بروميثيوس وقانون الأحوال الشخصية العراقي
الشيخ مقداد الربيعي: في الميثولوجيا (الأساطير) الاغريقية القديمة تبرز لنا قصة "بريميثيوس" كشاهد على محاولات الإنسان منذ فجر البشرية لتجريد الإله عن دوره، فبعد أن أختار بريميثيوس صف الإله زيوس في حرب الآلهة، أمره بتشكيل البشر، كما أمر أخيه أبيميثيوس بتشكيل الحيوانات والذي قام بمهمته بسرعة، فاستنفد أفضل الموارد والميزات، كالسرعة وحدة النظر وشدة السمع والقوة ونحو ذلك، فكانت من حصة الحيوانات، بينما استغرق بريميثيوس وقتاً طويلاً في تشكيل البشر، الأمر الذي حرمهم من هذه الخصائص.
ولتعويض البشر عن هذا النقص سعى بروميثيوس ـ وعلى خلاف رغبة زيوس ـ لوهب البشر العديد من العطايا والهبات عن طريق سرقتها من آلهة الأوليمب هيفاستوس وأثينا وغيرهم فأعطاهم فنون العمارة والبناء، النجارة، استخراج المعادن، علم الفلك، تحديد الفصول، الأرقام والحروف الهجائية، كما علمهم كيفية استئناس حيوانات ابيمثيوس وركوبها والأبحار بالسفن، كما أعطاهم موهبة التداوي والشفاء.
يحاول بعض المثقفين اليوم القيام بدور بريميثيوس هذا، من خلال سرقة بعض صلاحيات الإله واعطائها للبشر، يتجلى ذلك بمنافحة البعض عن تشريعات أثبتت التجربة الطويلة أنها كانت السبب الرئيس لتفكك العائلة.
أنا لست بصدد الدفاع عن القانون المقترح او توهين السابق، فقد كفانا الله تعالى مؤنة ذلك، كما اني لست حانقاً على اختلاف الجمهور بالتأييد او الرفض، فهي حالة إيجابية في كل مجتمع، على أن تكون في الموضع والمحل المناسب، بل يمكن القول ان اختلاف الناس هو المنشأ لظهور جميع الشرائع السماوية، فالنصوص الدينية تحكي لنا أن البشرية مرت بفترة من الوحدة والاتفاق لم يكن هناك ما يوجب سن القوانين والشرائع، حتى دب بينهم الخلاف والشقاق، فكان مقتضى الرحمة والحكمة الإلهية إرسال الرسل وإنزال الشرائع، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ..)، البقرة: 213. وليراجع في معنى الآية الكريمة تفسير الميزان.
فكانت بعثة الأنبياء وإنزال الكتب (الشرائع) بعد زوال الوحدة ووقوع الاختلاف، وعلى هذا فالغاية من الشريعة رفع الاختلاف بين الناس بوضع القانون من قبل جهة ثالثة لا تميل لأحد الفريقين المتخاصمين، وليس ذلك إلا الخالق جل أسمه.
فقانون مثل قانون الأحوال الشخصية هو مثار خلاف بين الرجل والمرأة من جهة، وبين من يتبنى الفكر الديني ومن لا يتبناه، وكل طائفة تدعو لضرورة الأخذ بقولها، الأمر الذي يتعذر معه وجود جهة بشرية محايدة، إلا على القول بوجود جنس ثالث!!
