي.
وعليه، فالفرض الصحيح الذي يمكن أن نصل إليه، هو أنّ حقيقة المُوجِد الذي هو المولى تعالى، خارج عن نطاق تلك الشؤون والقوانين والضوابط التي تحكم الكون والعقل، بل هو أعلى وأسمى من أنّ تحُدّه أو تقيّده القوانين التي أوجدها وأوجد معها الموجود، وليس العقل لوحده من يحكم بهذه النتيجة، لوضوح أنّ خضوع واجب الوجود «الله» لهذه القوانين، يؤدي من خلال الحصر العقلي لفرض احتمالين باطلين:
• الأول: أنّ خضوعه للقوانين بسبب حاجته لها، فهذا يؤدي لفرض أنّه ما دام محتاج لها فهو فاقد لها ذاتيًّا، وهو باطل لصدق تلك القاعدتين (قاعدة بطلان التسلسل) و (قاعدة أنّ فاقد الشيء لا يعطيه بالضرورة)، وقد ثبت أنّه تعالى قد أعطاها لغيره بل وهو من يحافظ على استمراريتها، وكذلك أنّه لم يوجَد بموجد آخر.
• الثاني: أنّ خضوعه لها بغير حاجة إليها، وهذا سيؤدي بنا:
أ) إمّا إلى ضرورة تبدّل القوانين لتوائم شؤون واجب الوجود، وبالتالي بطل الفرض الأول الذي هو خضوعه لنفس قوانين وجود الموجودات الممكنة.
ب) وإمّا أن لا تتبدّل هذه القوانين، وبالتالي لا بد من فرض أنّ واجب الوجود «الله» يمتلك نفس الخواص والقابلية التي لدى الموجود الممكن « الإنسان»، بحيث انطبقت عليه هذه القوانين، وهذا أيضا باطل ببطلان التشابه والاشتراك بين واجب الوجود «الله»، وممكن الوجود «الإنسان».
بل حتى أنّه تعالى قد أشار في كتابه إلى حقيقة عُلُوِّه عن قوانين الوجود والعقل، وذلك في آية واضحة الإِحكام، فقال: ((فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))(الشورى ـ11)، حيث نراه في هذه الآية ينفي بالإطلاق أي نحو من أنحاء التشابه بينه وبين كل ما يصدق عنه أنّه شيءٌ، والشيئيّة تساوق معنى الوجود والإختلاف معها فقط في اللّحاظ، كما أنّ اللاشيئيّة تساوق معنى العدم، فمع نفي أي تماثل بينه وبين كل ما تلبّس بالوجود، فهذا يعني أنّه تعالى خارج عن نطاق القوانين التي يفرضها ويحيط بها الوجود، بل إنّ النّصوص القائمة على خروج المولى تعالى عن نطاق قوانين الوجود والعقل كثيرة جدّا، وخاصة في كلمات أهل البيت عليهم السلام.
وهذه بعض أجوبة أئمة أهل البيت عليهم السلام، التي تكشف لنا عن هذه الحقيقة:
فقد ورد حديثًا صحّحًا، مفاده:
• محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن ابن أبي نجران قال: "سألت أبا جعفر عليه السلام عن التوحيد، فقلت:[ إنّني] أتوهم شيئا؟ فقال: نعم، غير معقول ولا محدود، فما وقع وهمك عليه من شئ فهو خلافه، لا يشبهه شئ، ولا تدركه الأوهام، كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل، وخلاف ما يتصور في الأوهام؟! إنما يتوهم شئ غير معقول ولا محدود"، فعبارة الإمام واضحة في كونه تعالى لا يشبهه شيء، ولا تدركه التصوّرات العقليّة، ويخلُص في آخر كلامه إلى أنّ المولى في واقع شؤون حقيقته من غير المعقولات، ولا هو من المحدودات، وبالتالي إن تمكّن الفرد من أن يدرك غير المعقول وغير الحدود، فعندها فقط يمكنه أن يدرك المولى تعالى، وهذا ممّا تعجز عنه بالضرورة العقول.
وفي حديث صحيحٍ آخر:
• عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان، عن زرارة بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إن الله خلو من خلقه، وخلقه خلو منه، وكل ما وقع عليه اسم شيء ما خلا الله، فهو مخلوق، والله خالق كل شيء تبارك الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ـ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير)".
وبالتالي فمن كانت حقيقته خارجة عن نطاق قوانين الكون وبالتبع العقل، فهو غير قابل للإدراك، بل يستحيل على العقل أن يبلغ أو يصل إلى أيّ شأنٍ من شُؤُونه.
النتيجة: المفترضة من المقدّمات:
بعد أن أدركنا محدودية العقل في الإدراك والتصوّر، وأنّ أقصى ما يمكن أن يبلغ له العقل هو أن يحيط بالكون والقوانين التي تسيّره، وأنّ المُوجِدَ للوُجُودِ والمَوْجُودِ هو خارج عن نطاق الحدود والقوانين الحاكمة في الكون فضلا عن العقل، بعد هذا سنصل لنتيجة أنّه تعالى يستحيل أن يتم إدراك حقيقته من العقل أو البلوغ إلى معرفة شؤونه الواقعيّة.
وهذه النتيجة التي أوصلنا لها التأمّل العقلي من خلال المقدّمات السابقة، تتعارض في الوهلة الأولى مع مسألة أنّ المولى تعالى قد وصف نفسه في عشرات المواضع القرآنية، وكذلك مع تلك الروايات التي تثبت وتحثّ على التدبّر في الصّفات، وبالتالي نكون أمام تساؤل في غاية الأهمّية وهو "كيف يستحيل أن ندرك أي شأن من شؤونه تعالى، وهو قد تحّدث للنّاس عن نفسه، ووصفها بجملة كبيرة من الصّفات التي يمكن للعقول أن تدركها، بل وتضع لها الحدود أيضًا؟".
وفي مقام الجواب، يأتي طرحنا الذي نود الإشارة إليه في معرض الحديث عن موضوع المقال:
نعم، المولى تعالى أجلُّ وأسمى وأعلى من أن يدرك العقل شأنٍ من شؤونه، بل حقيقته الواقعيّة خارجة عن نطاق عمل العقل فضلاً عن الوجود، وبالتالي فهو في الواقع أكبر وأعلى من أن يُوصَفَ بِوَصْفٍ، ويُحَدَّ بِحَدٍّ عقلي، وهو منزّه واقعًا من كلِّ صفة أو حدٍّ، لوضوح أنّ الصّفات والحدود من شؤون الموجودات الموجُودَة بوجود هي مفتقرة إليه، وهذا نفهمه من الحديث المنسوب للإمام الباقر عليه السلام، وقد ذكره المجلسي فقال: "كل ما مَيَّزْتُمُوهُ بأوهامكم في أدقِّ معانيه [هو] مخلوق مصنوع مثلكم، مردود إليكم، ولعل النَّمل الصِّغار تتوهَّم أنّ لله تعالى زَبَانِيَتَين، فإنّ ذلك كمالها، ويتوهَّم أنّ عدمها نُقْصان لمن لا يتَّصف بهما"، فهنا يوضّح الإمام بصريح العبارة أنّ كل ما يمكن أن يتصوّره العقل اتجاه حقيقة المولى تعالى هو غير منطبقٍ عليه في الواقع، ويضرب مثال النّملة التي ترى بأنّ قرون الإستشعار هما من الكمالات، وبالتالي فقد تكون النّملة أيضا ترى بأنّ للمولى تعالى قرونُ استشعارٍ، لتصوّرها المسبق بأنّهما من الكمالات لها ولأبناء جنسها، وبالتالي لا بد من نسبة هذه الكمالات للمولى تعالى.
