24 جمادي الثاني 1446 هـ   26 كانون الأول 2024 مـ 6:37 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | لماذا الدين؟ |  الدين.. فطرة متأصلة أم فكرة متأخرة؟
2021-12-17   1439

الدين.. فطرة متأصلة أم فكرة متأخرة؟

يتساءل سائل، هل الدين والتدين حالة فطرية، أن أنهما عارضان على الإنسان؟ طارئان على تصوره وسلوكه؟ 
سؤال جدلي مهم، يتباراه المتدين وغير المتدين، والأخير يصر على أن الدين حالة جوع فكري نتجت من حالة نفسيه مر بها الفرد الأول، وصارت عادة لمن بعده، وهو ـ الدين ـ  والحقيقة ليسا قربيين، بل أن التدين فكرة طارئ ولاحقة متأخرة على الوجود البشرية. 
في حين يرى المتدين الدين بأنه حالة فطرية، وأدل دليل للمتدينين بأن التدين فطري، هو وجوده منذ القدم، بل أنه ـ الدين والتدين ـ ضاربين في التأريخ الأول لوجود الإنسان، بل وأن الإنسان الأول كان متدينا، قبل أن يؤدلج بالضد من الدين، ما يعني بأن التدين ليس مجرد حالة طارئة وعارضة، فرضتها ظروف الخوف او الوحدة أو أي ظرف خارجي أخر، إنما هي لازمة الفكر والسلوك البشري، وحقيقة متجذرة ومتأصلة فيه، بل هي والوجود البشري توأمان لا ينفكان، بإمارة مرافقتها له في كل مراحله، منذ بدء الخليقة والى يوم الدين، بما في ذلك حالة التدين التي كان يمارسها الإنسان البدائي، وهذا دليل أخر على أن التدين فطرة الإنسان الأول، بل والأخير، ولا يمكن لأي فكرة أخرى أن تصادر هذه الفطرة، وهذا ما يثبته تمسك البشرية بفكرة التدين ـ وأن تعددت التصورات حوله ـ إلا إنها تُجمع على ضرورته بل وضرورة وجود قوة عظيمة ـ غير البشر والطبيعة ـ في إدارة هذه الوجود، وهذا ما يوصلنا الى حقيقة أخرى، قوامها إن اللا دين، هو الحالة غير السوية للإنسان، وأن الدين هو الحالة الطبيعية التي رافقت الإنسان طوال مسيرته الضاربة بالعمق، بما في ذلك إنساننا الحديث الذي روض وألان الطبيعة وانتصر على الكثير من الأخطار والخطوب، إلا أنه ما زال محتاجا لفكرة أن يكون محدث وموجود صغير أمام واجب الوجود المطلق. 
وقبل الشروع في تبيان جذور الدين والتدين، لا بد أن نفرق ونميز بين مفهوم الدين كحاجة فطرية وشعور لازم وملازم للإنسان، وبين الدين كشكلية طقوسية وشعائرية، ولهذا وذاك، فأن قياس صحة الدين من عدمه من خلال الحكم على الطقوس والشعائر التي يمارسها اتباعه؛ قياس باطل ومغلوط، خصوصا إذا ما حاول البعض تفنيد الدين ككل من خلال ملاحظة الطقوس والشعائر فيه، مع أن حديثنا هذا لسنا معنيين بالدفاع عن كل الطقوس والشعائر التي يصبغها القائمون بها بصبغة التدين، وربطها بالدين، فالكثير من هذه الطقوس تحمل خلفيات فلكورية واعتيادات بشرية لا تمت للدين بصلة، تأسست وبُنيت وفقا لابتكارات بشرية ليس بالضرورة أنها صحيحة، إنما حديثنا هنا عن أصل مفهوم الدين، بالعنوان الأشمل له، والمتمثل بالعلاقة بين الفرد وربه من خلال منظومة معرفية اخلاقية تنتج عنها منظومة سلوكية واحيانا طقوسية. 
وبالتالي فأن اختصار الدين بالطقوس وافراغه من الحالة الروحية والوجدانية، لا يمثل جوهر الدين، وحديثنا هذا لا ينصب على تبيان ذلك أو تبنيه، إنما هو مخصص لتبيان مفهوم الدين بما هو دين قبالة اللا دين كالإلحاد مثلا.
