11 جمادي الاول 1447 هـ   2 تشرين الثاني 2025 مـ 7:00 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-10-21   112

اغتنام الفرص: فلسفة النجاح في ضوء السنن الإلهية

اغتنام الفرص: فلسفة النجاح في ضوء السنن الإلهية


الشيخ معتصم السيد أحمد
الحياة ليست خطاً مستقيماً، بل حركة دائمة وتغير مستمر، تتقاطع فيها الإرادة الإنسانية مع السنن الكونية التي أودعها الله في الوجود. ومن يتأمل مسار التاريخ أو تجارب الأفراد، يدرك أن النجاح ليس صدفة، كما أن الفشل ليس قدَراً محتوماً، بل هو ثمرة طريقة الإنسان في التعامل مع ما يمرّ أمامه من فرص. فالحياة، في جوهرها، سلسلة متصلة من الفرص، والنجاح فيها هو القدرة على اكتشافها واستثمارها، بينما الفشل هو العجز عن رؤيتها أو اغتنامها.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «الأمور مرهونة بأوقاتها»، وفي حديث آخر: «من الخرق المعاجلة قبل الإمكان، والأناة بعد الفرصة». هاتان الكلمتان تختصران علم الحياة كله: فليس في الكون باب مغلق على الدوام، ولا رزق مقطوع، ولكن لكل باب وقت، ولكل رزق طريق، ولكل فرصة زمن محدد لا يتكرر. والماهر هو الذي يتهيأ قبل حلولها، فيغتنمها ساعة وقوعها، لأن الفرص لا تنتظر المترددين.

من الملاحظ في السلوك الإنساني أن أغلب الناس لا يدركون قيمة الفرص إلا بعد أن تفوتهم، إذ ينشغل العقل باسترجاع الماضي أكثر من انشغاله بقراءة الحاضر واستثمار إمكاناته. كم من شخص يقول: لو فعلت كذا لنجحت، ولو اخترت تلك الوظيفة أو اشتريت تلك الأرض لكنت اليوم من الأثرياء. غير أن هذا التفكير لا يغيّر الماضي، بل يحبس الحاضر في دائرة الحسرة. فبدلاً من النظر إلى الأمس بندم، يجدر بالإنسان أن ينظر إلى اليوم بوعي، لأن الحاضر هو الفرصة الوحيدة التي يملكها فعلاً.

لقد منح الله كل إنسان نصيبه من الإمكانات، لكنها تختلف باختلاف الاستعداد والوعي. فالحياة لا تبخل على أحد بالفرص، لكنها لا تقدمها إلا لمن يعرف كيف يتهيأ لاستقبالها. يقول الإمام علي عليه السلام: «الفرصة تمرّ مرّ السحاب، فانتهزوا فرص الخير». تشبيه الفرصة بالسحاب دقيق للغاية، فالسحاب لا يبقى طويلاً، لكنه إن صادف أرضاً خصبة أنبت وأثمر، وإن مرّ على أرضٍ قاحلة مضى بلا أثر. وكذلك الفرص، تمرّ بالجميع، لكنها لا تثمر إلا في أرض النفوس المستعدة.

كثيرون يظنون أن الفرص العظيمة تأتي في صورة أحداث ضخمة، أو مناصب كبرى، أو ثروات هائلة، مع أن الحياة تثبت أن التحولات الكبرى تبدأ غالباً من تفاصيل صغيرة. فكم من ثريّ بدأ من رأس مال متواضع، وكم من عالمٍ انطلق من قرية نائية، وكم من فكرةٍ بسيطةٍ غيّرت وجه العالم. السرّ في ذلك هو النظرة الإيجابية التي تحوّل الموقف العابر إلى منطلقٍ جديد.

يحكى أن رجلاً اشترى أرضاً مليئة بالعقارب والحيّات، فظنّ أنه خسر ماله، ثم فكّر بطريقة مختلفة، فجمع تلك الزواحف وجعلها معرضاً طبيعياً يقصده الزوّار والباحثون، فكان ما حسبه نقمة سبباً لغناه. هذه القصة ليست عن الحيلة التجارية فحسب، بل عن "القدرة على رؤية الإمكان داخل الإحباط". فالحياة لا تقدّم الفرص جاهزة، بل تقدم المواد الخام التي يصنع منها الناجحون فرصهم بأيديهم.

الإنسان المتفائل يرى في كل صعوبة فرصةً للنمو، بينما المتشائم يرى في كل فرصة عقبة جديدة. فالأول ينظر إلى الأمام فيتقدّم مع الحياة، والثاني ينظر إلى الوراء فيتراجع معها، والفرق بينهما يكمن في زاوية النظر لا في حجم التحدي. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «من الخرق المعاجلة قبل الإمكان، والأناة بعد الفرصة»، أي إن الإيجابية لا تعني التسرع، بل هي استعداد متزن للعمل في الوقت المناسب.

