

ريتشارد دوكينز ومنشأ الأخلاق
معتصم السيد أحمد
في كتابه وهم الإله، وتحديداً في الفصل السادس بعنوان "منشأ الأخلاق"[1]، يتناول ريتشارد دوكينز واحدة من أعقد القضايا التي يطرحها الإلحاد الطبيعي: هل يمكن تفسير الأخلاق تفسيراً طبيعياً دون الحاجة إلى الإيمان بإله؟ يبدأ دوكينز بالإشارة إلى ما يراه سوء فهم شائع حول "الأخلاق الداروينية"، حيث يقول:
«تبدو فكرة الانتخاب الطبيعي غير ملائمة بالمرة لشرح مقدار الخير الذي نتملكه أو حتى شعورنا بالقيم الأخلاقية كالأمانة، والتعاطف، والأسف. الانتخاب الطبيعي يستطيع شرح الجوع والخوف والرغبة الجنسية، وكل ما يمكن أن يساهم مباشرة في بقائنا أو الحفاظ على جيناتنا. ولكن ماذا عن الشفقة التي نشعر بها عند رؤيتنا ليتيم يبكي أو أرملة عجوز تشكو الوحدة؟ ما الذي يدفعنا إلى إرسال هدية أو نقود أو ملابس لضحايا تسونامي في الطرف الآخر من العالم لم نرهم قط، واحتمال أن يردوا الجميل هو أقل من أن نفكر به؟ من أين يأتي هذا السامري المتأصل فينا؟ أليس الخير متناقضاً مع نظرية الجين الأناني؟»
يجيب دوكينز عن هذا التساؤل بالقول إن هذه الاعتراضات تنبع من فهم خاطئ للنظرية. يصف هذا الفهم بأنه «محزن ولكنه متوقع دائماً»، مشيراً إلى أن "الأنانية" التي تنسب إلى الجينات ليست مرادفاً لأنانية الكائنات الحية أو المجتمعات.
هنا يحاول دوكينز التفريق بين "الجين الأناني" و"الكائن الأناني" ليبرر وجود الأخلاق داخل إطار الانتخاب الطبيعي. يقول:
«من الضروري أن نركز على الكلمات الصحيحة. مصطلح الجين الأناني يناقض مصطلح الكائن الأناني أو الجنس الأناني. المنطق الدارويني يفرض علينا استنتاج أن وحدات الحياة التي تبقى وتنتقل من خلال الانتخاب الطبيعي تميل لأن تكون أنانية. الوحدات التي تستمر ستستمر على حساب الوحدات المنافسة لها في نفس المستوى الطبقي. وهذا بالضبط ما تعنيه الأنانية في هذا الصدد».
نقد النظرية:
1- التناقض بين الجين والكائن الحي
يدعي دوكينز أن "أنانية الجينات" لا تعني أن الكائن الحي نفسه يجب أن يكون أنانياً، لكن هذا التفريق يثير عدة إشكاليات منطقية:
- الجينات هي المكونات الأساسية للكائن الحي: إذا كانت الجينات تتصرف بأنانية لتحقيق مصالحها، فمن الطبيعي أن تؤثر هذه الأنانية على الكائن الحي ككل، لأنه في النهاية مجرد مركبة للجينات، كما يصفه دوكينز نفسه. وبالتالي، لا يمكن أن تكون الجينات أنانية والكائن الحي الذي يتكون منها خالياً تماماً من هذه الأنانية.
- انعدام الحياد بين الأجزاء والكل: من منظور فلسفي، الأجزاء التي تتسم بسمة معينة (الأنانية) لا يمكن أن تشكّل كلاً يتسم بسمة مناقضة (الإيثار أو الحياد). هذا يعيدنا إلى الإشكالية الكلاسيكية في الفلسفة حول العلاقة بين الجزء والكل، والتي يبدو أن دوكينز يتجنب معالجتها بعمق.
2- الإيثار كاستثناء في المنطق الدارويني
دوكينز يقدم مفهوم الإيثار على أنه نتيجة لآليات تطورية مثل "إيثار الأقارب" و"الإيثار المتبادل"
إيثار الأقارب: حيث يبرمج الجين الكائن الحي على التضحية من أجل الأقارب الذين يحملون جينات مشابهة.
الإيثار المتبادل: المعروف بنظرية "حك ظهري أحك ظهرك"، والذي يتأسس على التبادل المنفعي بين الكائنات.
يقدم دوكينز أمثلة على النوع الأول، مثل رعاية الإنسان أو الحيوان لصغاره، معتبراً أن هذه التضحية ليست دليلاً على وجود قيمة أخلاقية، بل نتيجة لغريزة طبيعية تهدف إلى الحفاظ على الجينات الوراثية. أما النوع الثاني، فيشرحه بأمثلة مثل:
«الصياد يحتاج إلى رمح، والحداد يحتاج لحماً. عدم المساواة بينهما يؤدي إلى عقد من نوع ما. النحل يحتاج إلى الرحيق، والزهور تحتاج إلى التلقيح. الزهور تدفع للنحل الرحيق كعمولة لاستعمال أجنحته. مرشد العسل يقود الغرير (أو الإنسان) إلى عش النحل للحصول على العسل، وبالمقابل يحصل على نصيبه منه».