وكذلك نفهمه من كلمات الإمام علي عليه السلام السابقة عندما قال: "أوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْديقُ بِهِ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الاْخْلاصُ لَهُ، وَكَمَالُ الاِخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَة أَنَّها غَيْرُ المَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوف أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ،وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَد جَزَّأَهُ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ، وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أشَارَ إِلَيْهِ وَمَنْ أشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ، وَمَنْ قَالَ: «فِيمَ» فَقَدْ ضَمَّنَهُ، وَمَنْ قَالَ: «عَلاَمَ؟» فَقَدْ أَخْلَى مِنُهُ، كائِنٌ لاَ عَنْ حَدَث، مَوْجُودٌ لاَ عَنْ عَدَم، مَعَ كُلِّ شَيْء لاَ بِمُقَارَنَة، وَغَيْرُ كُلِّ شيء لا بِمُزَايَلَة، فَاعِلٌ لا بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ وَالاْلةِ، بَصِيرٌ إذْ لاَ مَنْظُورَ إلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، مُتَوَحِّدٌ إذْ لاَ سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بهِ وَلاَ يَسْتوْحِشُ لِفَقْدِهِ".
فهو عليه السلام يقرّر لنا جملة من الحقائق المرتبط بعضها ببعض، فيشير إلى أنّ أساس الدين أن يعرف العبد ربّه، ومعرفته تعالى لن تكتمل إلاّ بعد التّصديق والتسليم به، والتصديق به لن يكتمل إلاّ من خلال توحيده، وتوحيد العبد لربِّه لا يمكن أن يكون كاملاً، إلاّ بعد أن يتحقّق الإخلاص الكامل له، وهذا الإخلاص المتوقف عليه اكتمال التوحيد، لن يكتمل إلاّ بعد أن يصل العبد إلى المرتبة التي معها ينفي كلّ صفة عن المولى تعالى، بل ويستدلّ على هذه الحقيقة بجملة من الأحكام العقليّة، فيقرّر بأنّ الصّفة مغايرة للموصوف، والموصوف مغايرٌ للصّفة، وبالتالي فوصفه تعالى بالصّفة يؤدي للقول بالتركيب وأنّ الصّفة قد اقترنت مع الذات في الله، والقول بالقَرْنِ، يقتضي التسليم بالتثنية في الله، والتثنية تؤدي إلى الإقرار بالتجزئة، والقول بالتجزئة هو عين الجهل به تعالى، ومن هنا يبطل المنطلق الأول الذي هو معرفة الله، ثم يسترسل عليه السلام في ملازمات جهل العبد لله.
وأيضًا هنالك نصوص كثيرة، قد وردت كنتائج يقرّ بها أئمة أهل البيت عليهم السلام، وخاصة في الأدعية المأثورة عنهم، فلو عُدنا لدعاء عرفة للإمام زين العابدين عليه السلام الوارد في الصحيفة السجاديّة، سوف نجده عليه السلام ومن مقام وموقع الإعتراف والكشف عمّا يعتقده في الله، يقول: "أَنْتَ الَّذي لا يَحْويك مَكانٌ، وَلَمْ يَقُمْ لِسُلْطانِك سُلْطانٌ، وَلَمْ يُعْيِك بُرْهانٌ وَلا بَيانٌ، أَنْتَ الَّذيأَحْصَيْتَ كُلَّ شَيء عَدَداً، وَجَعَلْتَ لِكُلِّ شَيء أَمَداً، وَ قَدَّرْتَ كُلَ شَيء تَقْديراً، أَنْتَ الَّذي قَصُرَتِ الاْوْهامُ عَنْ ذاتِيَّتِك، وَعَجَزَتِ الاْفْهامُ عَنْ كَيْفِيَّتِك، وَلَمْ تُدْرِك الاْبْصارُ مَوْضِعَ أَيْنِيَّتِك، أَنْتَ الَّذيلا تُحَّدُّ فَتَكُونَ مَحْدُوداً، ولَمْ تُمَثَّلْ فَتَكُونَ مَوْجُوداً، وَلَمْ تَلِدْ فَتَكُونَ مَوْلُوداً"، فهو عليه السلام، يكشف أنّ العقول تعجز عن بلوغ شؤون ذاته، وكذلك تعجز عن دَرْكِ صفاته وعوارضه، بحيث لا يصحّ حدّهُ تعالى بحدٍّ، ولا التمثيل له بشيء ليكون موجودًا.
فالتأمّل السليم والكثير من النصوص الدينيّة توصلنا لحقيقة أنّ المولى تعالى في واقع حقيقته أعلى وأكبر من أن يُوصَفَ بوَصْفٍ، وتكشف لنا عدم صحّة جريان الصّفة على الحقيقة الإلهيّة المتعاليّة عن شؤون الوجود والموجودات، غير أنّه يبقى أمامنا تفسير وصف المولى تعالى لنفسه في القرآن، وكذلك وُرُود جملة من الأحاديث المثبتة للصّفة لله.
وعليه فيمكن لنا أن نقول في تفسير ذالك بأنّ وصف الله نفسه للإنسان في القرآن الكريم، يعود بالأساس لنقص وضعف في الإنسان من جهة، وبالتحديد في تلك الفطرة التي فطر الله عليها تركيبة الإنسان، ولضعفٍ ومحدوديّةٍ في النِّظام اللّغوي الذي هو أداة التواصل المعتمدة في مقام تواصل المولى تعالى مع عباده من بني الإنسان من جهة أخرى، أما العجز والضعف البشري، فيتمثل لنا على مستوايين:
• المستوى الأول من الضعف البشري: فيتمثّل في محدوديّة عمل النِّظام الإدراكي لدى الإنسان، فالعقل البشري لا يمكنه أن يتصّور أيّ موجودٍ ما لم يكن هذا الموجود له القابليّة لانطباق المقولات الجوهريّة أو العرضية عليه، فكلّ الموجودات التي تكون خارجة عن تلك المقولات العقليّة، فالعقل لا يمكن له أن يتصورها.
• المستوى الثاني من العجز البشري: يتمثّل في عدم قدرة الإنسان على ترتيب آثار عملية كالإرتباط والتسليم وبالتالي التَعبُّد لشيء لا يمكن له أن يتصوّره بأي نحو من أنحاء التّصوّر، لوضوح أنّ هذا الشيء سيكون عند ذالك في خانة المجهولات.
أمّا الضعف والمحدوديّة في النظام اللّغوي الراجع في الحقيقة لمحدودية المعاني والمفاهيم التي تمثّل المادّة المقوّمة لحركة الفكر عند الإنسان، هذه المحدودية، تعود لكونها لم تُجعل من الجاعل الأول وهو الله، إلا لتطال عوالم الموجودات، لا أن تتجاوز إلى عالم المُوجَد الواجب، وبالتالي فالمفاهيم عند الإنسان التي من خلالها يَفْهَم ويُفهِّم، مرتبطة بعالم الموجودات المفتقرة لمن يوجدها.
وبناءا على ما تقدّم، ولكي يتمكّن الإنسان من الإرتباط والتعبُّد لله، وبالتالي ترتيب تلك الآثار العملية المكلّف بها العبد، وكذلك ولأجل مراعاة الطبيعة النظاميّة التي يعمل بها العقل البشري، وأيضا ولقصور النظام اللّغوي المعمول به في التواصل بين المولى تعالى وعباده من بني الإنسان، لا يوجد أفضل من طريق الصِّفات ليُحقّق المولى تعالى النتائج التي تساعد على تجاوز الضعف والنقص الحاصل للإنسان وللنظام اللّغوي الذي يتواصل من خلاله بالإنسان، فنحن لو تأمّلنا جيدا في الطرق المحتملة والموصلة للإنسان نحو تحقيق المعرفة بالله، سنجد أنّ أسلمها وأقلّها سلبية على عموم بني الإنسان بمختلف مستوياتهم، هو طريق الصّفة، لوضوح أن العقل يسهل له إدراك الصّفة دون الحاجة لإدراك كنهها.