من له حق التشريع
من أهم البحوث التي تطرح حول الحقوق، والذي هو غايتنا من مقالنا هذا، هو السؤال عن معنى الحق، وما هو منشأ الحقوق؟ فجميعاً يقبل ويقر بوجود حقوق، ولا يوجد مجتمع في أي زمان لا يقر أفراده بوجود حقوق بينهم، كحق الأب على ابنه، وحق الإنسان في التصرف بملكه، وحق الزوج او الزوجة وهكذا.. فكل إنسان يعيش في مجتمع لابد أن يقر بمجموعة من الحقوق، وهذا مورد اتفاق. لكن السؤال المهم والذي صار محلاً للخلاف في فلسفة الحقوق: ما هو ملاك الحق، وبعبارة أخرى، ما هو المعيار الذي يحدد أن لشخص حقاً على شخص آخر؟ فلماذا صار للأب حق الطاعة والاحترام على ابنه مثلاً؟
ففي المسائل العلمية مثلاً، تكون التجربة هي المعيار، فإذا قال أحد أن الماء يغلي عند درجة مائة سيليزي. فالطريق للتأكد من صحة كلامه هو أخذ بعض الماء وتعريضه لهذه الدرجة من الحرارة. لكن في مسائل القيم والحقوق كيف نعطي الحق لشخص دون آخر؟ وفي المقام ثلاثة أجوبة من ثلاث مدارس:
أولاً: المدرسة الطبيعية: والتي تدعي أن الضابطة في الحق هي الطبيعة، فإذا كانت طبيعة هذا الشيء تقتضي ذلك فيكون من حقه، فمثلاً عندما نقول ان للإنسان حق الحياة وحق حصوله على الغذاء والشراب، فلإن طبيعة الإنسان هي من يمنحه هذه الحقوق، فلو لم يتمكن من تناول الغذاء او شرب الماء أو الدفاع عن حياته فستنتفي البشرية، إذن طبيعة الانسان هي التي تمنحه الحق بهذه الأمور، وهذا هو منشأ التعبير الدارج بيننا (هذا حق طبيعي للإنسان).
ولكن هذا الكلام إن صح، فإنما يصح في إثبات أصل الحقوق العامة التي تشترك فيها الكائنات الحية، أما حدود هذه الحقوق، فالطبيعة الإنسانية مثلاً تعجز عن تحديدها، فإن أثبتت هذه المدرسة أن للإنسان حق الحياة، فماذا تقول إذا تعارضت حياته مع حياة غيره، كما لو كانت حياة هذا الإنسان سبباً في موت الكثيرين، فهل يسقط منه هذا الحق؟! وإذا اقتضت طبيعة الإنسان أن يتناول الغذاء، فهل هذا يعني تناول أي غذاء حتى لو كان ملكاً لغيره؟! فالنظرية الطبيعية إن نجحت في بيان منشأ بعض الحقوق (الأساسية)، فإنها تعجز عن بيان حدودها، هذا مضافاً أن أكثر الحقوق لا تكون بهذه الدرجة من الوضوح، وأنها مما يتوقف عليه الطبيعة الإنسانية، فمثلاً الطبيعة تقضي بجواز استفادتنا من الموارد الطبيعة الموجودة تحت الأرض، كالنفط والغاز، لكن ما هي حدود هذا الحق، فهل لنا أن نستهلكها بصورة عشوائية بحيث لا نترك شيئاً للأجيال القادمة؟ . ولهذه الإشكالات وغيرها، لا نجد اليوم من يتبنى جواب المدرسة الطبيعية من الحقوقيين.
ثانياً: المدرسة الوضعية: وتعتبر من المدارس المهمة في مجال فلسفة الحقوق، وجوابها عن سؤال منشأ الحقوق هو النظرية المتداولة في الوقت الحاضر، والذي هو: ان منشأ الحقوق هو عبارة عن اتفاق جماعي، فالضابط في ثبوت حق لجهة ما، او لشخص معين هو قبول المجتمع. فإذا رأى أكثر الناس مثلاً ان هذا الأمر من حق الزوج، يثبت له ذلك، وهكذا. وما دام اتفاق الناس باقٍ فالحق باقٍ، أما إذا انتهى الاتفاق وتغير موقف المجتمع، فسيزول الحق حينئذٍ.
لكن هذا الكلام ايضاً يواجه إشكالاً معضلاً، وهو ما هو المسوغ في إعطاء الحق للمجتمع حتى يفرض إرادته على الفرد، لِمَ يجب تقديم مصلحة الأكثر على الأقل؟! فقد يرى الأكثر المصلحة في الخدمة الإجبارية في الجيش، ويرى الأقل خلاف ذلك، فما هو مسوغ تقديم قول الأكثرية؟! إذن لابد من وجود مناط وضابطة سابقة على المجتمع هي التي اعطته حق اتخاذ القرار وسن القوانين.