لكن هذا التفسير يحمل تناقضات داخلية:
- إيثار الأقارب لا يفسر التضحية من أجل الغرباء: بينما يمكن لتضحية الفرد من أجل أقاربه أن تكون منطقية وفقاً لنظرية الجين الأناني (لأن الأقارب يشتركون في نسبة من الجينات)، فإن الإيثار تجاه الغرباء أو المجتمعات البعيدة لا يمكن تفسيره بهذه الطريقة. على سبيل المثال، إرسال تبرعات مالية أو مساعدات غذائية إلى شعوب تعيش على قارة أخرى لا يمكن أن يبرَّر بآلية الحفاظ على الجينات المشتركة.
- الإيثار المتبادل لا يفسر الإيثار الحقيقي: نظرية "حك ظهري أحك ظهرك" تفترض وجود منفعة متبادلة بين الأطراف. لكنها لا تفسر مواقف الإيثار التي لا ينتظر فيها الفرد أي مقابل، مثل التضحية بحياته لإنقاذ شخص غريب، أو مساعدة إنسان في موقف خطير دون أي احتمال للحصول على مكافأة لاحقاً. هذه الأفعال تتجاوز التفسير المادي وتدل على عمق أخلاقي يتخطى الحسابات الداروينية.
3. محدودية تفسير السلوك الاجتماعي
- السلوك الإنساني أعمق من البرمجة الجينية: الإنسان ليس مجرد نتاج للجينات، بل يمتلك وعياً وقدرة على التفكير المجرد واتخاذ القرارات الأخلاقية بناءً على مفاهيم روحية أو فلسفية. اختزال كل السلوكيات البشرية، بما فيها الأخلاق، إلى نتائج ميكانيكية للجينات يُعتبر تقليلاً من تعقيد النفس البشرية.
- وجود أخلاق تتعارض مع "البقاء للأصلح": هناك الكثير من السلوكيات التي لا تتفق مع مفهوم "البقاء للأصلح" الذي يقوم عليه الانتخاب الطبيعي. على سبيل المثال، الأديان والفلسفات تشجع على قيم مثل المغفرة والرحمة تجاه الأعداء، والتي تبدو مخالفة لمنطق الحفاظ على الذات أو على الجينات.
4. إغفال تأثير الثقافة والدين
دوكينز يركز على الجينات كعامل وحيد لتفسير الأخلاق، لكنه يتجاهل الدور الكبير الذي تلعبه الثقافة والدين في تشكيل القيم الأخلاقية:
- القيم الأخلاقية ليست موروثة بيولوجياً: الأخلاق تنقل عبر التعليم والثقافة، وهي ليست مجرد انعكاس للبرمجة الجينية. المجتمعات المختلفة تطورت لديها أنظمة أخلاقية متنوعة بناءً على عوامل تاريخية، دينية، وثقافية، وليس بالضرورة بسبب الجينات.
- الدين كمصدر للأخلاق: على الرغم من انتقادات دوكينز للدين، فإن العديد من القيم الأخلاقية التي يتبناها البشر عبر التاريخ جاءت من العقائد الدينية. الإيثار، مساعدة الضعيف، والعدالة ليست قيماً ناتجة عن تطور بيولوجي، بل هي متجذرة في التعاليم الروحية.
5. الإشكالية الفلسفية في "الجين الأناني"
- الجين ككيان واعٍ؟: مصطلح "الجين الأناني" يحمل في طياته تشبيهاً خاطئاً، إذ يعطي انطباعاً بأن الجينات كائنات واعية قادرة على التخطيط لتحقيق مصالحها. هذا التشبيه مضلل، لأنه يجعل من الجينات شيئاً أكثر من مجرد مواد كيميائية.
- تجاهل الحرية الإنسانية: إن اختزال السلوك الإنساني إلى "برنامج جيني" يلغي فكرة الحرية الإنسانية والقدرة على الاختيار الأخلاقي. الإنسان، بخلاف الكائنات الأخرى، يمتلك إرادة حرة تمكنه من تجاوز برمجته البيولوجية.
6. غياب المصدر المطلق للأخلاق
- الأخلاق النسبية لا تكفي: دوكينز ينطلق من مفهوم مادي بحت، مما يعني أن الأخلاق، وفقاً له، نسبية ومتغيرة حسب الظروف البيئية أو البيولوجية. لكن الأخلاق الحقيقية تتطلب مصدراً مطلقاً يحدد القيم التي تتجاوز النفعية أو الغريزة.
- التناقض في نقده للدين: بينما ينتقد دوكينز الدين باعتباره مصدراً للأخلاق، فإنه يعجز عن تقديم بديل موضوعي ومطلق للأخلاق في غياب الإيمان.
الخلاصة
محاولة دوكينز تفسير الأخلاق ضمن إطار "الجين الأناني" تصطدم بعدد من التناقضات المنطقية والفلسفية. الجينات قد تكون مفسراً لبعض السلوكيات الغرائزية البسيطة، لكنها عاجزة عن تفسير القيم الأخلاقية العميقة التي تتجاوز الحسابات المادية. الإيثار، التضحية، والعدالة هي مفاهيم تتطلب مصدراً يتخطى المادة البحتة، وهو ما لا يقدمه المنهج المادي الذي يتبناه دوكينز.
[1] - ننقل كل المقاطع في هذا العنوان من كتاب وهم الإله، ترجمة بسام البغدادي، الطبعة العربية الثانية، من ص 215إلي 220