وعليه، فالمولى اعتمد التوصيف ليُقرّب لنا نحن بني الإنسان حقيقته، وبالتالي يتحقّق منّا الإرتباط الصالح لترتيب الآثار العمليّة، لضعفٍ فينا نحن، ومراعاة لما عليه تركيبتنا وعملها، خاصة أنّه حكم بحكمته وعدله، أنّ يكون للإنسان جانب من الإختيار في تحديد مصيره المرتبط بالإيمان بالله من عدمه، وكذلك حكم أن تجري الأمور في عوالم الدنيا ضمن مسبّباتها، وإلاّ فالمولى قادر على أن يوجد طريقًا آخر لنعرفه من خلاله، كأن يجبلنا ويفطرنا على ضرورة الإيمان به، وضرورة الطاعة له، وهو تعالى قد أشار لهذين الأمرين، حين قال: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ))(يونس ـ99)، وعندما قال: ((لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ(4))(الشعراء ـ 3-4).
وكذلك الحال مع أئمة أهل البيت عليهم السلام فهم وبعد أن أرشدوا النّاس إلى عدم الاقتراب والتدبّر في الذّات الإلهية، لعدم قدرة العقل البشري على تصورها، وبالتالي فكل تصّور يمكن أن يصل له العقل هو في آخر الأمر لا علاقة له بحقيقة المولى تعالى، بل إرشادهم إلى تجنُّب التأمّل في الذّات يعود إلى تلك المفاسد الكبيرة المترتبة على التصوّرات الوهميّة للذّات الصمديّة، لوضوح أنّ هذه التوهمات ستنسف كلّ المباني الحقّة التي تقوم عليها حقيقة التوحيد، التي جُعلت أساسا لكل الدين الإسلامي.
فبعد نهيهم وإرشادهم على عدم الإقتراب من الذّات، حثُّوا النّاس على التوجّه بالتأمل في الصّفات المولويّة، بشرط أن لا نتصوّرها بنفس تصوّرنا لصفات الموجود الممكن، وكذلك وجّهوا النّاس إلى إثبات الصّفات الكمالية للمولى تعالى التي وصف بها نفسه، ونفي الصّفات التي توجب النّقص فيه تعالى، وأيضَا بشرط أن تكون نسبتنا للصّفات الكمالية إليه تعالى بدون كيف، ولجوئهم لحثّ النّاس على سلوك طريق الصّفةِ في السّير نحو اكتساب معرفة الخالق المُوجِد، لكونها أقلّ الطرق إيقاعًا في الضلالات والإنحرافات الفكرية العقليّة اتجاه المولى تعالى، وبالتالي يحققّون غاية معرفة النّاس بربّهم التي تتوقف عليها حالة الإرتباط التي هي الأخرى الركيزة والأرضية لترتيب الآثار العملية من قِبَل الإنسان، و هي ما نعبّر عنه بالتكاليف الشرعيّة الدينيّة، وكذلك لإخراج النّاس من حدِّ التعطيل، الذي هو الآخر منزلق كبير يؤدي إلى الجهل بالمولى تعالى، وبالتالي يفكّك كل الروابط التي يفترض أن تربط بين العبد وربّه، وهذا بطبعه سوف يؤدي إلى إبطال أصل الغاية من معرفة الله.
وعندما واجهوا أئمة أهل البيت عليهم السلام مشكلة الثنائية بين الذّات والصّفات، ولعلمهم بعدم قدرة العقل على الوصول لشؤون المولى تعالى من جهة، وعدم صدق انطباق الصّفة على حقيقة المولى تعالى الواقعيّة، قدّموا لمن سألهم أجوبةً، لو تتبّعناها وتأمّلناها لوجودناها من الأجوبة التي تُصنّف على كونها إسكاتيّة، لا هي من الأجوبة البيانيّة التفصيليّة، وذالك بناءا على قاعدة «أُمرنا بأنّ نخاطب النّاس على قدر عقولهم».
وخلاصة كل ما تقدّم:
بعد أن عرفنا أن الشؤون المولوية للمُوجِد خارجة عن نُظم الوجود وما يحتويه من قوانين ومبادئ، وكذلك بعد أن عرفنا أنّه ليس من كمال التوحيد أن نحمل الصّفة على المولى تعالى متوهّمين أنّ حملها عليه كحملها على الإنسان، وأيضا بعد أن مُنعنا عن الاقتراب من الذّات، وكذلك حُذِّرنا من الوقوع والغرق في مستنقع التعطيل، من خلال إبطال طريق الصّفات.
بعد هذا كله؛ نأتي لنلخّص بأن تَمسُّكنا بالصفات كطريق للقرب من معرفة الله، لا يعني أنّ للمولى صفات في واقع حقيقته، بل هو أجلّ وأسمى من أن يُنعت بالصّفات أو حتى بالذّات، وذلك لوضوح أنّ نفس مفهوم الذّات و مفهوم الصّفات، وكذلك تلك الثنائية القائمة بينهما والتي لا يقدر العقل إلّا أن يحكم من خلالها بالتغاير بين الذّات والصّفات، هذه الأمور هي في الحقيقة من الشؤون العقلية، وهي في العقل عبارة عن مَرَايَا متغايرة يتمّ من خلالها إدراك وتنظيم مؤدياتها المتباينة في الوجود الخارجي للممكِنات، وبالتالي فهي محض شؤون عقليّة متعلّقة ومتطابقة مع الموجودات الممكنة «المخلوقات» في الخارج، بل إنّ جعلها في العقل كمرايا كاشفة عن الواقع الخارجي للممكنات، لا يعني أنّها محض اعتبار عقلي، بل تعني أنّ لها مؤدى واقعي في الوجود الخارجي للممكنات، وهذا الأمر لا يمكن أن يحصل في واقع الحقيقة المولويّة، لوضوح أنّ واقع الحقيقة المولويّة خارج عن نطاق القوانين الحاكمة في الوجود العقلي و الخارجي.
وإلى هنا نصل إلى فهم ذاك المعنى الذي صرّح به الأئمة عليهم السلام حينما قالوا: "أنّ صفاته تعالى عين ذاته"، فهم يلفتوننا إلى حقيقة أنّ التكثّر بين الذّات والصّفات راجع إلى التكثّر الحاصل لوجودها في العقل كمرايا كاشفة عن تكثر مؤدّياتها في الواقع الخارجي للممكنات، وبالتالي فإذا اضررنا ـ ونحن كذلك ـ للتوجّه نحو الحقيقة المولويّة بهذا العقل المتكثّرة والمتغايرة فيه الذّات والصّفات، يجب أن لا ننخدع فنتوهم بأنّ مؤداها في الحقيقة المولويّة متكثّرة ومتغايرة، كما هو الحال في الواقع الخارجي للمكنات، بل مؤدّاها في الحقيقة المولوية يكون واحدًا لخصوصية متعلّق بشؤون المولى تعالى.