كما أنه من الواضح بناء على هذه الضابطة سوف لن تكون لدينا حقوق ثابتة، وعليه فليس لدولة أو منظمة من خارج هذا المجتمع أن تفرض رؤيتها عليه، فالمدار في ثبوت الحقوق على قبول أفراد ذلك المجتمع دون غيره. فلا معنى لمحاولات فرض بعض الدول او المنظمات تشريعاتها على دول ومجتمعات أخرى.
مع الالتفات أن ما نقوله هنا هو من باب الجدل بالتي هي أحسن، وإلا فكما سيتضح قريباً ان وجهة نظر الإسلام في منشأ الحقوق مختلفة عما يذهب اليه الوضعيون.
ثالثاً: المدرسة الإسلامية: وتبتني نظرية الإسلام على رؤية دينية توحيدية، تنطلق من أن لله تعالى غاية في خلقه وهو إيصال كل مخلوق لكماله الذي خُلق من أجله، فالإنسان مثلاً خُلق لغاية معينة، هي القرب من الله تعالى والتشبه بأسمائه وصفاته، ولكي يصل اليها يتطلب ذلك لوازم معينة، وحينئذ تقتضي رحمة الله تعالى وحكمته وعدله أن يُشرع قوانين توفر هذه اللوازم وتوصل الإنسان لهذه الغاية.
وبما أن الإنسان وفق الرؤية الإسلامية هو الغاية من خلق العالم برمته، فلابد أن تُقدم احتياجاته على سائر الخلق، فلكي نحفظ حق الحياة للإنسان، لابد أن نضحي بحق الحياة لبعض الكائنات الأخرى، كالحيوانات والنباتات، وحقه في السكن يُقدم على حقوق غيره من المخلوقات وهكذا. كل هذا وفق حدود بينتها الشريعة.
من هنا يرى الإسلام ضرورة إناطة مسألة التشريع بالله تعالى وحده، ولا يجوز ايكالها لغيره، لأنه الوحيد العالم بغايات خلقه والحدود التي تحقق هذه الغايات. كما أن الرؤية الإسلامية ترى أنه تعالى الخالق والمالك لكل ما سواه، وبالتالي فهو الجهة الوحيدة التي تملك حق التصرف فيما تملك.
من هنا نرى أن حق التشريع وسن القوانين لابد أن يتماهى مع غاية خلق الإنسان، وهو حق حصري لله تعالى، لا يجوز منازعته فيه، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)، الأحزاب: 36.
فينبغي للمثقف المسلم ألا ينساق وراء دعوات إلغاء او تحجيم الدين أو المؤسسات الدينية، فإنه ناشئ من عداء وحرب قديمة، شنها قادة التنوير منذ القرن الثامن عشر والى يوم الناس هذا، فاسمع لقادة الثورة الفرنسية ماذا يقولون:
فلم يخفِ رينيه فيفياني (1863-1925)، الوزير الاشتراكي والجمهوري، ابتهاجه بإلغاء قوانين دينية، معلنًا بفخر: «لقد نجحنا في انتزاع الضمائر البشرية من الإيمان. ... لقد أطفأنا الأنوار في السماء التي لن تُضاء مرة أخرى! هذا هو عملنا، عملنا الثوري العظيم. نريد أن نُظلم السماء ونُطفئ كل نور فيها». الكتاب الأسود للإلحاد، لويس ميشيل بلان، ص49.
ووصل الأمر بأحد الوزراء البارزين في الحكومة الفرنسية إلى حد التحدي والإعلان صراحةً أن «قانون الجمهورية أقوى من قانون الآلهة» (أوروبا 1، 4 أكتوبر 2020). المصدر نفسه.
في كتاب آخر، "دين للجمهورية: الإيمان العلماني لفرديناند بويسون"، يكشف لنا كاتبه عن جوهر العلمانية، فيقول: «إنها ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، بل هي ثورة على الدين نفسه، على مفهوم الله والمسيح، وعلى سلطة الكنيسة بكل أشكالها. إنها دعوة إلى دين إنساني، حيث يتم تأليه الإنسان، وتحرير الدين من قيود العقائد والسلطات. إنها عملية إعادة تعريف للمفاهيم الروحية، لتكون غايتها خدمة الإنسان ومجتمعه، لا خدمة سلطة دينية أو عقائد جامدة». المصدر نفسه.