النظرة الإيجابية تنبع من الإيمان بأن الله خلق الإنسان ليفوز لا ليخسر، وليعمل لا ليقعد، ولينتج لا ليستهلك. فالمتفائل يعيش بثقة في أن الخير ممكن، وأن المستقبل قابل للتحسن مهما كانت الظروف. أما المتشائم، فيرى في كل غدٍ امتداداً لظلام يومه الحاضر، فلا يتوقع من المستقبل إلا تكرار ما يؤلمه اليوم، فيفقد القدرة على المحاولة قبل أن يبدأ.

ومصدر الإيجابية الحقيقي هو الأمل بالله تعالى، لا بالأسباب وحدها. فالأمل بالله ليس تواكلاً، بل طاقة داخلية تدفع الإنسان إلى السعي والمثابرة. يقول تعالى: ﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾. فالأمل هو الإيمان العملي بالرحمة الإلهية في كل منعطف. وقد حذّر النبي صلى الله عليه وآله من طول الأمل الذي يُنسي الآخرة، لكنه دعا إلى الأمل الذي يمنح للحياة معنى، وللجهد قيمة، وللصبر ثمرة.

وروى التاريخ أن رسول الله صلى الله عليه وآله حين حفر الخندق مع أصحابه وواجهوا صخرة عجزوا عن كسرها، أمسك المعول وضربها فانبثق منها نور، وقال: «رأيت قصور كسرى تسقط بأيديكم»، فضحك المنافقون قائلين: نحن محاصرون وهو يعدنا بملك فارس والروم! لكنّ التفاؤل الذي زرعه النبي في قلوب أصحابه هو نفسه الذي جعلهم بعد أعوام يحققون ما وعدهم به. فالأمل بالله ليس خيالاً، بل يقينٌ بالله يدفع إلى الفعل رغم العوائق.

ومن أعظم سنن الله في الخلق قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾. هذه الآية تُسقط حجّة التواكل والكسل معاً، إذ تُثبت أن الله جعل للإنسان دوراً حاسماً في صناعة مصيره. فالحياة لا تسير بآلية الجبر، ولا بعشوائية الصدفة، بل وفق قانون المشاركة بين الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية. فالله يقدّر الإمكانات، والإنسان يختار من بينها طريقه. من اختار طريق العمل والجد والإصرار، نال من الله معونة وتوفيقاً، ومن آثر التخاذل واليأس، نال نتائج اختياره.

والفرص في ضوء هذه السنة لا تُمنح، بل تُكتسب. فالله يفتح أبواب الخير، لكنّ الدخول منها يحتاج إلى استعداد. كمن يريد ماء المطر، فعليه أن يهيّئ الإناء قبل نزوله، أما من ينتظر بلا استعداد، فلن ينال شيئاً ولو أغرق المطر الأرض من حوله. ولهذا كانت المبادرة فضيلة كبرى، لا سيما في زمن التردد والشك.

فالإنسان الناجح هو من يعيش حالة "التحفز المستمر"، أي استعداد القلب والعقل لاستقبال أي فرصة. فحتى إن لم تأتِ اليوم، سيجدها غداً، وحين تأتي يكون مستعداً لها. المبادرة لا تعني الاستعجال، بل سرعة التفاعل الواعي. وقد علّمنا التاريخ أن الذين يبادرون يصنعون المجد لأنفسهم ولغيرهم، بينما الذين ينتظرون يفقدون حتى ما كان بأيديهم.

والتاريخ مليء بشواهد تؤكد أن الريادة لا تكون حليفاً للمترددين، بل لمن يملكون شجاعة المبادرة في اللحظة المناسبة. فالعظماء في كل عصر لم ينتظروا اكتمال الظروف أو إجماع الناس، بل صنعوا من الخطوة الأولى نقطة انطلاق غيّرت مجرى الأحداث. إنّ الفرصة لا تمنح لمن يراقبها من بعيد، بل لمن يملك بصيرة تُميّزها حين تمرّ أمامه، وإرادة تمسك بها قبل أن تفلت.

وفي الختام.
الحياة لا تعطي دروسها في قاعاتٍ مغلقة، بل في ميادين التجربة اليومية، وكل موقف فيها امتحان جديد لمدى وعي الإنسان بفرصه. فالناجح من يرى في كل يومٍ احتمالاً للتقدم، وفي كل مشكلة باباً للحل، وفي كل تأخيرٍ معنىً للتأمل. والفشل ليس نهاية الطريق، بل نتيجة سوء استخدام الوقت والفرص.

من هنا يمكن القول إن فلسفة النجاح تقوم على معادلة بسيطة: إيمانٌ بالله + نظرة إيجابية + استعداد دائم = اغتنام الفرص وصناعة المستقبل. فمن آمن أن الله لا يخلق شيئاً عبثاً، أدرك أن وجوده نفسه فرصة كبرى تستحق أن تُستثمر في الخير والعمل والبناء.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م