فالعقل يحكم وهو صادق في ذلك، بأنّ الصّفة وحقيقة مؤدّاها متباينتان ومتغايرتان عن الذّات وحقيقة مؤدّاها في العقل والخارج، حينما يتعلّق الأمر بالتوجّه نحو عالم الممكنات، أمّا مع توجّه العقل نحو الحقيقة المولويّة، فإن الصّفة والذّات متغايرتان ومتباينتان فقط في العقل، أمّا متعلّق مؤدى الصّفة ومتعلّق مؤدى الذّات فهما حقيقة واحدة لا تكثّر فيها، وبالتالي فمتعلّق مؤدى الصّفة هو عينّه متعلّق مؤدى الذّات حين التوجه والحديث عن الحقيقة المولويّة.
ومن هنا نكون قد فهمنا ذاك المعنى الذي أرشدوا إليه أئمة أهل البيت عليهم السلام، خروجا من حدّ التعطيل، وكذلك تجنّبا للوقوع في التركيب، والذي هو جواب إسكاتي لعلّمهم المسبق بأنّ شؤون الحقيقة المولويّة خارجة بالأساس والأصل عن كل تلك القوانين والضوابط المحكوم بها العقل والوجود الخارجي.
فهم بجوابهم هذا يحاولون أن يسكتوا السائل من خلال إظهار حقيقة أنّه أعجز من أن يخوض في مثل هذه الشؤون، ومع إصراره السائل يكونوا قد قدّموا له التقريب الأنسب اتجاه مسألة الذات والصّفات، بحيث يُجَنِّبُون إدراكات الإنسان ـ العاجزة عن الوصول للشّأن المولوي ـ من الوقوع في حالة التوهم والخديعة، التي يمكن أن تسببها نظم عمل العقول.
فقالوا لهم: أنّ متعلّق مؤدى الصّفة التي هي مرآة عقلية نفس وعين المتعلّق لمؤدَّى الذّات التي هي أيضا مرآة عقلية، إذا تعلّقا بالحقيقة المولوية، وذلك بخالف ماعليه الصّفة والذّات إذا تعلّقا بالموجودات الممكنة، لوضوح أنّ المولى تعالى في واقع حقيقته أكبر وأعلى وأسمى من أن يوصوف أو يحدّ أو يُنعت أو تطال شؤونه العقول المحدودة بالحدود، وبالتالي فالصّفات هي مجرد أداة وطريق استلزمه واستوجبه الضعف والنُّقص البشري لمعرفة الله، التي يتوقف عليها تحقُّق كل تلك التكاليف الدينيّة.
وبهذا الجواب نكون قد حللنا مسألة الثنائية، وبالتالي التركيب الذي يفرضه علينا العقل من خلال نظامه الخاضع له، فالتركيب والثنائية لا يمكن فرضه في الحقيقة المولوية، لوضوح أنّه راجع بالأساس للعقل البشري، الذي جعلت قوانينه لتتواءم وتتكامل مع الواقع الخارجي للموجودات الممكنة، لا أن تطال العوالم الخارجة عن الوجود الممكن.
حبيب مقدم
ولعلنا لو حاولنا دراسة الإختلافات الجزئية الحاصلة بين أبرز وأهم المدارس الكلامية الإسلامية، سنجد أنّها لا تعود للإختلاف في المصدر الذي منه يتم استقاء المعارف الكلامية العقائديّة، بل الخلاف بالأساس يعود إلى أفهام وكيفية تصوَّر أصحاب هذه المدارس للمسائل العقائدية نفسها، فكل المدارس المعتبرة في الإسلام، تتفق على النقل والعقل كأهمّ مصدرين في تشييد المسائل العقائديّة، وكذلك نراهم يتفقون على أمهات المسائل العقائديّة، فالرب هو الله عزّ وجل، والنّبي هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، والكتاب هو القرآن، والدين هو الإسلام، وكذلك نراهم يتفقون على ضرورة الإعتقاد بالله، والنّبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وباقي الأنبياء والرُّسل عليهم السلام، وكذلك الملائكة عليهم السلام والكتب السماويّة الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن، وأيضا يعتقدون بالحياة والموت والنشور والحساب والثواب والعقاب، واليوم الآخرة... إلخ، ولكنّنا سنجد أنّه وعندما بدأت حركة ترتيب وتبويب وتنظيم المعارف الإسلاميّة المتعلّقة بالدين الإسلامي، وبالتحديد تلك المعارف التي تتعلّق بالجانب العقائدي، بدأت تظهر بعض الخلافات بين المدارس في تصوّراتهم للمطالب والمسائل الاعتقادية، وكذلك امتدّ الخلاف لترتيب وتنظيم الأصول العقائديّة عن الفروع.
ونحن اليوم سوف نتعرّض لمسألة في غاية الأهميّة، وقد وقع الإختلاف في كيفيّة معالجتها من مدرسة إلى أخرى ومن عقل لآخر، وهي مسألة الثنائية بين الذّات والصّفات عند الخالق المُوجد، والتي تتعارض مع أهم ركائز التوحيد، الذي يقتضي بالضرورة أن يكون واجب الوجود «الله» بسيط غير مركب، فالمدارس الأساسيّة في الإسلام تتّفق بأنّ لواجب الوجوب «لله» ذات، بل وأقاموا على ذلك الأدلّة والبراهين، وكذلك أجمعوا على وصف الله بالصّفات وكذلك نفي بعض الصّفات عنه تعالى، وذلك تبعًا لوصف المولى تعالى نفسه في مئات المواضع من القرآن الكريم.
فهذه الثنائية بين الذّات والصّفات، والمتعارضة مع المبدأ التوحيدي المقتضي لبطلان التركيب عن واجب الوجوب «الله» بإجماع السواد الأعظم، كانت من أكبر المعضلات المعرفيّة التي واجهها العقل الإسلامي، وذلك لوضوح عدم قدرة العقل البشري على التمسّك بمبدأ البساطة لواجب الوجود «الله» وعدم تركيبه، في اللّحظة التي يُفترض ويُستدلّ فيها على أنّ لواجب الوجود «الله» ذات وصفات.
وعند بروز هذه المعضلة المعرفية أمام الوعي الإسلامي، شرعت المدارس في إيجاد الطرق المختلفة لعلاجها، ممّا ولّد رأيين عامّين مُتباينين:
• الأول: هو الذي ذهب لإثبات الإثنينيّة بين الذّات والصّفات، وخَرَّجَ قوله بطرق خاصة ليتجنب مشكلات أخرى قد تترتب على القول بالإثنينيّة.
• والثاني : ذهب لنفي الإثنينيّة بين الذّات والصّفات في واجب الوجود «الله»، خلاف ما عليه ممكن الوجود «المخلوق»، وكانت له أيضًا تخريجاته المختلفة فمنهم مَن نفى الصّفات بالمرّة، ومنهم مَن قال أنّ صفات واجب الوجود «الله» هي عين ذاته، وذاته عين صفاته.
والحقّ الذي يمكن أن نشير إليه هنا، والذي لمسناه من خلال التحقيق في أقوالهم حول هذه المسألة وغيرها من المسائل الكلاميّة، هو أنّ حبّ الغلبة والانتصار على المقابل، الذي سيطر على أعلام وأتباع هذه المدارس هو ما أدَّى إلى الفهم الخاطئ لأقوال بعضهم البعض، فكلّ أصحاب مدرسة نجدهم يحاولون وضع فهمهم لأقوال المقابل، دون الرجوع إلى مباني ومنطلقات الطرف المقابل، ولو تمكّنا من تجاوز هذه السلبية المدرسيّة المذهبيّة، سندرك أنّ أقوالهم متقاربة، وكذلك الحال في غاياتهم فهي مشتركة، ولَتمكَّن كل طرف من إدراك أنّ بعض خلافات المتقدمين ـ الراجعة في الحقيقة لمقدار فهمهم وتصوّرهم للمطالب والمسائل ـ هي لفظية أكثر من كونها خلافات معنوية، وكذلك لعَذَرَ في الخلافات المعنويّة كلّ صاحبِ رأيٍ أصحاب الآراء المقابلة له، لوضوح أن تحديد الأفهام والتصوّرات في أغلبها هي نتاج عقول بشريّة تقترب وتبتعد عن الحقيقة بدرجات متفاوتة.