والدين الذي نقصده هنا هو ذلك الشعور الذي يولَد مع الفرد بشكل فطري، يشعره بأن ثمة خالق له وأن إليه المصير، وأن آيات وجود هذا الخالق لا يمكن حصرها أو عدها، ويكفي في ذلك هو ان الحاجة لهذا الخالق حاجة مباشرة حتى قبل أن تُمير وتستدرك مشاعر الخوف أو الرغبة أو الحاجة ، ما يعني أنه ـ الدين ـ أصيل في نفسه ومتأصل في فطرته، وهو ما يدفعه لإدامة هذه العلاقة والارتباط من خلال الطقوس والشعائر، وأن توهم في عبادة الحجر مرة، والكواكب في أخرى، إلا أن ذلك هو الأخر دليل لنا لا علينا، في كون التدين فطري وأصلي جُبلت عليه الخلقة الأدمية، وما عبادته للأشياء الا نوعا من التفكير والفحص والتمحيص عن هذا الخالق، وبالتالي فأن بحثه الخاطئ هذا، والذي اوصله لعبادة غير الله إنما هو نتيجة طبيعية لأدلجة طارئة على فطرته السليمة، إذ أن التدين الحق هو ما تدين به الأنبياء والصالحين وحسب، وما عداهم، أما متدين على سبيل النجاة كالذي يحذو حذوهم، أو باحثا عن الحقيقة ـ وإن كانت بطرق أخرى، ـ كالاعتقاد في النجم ربا أو في الشمس معبودا، وهو ما فعله النبي ابراهيم عليه الصلاة والسلام على سبيل تبيان الحقيقة لنا، ((وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ(76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80))(سورة الأنعام ـ 75 ـ 80). 
ومن جهة أخرى، فأن الدين ليست مجرد نظرية رياضية يمكن أن تفك طلاسمها بسهولة وينتهي الأمر، ولا معادلة كيميائية تكون مخرجاتها وفقا لمدخلاتها، إنما هي شعور يستلزم الإدامة، ولا يكون ذلك الا بالبحث والتحري، أو ما يعبر عن قرآنيا بالتدبر، الذي يوصل صاحبه للحقيقة، مع انه لا يتحصل عليها بشكل كلي ومطلق، ـ خلا الأنبياء والرسل وباقي المعصومين والمصلحين ـ لأن معرفة الله محصورة بهم، وتبقى مطلبا لغيرهم، لأن سر بقاء حاجة العبد لربه وتدينه له مناطا بسعيه الدائم للوصول اليه والكدح لأداركها وتحصيلها، وهو ما تبينه الآية الشريفة من وقله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ))(سورة الانشقاق ـ 6)، مع أن معرفة الله وإدراك وجوده بالمعنى العام إنما هو مما استودعته النفس البشرية وتضمنه العقل الأول للإنسان يوم ولد، أي أن معرفة الخالق إنما هي مما فُطرت عليه النفس البشرية، وبالتالي فهي موجودة في وجدان الفرد منا، لو لا تلك اللوثات التي يلتاث بها في حياته، ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ))(سورة الروم ـ 30)، بل أن هذا الأيمان بالله والتدين به إنما هو مما جبلت عليه النفس البشرية، ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدم مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ))(سورة الأعراف ـ 172 ـ 173). 
ووفقا لذلك، فالتدين سلوك فطري، يسلكه الفرد إن تُرك سويا ولم تلوث فطرته بطوارئ الأفكار والتصورات، وبالتالي فأن الدين ـ بمعنى الأيمان بالله خالقا وموجدا ـ هو حاجة فطرية في النفس البشرية، إلا أن تبيانه ومصاديقه ـ كالطقوس والشعائر والعبادات ـ تختلف من هذا الدين عن ذاك، وهو محكومة بالحجبة الأخرى المسماة عقلا، والذي يستطيع تبيان أي منها صحيح واي منها مفتعل ومبتدع. 

فاطمة الجابري

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م