وبالعودة لمقام بحثنا، فالذي خلصنا له من مواقف اتجاه مسألة الثنائية المتحقّقة بين ذات واجب الوجود «الله» وصفاته، هو وجود رأيين متباينين، والمُسلّم به بين أتباع المذهب الجعفري، هو الرأي الذي تضمّنته جملة من النصوص الواردة من أئمة أهل البيت عليهم السلام، وهو الرأي الثاني القائل بالعينيّة بين الذّات والصّفات في واجب الوجود «الله»، في الوقت الذي يثبتون فيه الذّات، وكذلك الصّفات لواجب الوجود «الله» من خلال الدليل العقلي والنقلي.
والحقّ في المقام هو أنّ هذا القول رغم أنّه يجاوزنا ويحلّ لنا معضلة التركيب السابقة، إلاّ أنّه وللوهلة الأولى صريح التعارض مع أحكام العقل البشري، لوضوح عدم تقبّل العقل أن تكون الصّفة بما هي صفة هي عين الموصوف، والموصوف بما هو موصوف هو عين الصّفة، ويؤيّد هذا الكلام، قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، في نهج البلاغة، حيث نجده يقول: "وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الإِخْلاصُ لَهُ، وَكَمَالُ الإِخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَة".
وعليه، فلا بد لنا من طرح بيان وتفصيل ليحلّ ويوضّح لنا مباني ومدلولات كلمات أئمة أهل البيت عليهم السلام، التي وردت في الرّد على من ذهب للتغاير بين الصّفة والذّات، بحيث نتمكن بعد ذلك من بلوغ الحقيقة التي يريد أن يكشف عنها الأئمة عليهم السلام.
ولكي نصل لما سيقودنا إليه التحقيق والتأمل، لابد لنا من التقديم بمقدّمتين:
المقدّمة الأولى هي:
أنّ الفرد البشري وفي إدراكه للأشياء والحقائق الخارجيّة، يستند على جملة من الأدوات والوسائل الحسيّة المحدودة، وهذه الوسائل الحسيّة وفي بلوغها للشيء، تشترط أن يكون هذا الشيء متحصّلا على جملة من الشروط والشؤون الماديّة، ومع عدم توفر هذه الخصائص الماديّة في الشيء الخارجي، سوف يكون هذا الشيء خارجًا عن نطاق قدرة الحواس الإدراكيّة التي يتمتّع بها الكائن البشري.
غير أنّ الإنسان وفي ما يمتلكه من ملكات وقُدرات، لا تقتصر عملية إدراكه على تلك الحدود الضيّقة للحس، بل نجده ومن خلال العقل قادرا على إدراك جملة كبيرة من الحقائق رغم عدم تمكّن الحواس من إدراكها والوصول إليها، كإدراكه للأفعال البشريّة، وكذلك صفاتهم المعنويّة والنفسية.
ورغم تمكّن العقل من تجاوز حدود الحسّ، إلاّ أنّه بقي مقيّدًا ومحكومًا بجملة من القوانين والضوابط والأدوات، فالعقل البشري محكوم بمجموعة من المقولات التي من خلالها يتمكّن من الوصول لتشخيص الحقائق، وبالتالي يتمكّن من وضع الحدود أو الرسوم لها، وهذه المقولات تمثّل للإدراك المِرآة التي من خلالها يُقَوْلَب ذاك التَّكثُر الحاصل للموجودات الخارجيّة، كما سنجد أنّ كل حقيقة خارجة عن نطاق هذه المقولات سيعجز الإدراك البشري على الوصول إليها أو تشخيصها.
المقدّمة الثانية هي:
أنّ الذي أوجد الوجود والموجودات من العدم ضمن قوانين مُحْكمة ودقيقة، بحيث جعلهم خاضعين لهذه القوانين ومُسيّرين على وفق مقتضياتها، وكذلك الذي خلق العقل لغاية إدراك الكون وقوانينه، وجعله يعمل ضمن قانون وضوابط بحيث يتمكن ـ في أقصى فرضٍ ـ من بلوغ الحقيقة الكلّية التي مع اكتسابها يتمكن من الإحاطة بواقع الكون وقوانينه، والتي هي عمليّة ما زال الإنسان عاجزًا عن تحقيقها ليومنا هذا، بل مازال لم يحقّق منها إلاَّ النّسبة التي هي في الواقع غير معتدٍّ بها، ولا هي معتبرة مقايسة بما بقي.
وعليه، فالفرض الصحيح الذي يمكن أن نصل إليه، هو أنّ حقيقة المُوجِد الذي هو المولى تعالى، خارج عن نطاق تلك الشؤون والقوانين والضوابط التي تحكم الكون والعقل، بل هو أعلى وأسمى من أنّ تحُدّه أو تقيّده القوانين التي أوجدها وأوجد معها الموجود، وليس العقل لوحده من يحكم بهذه النتيجة، لوضوح أنّ خضوع واجب الوجود «الله» لهذه القوانين، يؤدي من خلال الحصر العقلي لفرض احتمالين باطلين:
• الأول: أنّ خضوعه للقوانين بسبب حاجته لها، فهذا يؤدي لفرض أنّه ما دام محتاج لها فهو فاقد لها ذاتيًّا، وهو باطل لصدق تلك القاعدتين (قاعدة بطلان التسلسل) و (قاعدة أنّ فاقد الشيء لا يعطيه بالضرورة)، وقد ثبت أنّه تعالى قد أعطاها لغيره بل وهو من يحافظ على استمراريتها، وكذلك أنّه لم يوجَد بموجد آخر.
• الثاني: أنّ خضوعه لها بغير حاجة إليها، وهذا سيؤدي بنا:
أ) إمّا إلى ضرورة تبدّل القوانين لتوائم شؤون واجب الوجود، وبالتالي بطل الفرض الأول الذي هو خضوعه لنفس قوانين وجود الموجودات الممكنة.
ب) وإمّا أن لا تتبدّل هذه القوانين، وبالتالي لا بد من فرض أنّ واجب الوجود «الله» يمتلك نفس الخواص والقابلية التي لدى الموجود الممكن « الإنسان»، بحيث انطبقت عليه هذه القوانين، وهذا أيضا باطل ببطلان التشابه والاشتراك بين واجب الوجود «الله»، وممكن الوجود «الإنسان».
بل حتى أنّه تعالى قد أشار في كتابه إلى حقيقة عُلُوِّه عن قوانين الوجود والعقل، وذلك في آية واضحة الإِحكام، فقال: ((فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))(الشورى ـ11)، حيث نراه في هذه الآية ينفي بالإطلاق أي نحو من أنحاء التشابه بينه وبين كل ما يصدق عنه أنّه شيءٌ، والشيئيّة تساوق معنى الوجود والإختلاف معها فقط في اللّحاظ، كما أنّ اللاشيئيّة تساوق معنى العدم، فمع نفي أي تماثل بينه وبين كل ما تلبّس بالوجود، فهذا يعني أنّه تعالى خارج عن نطاق القوانين التي يفرضها ويحيط بها الوجود، بل إنّ النّصوص القائمة على خروج المولى تعالى عن نطاق قوانين الوجود والعقل كثيرة جدّا، وخاصة في كلمات أهل البيت عليهم السلام.
وهذه بعض أجوبة أئمة أهل البيت عليهم السلام، التي تكشف لنا عن هذه الحقيقة:
فقد ورد حديثًا صحّحًا، مفاده:
• محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن ابن أبي نجران قال: "سألت أبا جعفر عليه السلام عن التوحيد، فقلت:[ إنّني] أتوهم شيئا؟ فقال: نعم، غير معقول ولا محدود، فما وقع وهمك عليه من شئ فهو خلافه، لا يشبهه شئ، ولا تدركه الأوهام، كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل، وخلاف ما يتصور في الأوهام؟! إنما يتوهم شئ غير معقول ولا محدود"، فعبارة الإمام واضحة في كونه تعالى لا يشبهه شيء، ولا تدركه التصوّرات العقليّة، ويخلُص في آخر كلامه إلى أنّ المولى في واقع شؤون حقيقته من غير المعقولات، ولا هو من المحدودات، وبالتالي إن تمكّن الفرد من أن يدرك غير المعقول وغير الحدود، فعندها فقط يمكنه أن يدرك المولى تعالى، وهذا ممّا تعجز عنه بالضرورة العقول.
وفي حديث صحيحٍ آخر:
• عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان، عن زرارة بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إن الله خلو من خلقه، وخلقه خلو منه، وكل ما وقع عليه اسم شيء ما خلا الله، فهو مخلوق، والله خالق كل شيء تبارك الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ـ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير)".
وبالتالي فمن كانت حقيقته خارجة عن نطاق قوانين الكون وبالتبع العقل، فهو غير قابل للإدراك، بل يستحيل على العقل أن يبلغ أو يصل إلى أيّ شأنٍ من شُؤُونه.
النتيجة: المفترضة من المقدّمات:
بعد أن أدركنا محدودية العقل في الإدراك والتصوّر، وأنّ أقصى ما يمكن أن يبلغ له العقل هو أن يحيط بالكون والقوانين التي تسيّره، وأنّ المُوجِدَ للوُجُودِ والمَوْجُودِ هو خارج عن نطاق الحدود والقوانين الحاكمة في الكون فضلا عن العقل، بعد هذا سنصل لنتيجة أنّه تعالى يستحيل أن يتم إدراك حقيقته من العقل أو البلوغ إلى معرفة شؤونه الواقعيّة.
وهذه النتيجة التي أوصلنا لها التأمّل العقلي من خلال المقدّمات السابقة، تتعارض في الوهلة الأولى مع مسألة أنّ المولى تعالى قد وصف نفسه في عشرات المواضع القرآنية، وكذلك مع تلك الروايات التي تثبت وتحثّ على التدبّر في الصّفات، وبالتالي نكون أمام تساؤل في غاية الأهمّية وهو "كيف يستحيل أن ندرك أي شأن من شؤونه تعالى، وهو قد تحّدث للنّاس عن نفسه، ووصفها بجملة كبيرة من الصّفات التي يمكن للعقول أن تدركها، بل وتضع لها الحدود أيضًا؟".
وفي مقام الجواب، يأتي طرحنا الذي نود الإشارة إليه في معرض الحديث عن موضوع المقال:
نعم، المولى تعالى أجلُّ وأسمى وأعلى من أن يدرك العقل شأنٍ من شؤونه، بل حقيقته الواقعيّة خارجة عن نطاق عمل العقل فضلاً عن الوجود، وبالتالي فهو في الواقع أكبر وأعلى من أن يُوصَفَ بِوَصْفٍ، ويُحَدَّ بِحَدٍّ عقلي، وهو منزّه واقعًا من كلِّ صفة أو حدٍّ، لوضوح أنّ الصّفات والحدود من شؤون الموجودات الموجُودَة بوجود هي مفتقرة إليه، وهذا نفهمه من الحديث المنسوب للإمام الباقر عليه السلام، وقد ذكره المجلسي فقال: "كل ما مَيَّزْتُمُوهُ بأوهامكم في أدقِّ معانيه [هو] مخلوق مصنوع مثلكم، مردود إليكم، ولعل النَّمل الصِّغار تتوهَّم أنّ لله تعالى زَبَانِيَتَين، فإنّ ذلك كمالها، ويتوهَّم أنّ عدمها نُقْصان لمن لا يتَّصف بهما"، فهنا يوضّح الإمام بصريح العبارة أنّ كل ما يمكن أن يتصوّره العقل اتجاه حقيقة المولى تعالى هو غير منطبقٍ عليه في الواقع، ويضرب مثال النّملة التي ترى بأنّ قرون الإستشعار هما من الكمالات، وبالتالي فقد تكون النّملة أيضا ترى بأنّ للمولى تعالى قرونُ استشعارٍ، لتصوّرها المسبق بأنّهما من الكمالات لها ولأبناء جنسها، وبالتالي لا بد من نسبة هذه الكمالات للمولى تعالى.
وكذلك نفهمه من كلمات الإمام علي عليه السلام السابقة عندما قال: "أوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْديقُ بِهِ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الاْخْلاصُ لَهُ، وَكَمَالُ الاِخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَة أَنَّها غَيْرُ المَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوف أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ،وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَد جَزَّأَهُ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ، وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أشَارَ إِلَيْهِ وَمَنْ أشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ، وَمَنْ قَالَ: «فِيمَ» فَقَدْ ضَمَّنَهُ، وَمَنْ قَالَ: «عَلاَمَ؟» فَقَدْ أَخْلَى مِنُهُ، كائِنٌ لاَ عَنْ حَدَث، مَوْجُودٌ لاَ عَنْ عَدَم، مَعَ كُلِّ شَيْء لاَ بِمُقَارَنَة، وَغَيْرُ كُلِّ شيء لا بِمُزَايَلَة، فَاعِلٌ لا بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ وَالاْلةِ، بَصِيرٌ إذْ لاَ مَنْظُورَ إلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، مُتَوَحِّدٌ إذْ لاَ سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بهِ وَلاَ يَسْتوْحِشُ لِفَقْدِهِ".
فهو عليه السلام يقرّر لنا جملة من الحقائق المرتبط بعضها ببعض، فيشير إلى أنّ أساس الدين أن يعرف العبد ربّه، ومعرفته تعالى لن تكتمل إلاّ بعد التّصديق والتسليم به، والتصديق به لن يكتمل إلاّ من خلال توحيده، وتوحيد العبد لربِّه لا يمكن أن يكون كاملاً، إلاّ بعد أن يتحقّق الإخلاص الكامل له، وهذا الإخلاص المتوقف عليه اكتمال التوحيد، لن يكتمل إلاّ بعد أن يصل العبد إلى المرتبة التي معها ينفي كلّ صفة عن المولى تعالى، بل ويستدلّ على هذه الحقيقة بجملة من الأحكام العقليّة، فيقرّر بأنّ الصّفة مغايرة للموصوف، والموصوف مغايرٌ للصّفة، وبالتالي فوصفه تعالى بالصّفة يؤدي للقول بالتركيب وأنّ الصّفة قد اقترنت مع الذات في الله، والقول بالقَرْنِ، يقتضي التسليم بالتثنية في الله، والتثنية تؤدي إلى الإقرار بالتجزئة، والقول بالتجزئة هو عين الجهل به تعالى، ومن هنا يبطل المنطلق الأول الذي هو معرفة الله، ثم يسترسل عليه السلام في ملازمات جهل العبد لله.
وأيضًا هنالك نصوص كثيرة، قد وردت كنتائج يقرّ بها أئمة أهل البيت عليهم السلام، وخاصة في الأدعية المأثورة عنهم، فلو عُدنا لدعاء عرفة للإمام زين العابدين عليه السلام الوارد في الصحيفة السجاديّة، سوف نجده عليه السلام ومن مقام وموقع الإعتراف والكشف عمّا يعتقده في الله، يقول: "أَنْتَ الَّذي لا يَحْويك مَكانٌ، وَلَمْ يَقُمْ لِسُلْطانِك سُلْطانٌ، وَلَمْ يُعْيِك بُرْهانٌ وَلا بَيانٌ، أَنْتَ الَّذيأَحْصَيْتَ كُلَّ شَيء عَدَداً، وَجَعَلْتَ لِكُلِّ شَيء أَمَداً، وَ قَدَّرْتَ كُلَ شَيء تَقْديراً، أَنْتَ الَّذي قَصُرَتِ الاْوْهامُ عَنْ ذاتِيَّتِك، وَعَجَزَتِ الاْفْهامُ عَنْ كَيْفِيَّتِك، وَلَمْ تُدْرِك الاْبْصارُ مَوْضِعَ أَيْنِيَّتِك، أَنْتَ الَّذيلا تُحَّدُّ فَتَكُونَ مَحْدُوداً، ولَمْ تُمَثَّلْ فَتَكُونَ مَوْجُوداً، وَلَمْ تَلِدْ فَتَكُونَ مَوْلُوداً"، فهو عليه السلام، يكشف أنّ العقول تعجز عن بلوغ شؤون ذاته، وكذلك تعجز عن دَرْكِ صفاته وعوارضه، بحيث لا يصحّ حدّهُ تعالى بحدٍّ، ولا التمثيل له بشيء ليكون موجودًا.
فالتأمّل السليم والكثير من النصوص الدينيّة توصلنا لحقيقة أنّ المولى تعالى في واقع حقيقته أعلى وأكبر من أن يُوصَفَ بوَصْفٍ، وتكشف لنا عدم صحّة جريان الصّفة على الحقيقة الإلهيّة المتعاليّة عن شؤون الوجود والموجودات، غير أنّه يبقى أمامنا تفسير وصف المولى تعالى لنفسه في القرآن، وكذلك وُرُود جملة من الأحاديث المثبتة للصّفة لله.
وعليه فيمكن لنا أن نقول في تفسير ذالك بأنّ وصف الله نفسه للإنسان في القرآن الكريم، يعود بالأساس لنقص وضعف في الإنسان من جهة، وبالتحديد في تلك الفطرة التي فطر الله عليها تركيبة الإنسان، ولضعفٍ ومحدوديّةٍ في النِّظام اللّغوي الذي هو أداة التواصل المعتمدة في مقام تواصل المولى تعالى مع عباده من بني الإنسان من جهة أخرى، أما العجز والضعف البشري، فيتمثل لنا على مستوايين:
• المستوى الأول من الضعف البشري: فيتمثّل في محدوديّة عمل النِّظام الإدراكي لدى الإنسان، فالعقل البشري لا يمكنه أن يتصّور أيّ موجودٍ ما لم يكن هذا الموجود له القابليّة لانطباق المقولات الجوهريّة أو العرضية عليه، فكلّ الموجودات التي تكون خارجة عن تلك المقولات العقليّة، فالعقل لا يمكن له أن يتصورها.
• المستوى الثاني من العجز البشري: يتمثّل في عدم قدرة الإنسان على ترتيب آثار عملية كالإرتباط والتسليم وبالتالي التَعبُّد لشيء لا يمكن له أن يتصوّره بأي نحو من أنحاء التّصوّر، لوضوح أنّ هذا الشيء سيكون عند ذالك في خانة المجهولات.
أمّا الضعف والمحدوديّة في النظام اللّغوي الراجع في الحقيقة لمحدودية المعاني والمفاهيم التي تمثّل المادّة المقوّمة لحركة الفكر عند الإنسان، هذه المحدودية، تعود لكونها لم تُجعل من الجاعل الأول وهو الله، إلا لتطال عوالم الموجودات، لا أن تتجاوز إلى عالم المُوجَد الواجب، وبالتالي فالمفاهيم عند الإنسان التي من خلالها يَفْهَم ويُفهِّم، مرتبطة بعالم الموجودات المفتقرة لمن يوجدها.
وبناءا على ما تقدّم، ولكي يتمكّن الإنسان من الإرتباط والتعبُّد لله، وبالتالي ترتيب تلك الآثار العملية المكلّف بها العبد، وكذلك ولأجل مراعاة الطبيعة النظاميّة التي يعمل بها العقل البشري، وأيضا ولقصور النظام اللّغوي المعمول به في التواصل بين المولى تعالى وعباده من بني الإنسان، لا يوجد أفضل من طريق الصِّفات ليُحقّق المولى تعالى النتائج التي تساعد على تجاوز الضعف والنقص الحاصل للإنسان وللنظام اللّغوي الذي يتواصل من خلاله بالإنسان، فنحن لو تأمّلنا جيدا في الطرق المحتملة والموصلة للإنسان نحو تحقيق المعرفة بالله، سنجد أنّ أسلمها وأقلّها سلبية على عموم بني الإنسان بمختلف مستوياتهم، هو طريق الصّفة، لوضوح أن العقل يسهل له إدراك الصّفة دون الحاجة لإدراك كنهها.
وعليه، فالمولى اعتمد التوصيف ليُقرّب لنا نحن بني الإنسان حقيقته، وبالتالي يتحقّق منّا الإرتباط الصالح لترتيب الآثار العمليّة، لضعفٍ فينا نحن، ومراعاة لما عليه تركيبتنا وعملها، خاصة أنّه حكم بحكمته وعدله، أنّ يكون للإنسان جانب من الإختيار في تحديد مصيره المرتبط بالإيمان بالله من عدمه، وكذلك حكم أن تجري الأمور في عوالم الدنيا ضمن مسبّباتها، وإلاّ فالمولى قادر على أن يوجد طريقًا آخر لنعرفه من خلاله، كأن يجبلنا ويفطرنا على ضرورة الإيمان به، وضرورة الطاعة له، وهو تعالى قد أشار لهذين الأمرين، حين قال: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ))(يونس ـ99)، وعندما قال: ((لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ(4))(الشعراء ـ 3-4).
وكذلك الحال مع أئمة أهل البيت عليهم السلام فهم وبعد أن أرشدوا النّاس إلى عدم الاقتراب والتدبّر في الذّات الإلهية، لعدم قدرة العقل البشري على تصورها، وبالتالي فكل تصّور يمكن أن يصل له العقل هو في آخر الأمر لا علاقة له بحقيقة المولى تعالى، بل إرشادهم إلى تجنُّب التأمّل في الذّات يعود إلى تلك المفاسد الكبيرة المترتبة على التصوّرات الوهميّة للذّات الصمديّة، لوضوح أنّ هذه التوهمات ستنسف كلّ المباني الحقّة التي تقوم عليها حقيقة التوحيد، التي جُعلت أساسا لكل الدين الإسلامي.
فبعد نهيهم وإرشادهم على عدم الإقتراب من الذّات، حثُّوا النّاس على التوجّه بالتأمل في الصّفات المولويّة، بشرط أن لا نتصوّرها بنفس تصوّرنا لصفات الموجود الممكن، وكذلك وجّهوا النّاس إلى إثبات الصّفات الكمالية للمولى تعالى التي وصف بها نفسه، ونفي الصّفات التي توجب النّقص فيه تعالى، وأيضَا بشرط أن تكون نسبتنا للصّفات الكمالية إليه تعالى بدون كيف، ولجوئهم لحثّ النّاس على سلوك طريق الصّفةِ في السّير نحو اكتساب معرفة الخالق المُوجِد، لكونها أقلّ الطرق إيقاعًا في الضلالات والإنحرافات الفكرية العقليّة اتجاه المولى تعالى، وبالتالي يحققّون غاية معرفة النّاس بربّهم التي تتوقف عليها حالة الإرتباط التي هي الأخرى الركيزة والأرضية لترتيب الآثار العملية من قِبَل الإنسان، و هي ما نعبّر عنه بالتكاليف الشرعيّة الدينيّة، وكذلك لإخراج النّاس من حدِّ التعطيل، الذي هو الآخر منزلق كبير يؤدي إلى الجهل بالمولى تعالى، وبالتالي يفكّك كل الروابط التي يفترض أن تربط بين العبد وربّه، وهذا بطبعه سوف يؤدي إلى إبطال أصل الغاية من معرفة الله.
وعندما واجهوا أئمة أهل البيت عليهم السلام مشكلة الثنائية بين الذّات والصّفات، ولعلمهم بعدم قدرة العقل على الوصول لشؤون المولى تعالى من جهة، وعدم صدق انطباق الصّفة على حقيقة المولى تعالى الواقعيّة، قدّموا لمن سألهم أجوبةً، لو تتبّعناها وتأمّلناها لوجودناها من الأجوبة التي تُصنّف على كونها إسكاتيّة، لا هي من الأجوبة البيانيّة التفصيليّة، وذالك بناءا على قاعدة «أُمرنا بأنّ نخاطب النّاس على قدر عقولهم».
وخلاصة كل ما تقدّم:
بعد أن عرفنا أن الشؤون المولوية للمُوجِد خارجة عن نُظم الوجود وما يحتويه من قوانين ومبادئ، وكذلك بعد أن عرفنا أنّه ليس من كمال التوحيد أن نحمل الصّفة على المولى تعالى متوهّمين أنّ حملها عليه كحملها على الإنسان، وأيضا بعد أن مُنعنا عن الاقتراب من الذّات، وكذلك حُذِّرنا من الوقوع والغرق في مستنقع التعطيل، من خلال إبطال طريق الصّفات.
بعد هذا كله؛ نأتي لنلخّص بأن تَمسُّكنا بالصفات كطريق للقرب من معرفة الله، لا يعني أنّ للمولى صفات في واقع حقيقته، بل هو أجلّ وأسمى من أن يُنعت بالصّفات أو حتى بالذّات، وذلك لوضوح أنّ نفس مفهوم الذّات و مفهوم الصّفات، وكذلك تلك الثنائية القائمة بينهما والتي لا يقدر العقل إلّا أن يحكم من خلالها بالتغاير بين الذّات والصّفات، هذه الأمور هي في الحقيقة من الشؤون العقلية، وهي في العقل عبارة عن مَرَايَا متغايرة يتمّ من خلالها إدراك وتنظيم مؤدياتها المتباينة في الوجود الخارجي للممكِنات، وبالتالي فهي محض شؤون عقليّة متعلّقة ومتطابقة مع الموجودات الممكنة «المخلوقات» في الخارج، بل إنّ جعلها في العقل كمرايا كاشفة عن الواقع الخارجي للممكنات، لا يعني أنّها محض اعتبار عقلي، بل تعني أنّ لها مؤدى واقعي في الوجود الخارجي للممكنات، وهذا الأمر لا يمكن أن يحصل في واقع الحقيقة المولويّة، لوضوح أنّ واقع الحقيقة المولويّة خارج عن نطاق القوانين الحاكمة في الوجود العقلي و الخارجي.
وإلى هنا نصل إلى فهم ذاك المعنى الذي صرّح به الأئمة عليهم السلام حينما قالوا: "أنّ صفاته تعالى عين ذاته"، فهم يلفتوننا إلى حقيقة أنّ التكثّر بين الذّات والصّفات راجع إلى التكثّر الحاصل لوجودها في العقل كمرايا كاشفة عن تكثر مؤدّياتها في الواقع الخارجي للممكنات، وبالتالي فإذا اضررنا ـ ونحن كذلك ـ للتوجّه نحو الحقيقة المولويّة بهذا العقل المتكثّرة والمتغايرة فيه الذّات والصّفات، يجب أن لا ننخدع فنتوهم بأنّ مؤداها في الحقيقة المولويّة متكثّرة ومتغايرة، كما هو الحال في الواقع الخارجي للمكنات، بل مؤدّاها في الحقيقة المولوية يكون واحدًا لخصوصية متعلّق بشؤون المولى تعالى.
فالعقل يحكم وهو صادق في ذلك، بأنّ الصّفة وحقيقة مؤدّاها متباينتان ومتغايرتان عن الذّات وحقيقة مؤدّاها في العقل والخارج، حينما يتعلّق الأمر بالتوجّه نحو عالم الممكنات، أمّا مع توجّه العقل نحو الحقيقة المولويّة، فإن الصّفة والذّات متغايرتان ومتباينتان فقط في العقل، أمّا متعلّق مؤدى الصّفة ومتعلّق مؤدى الذّات فهما حقيقة واحدة لا تكثّر فيها، وبالتالي فمتعلّق مؤدى الصّفة هو عينّه متعلّق مؤدى الذّات حين التوجه والحديث عن الحقيقة المولويّة.
ومن هنا نكون قد فهمنا ذاك المعنى الذي أرشدوا إليه أئمة أهل البيت عليهم السلام، خروجا من حدّ التعطيل، وكذلك تجنّبا للوقوع في التركيب، والذي هو جواب إسكاتي لعلّمهم المسبق بأنّ شؤون الحقيقة المولويّة خارجة بالأساس والأصل عن كل تلك القوانين والضوابط المحكوم بها العقل والوجود الخارجي.
فهم بجوابهم هذا يحاولون أن يسكتوا السائل من خلال إظهار حقيقة أنّه أعجز من أن يخوض في مثل هذه الشؤون، ومع إصراره السائل يكونوا قد قدّموا له التقريب الأنسب اتجاه مسألة الذات والصّفات، بحيث يُجَنِّبُون إدراكات الإنسان ـ العاجزة عن الوصول للشّأن المولوي ـ من الوقوع في حالة التوهم والخديعة، التي يمكن أن تسببها نظم عمل العقول.
فقالوا لهم: أنّ متعلّق مؤدى الصّفة التي هي مرآة عقلية نفس وعين المتعلّق لمؤدَّى الذّات التي هي أيضا مرآة عقلية، إذا تعلّقا بالحقيقة المولوية، وذلك بخالف ماعليه الصّفة والذّات إذا تعلّقا بالموجودات الممكنة، لوضوح أنّ المولى تعالى في واقع حقيقته أكبر وأعلى وأسمى من أن يوصوف أو يحدّ أو يُنعت أو تطال شؤونه العقول المحدودة بالحدود، وبالتالي فالصّفات هي مجرد أداة وطريق استلزمه واستوجبه الضعف والنُّقص البشري لمعرفة الله، التي يتوقف عليها تحقُّق كل تلك التكاليف الدينيّة.
وبهذا الجواب نكون قد حللنا مسألة الثنائية، وبالتالي التركيب الذي يفرضه علينا العقل من خلال نظامه الخاضع له، فالتركيب والثنائية لا يمكن فرضه في الحقيقة المولوية، لوضوح أنّه راجع بالأساس للعقل البشري، الذي جعلت قوانينه لتتواءم وتتكامل مع الواقع الخارجي للموجودات الممكنة، لا أن تطال العوالم الخارجة عن الوجود الممكن.
حبيب مقدم
الأكثر قراءة
25874
18683
13875
10739