12 شعبان 1446 هـ   11 شباط 2025 مـ 6:44 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-01-28   90

الإلحاد والليبرالية: المقاربة المستحيلة

الشيخ معتصم السيد احمد

الإلحاد الجديد ليس مجرد إنكار للإيمان بالله كما هو حال الإلحاد التقليدي، بل هو مشروع أيديولوجي شامل يطرح نفسه كبديل للأديان في مختلف الميادين، من الأخلاق والقيم إلى السياسة والمجتمع. وعلى الرغم من أن الليبرالية تبدو الخيار الأقرب له لتحقيق هذا الطموح في الساحة السياسية والاجتماعية، إلا أن الإلحاد الجديد لا يقتصر على معارضة الأديان فحسب، بل يتجاوز ذلك ليصطدم مباشرة بالليبرالية نفسها. هذا الصدام يكشف عن تناقضات جوهرية في محاولات الإلحاد الجديد تقديم رؤية مجتمعية متماسكة، وهو ما يجعل دراسة العلاقة بين الإلحاد والليبرالية أكثر أهمية من أي وقت مضى.

التعارض بين الإلحاد والليبرالية في الأسس الفلسفية

الليبرالية، كفلسفة فكرية، تستند إلى فكرة الحرية الفردية باعتبارها القيمة العليا التي يجب أن تُحترم في أي نظام سياسي أو اجتماعي. وهذه الحرية لا تقتصر على الجوانب المادية أو الحقوق المدنية فحسب، بل تمتد إلى حرية الاعتقاد والتعبير والتفكير، مما يتيح لكل فرد الحق في أن يختار طريقه في الحياة دون تدخل قسري من الدولة أو المجتمع. إن هذه الفلسفة، في جوهرها، تحتفي بالتعددية كقيمة محورية، حيث تُقر بأن التنوع في القيم والمعتقدات ليس عائقاً أمام التعايش، بل شرطاً ضرورياً لتحقيق مجتمع عادل يضمن المساواة والكرامة للجميع.

في المقابل، الإلحاد الجديد لم يعد مجرد موقف فردي يتعلق بالإيمان أو عدمه، بل أصبح أيديولوجية ترى استحالة التعايش مع المؤمنين بالله في هذا العالم، بذلك يتحول الإلحاد الجديد إلى قوة إقصائية شاملة ترفض الاعتراف بشرعية وجود المؤمنين وتدفع نحو استبعادهم من الحياة.

هذا التوجه يتناقض بشكل صارخ مع المبادئ الجوهرية للحرية الليبرالية، التي تقوم على احترام حق الأفراد في اختيار معتقداتهم باعتباره حقاً مقدساً لا يجوز المساس به، سواء بالإكراه على الإيمان أو على الإلحاد. فالدين، وفق الرؤية الليبرالية الأصيلة، يُعد جزءاً أساسياً من التعددية التي يجب احترامها وحمايتها. وبالتالي، فإن أي محاولة لإقصاء الدين أو فرض رؤية إلحادية محددة تقوض القيم الأساسية التي تزعم الليبرالية الدفاع عنها.

ومن هنا، يمكننا القول إن هناك تناقضاً جوهرياً بين الإلحاد والليبرالية. فالإلحاد، حين يتحول إلى أيديولوجية تسعى إلى الهيمنة، يصبح متعارضاً مع فكرة التعددية التي تُعد جوهر الليبرالية. وإذا كان الإلحاد يدعو إلى فرض نظريته عن العالم كحقيقة مطلقة، فإنه بذلك يُنكر على الآخرين حقهم في اختيار ما يؤمنون به. وهذا الإنكار هو عكس ما تدعو إليه الليبرالية، التي تعتبر الحرية الفردية قيمة عليا لا يمكن التنازل عنها أو إخضاعها لأي رؤية أحادية.

الإلحاد وسؤال القيم الأخلاقية

لعل أبرز التحديات التي يواجهها الإلحاد الجديد هو تقديم نظام أخلاقي متماسك ومقبول يُعوّض الفراغ الذي يتركه غياب الدين، فعبر التاريخ كانت الأديان هي المصدر الأساسي للقيم التي حددت معايير الخير والشر، وأسست نظاماً أخلاقياً يُنظم العلاقات البشرية ويحفظ استقرار المجتمعات. هذا الدور الأخلاقي لم يكن مجرد استجابة للواقع الاجتماعي، بل كان امتداداً لرؤية شاملة تتجاوز المصلحة الفردية، معتمدة على الإيمان بوجود قيم مطلقة تستمد قوتها من الإيمان بوجود إله خالق.

الإلحاد في جوهره، ينكر وجود الإله، وبالتالي ينفي معه أي مصدر متعالٍ للقيم الأخلاقية. هذا الإنكار يُدخل الفكر الإلحادي في مأزق معرفي وأخلاقي: إذا لم يكن هناك إله، فمن أين نستمد القيم؟ وكيف يمكن تحديد الخير والشر في عالم يتسم بالفوضى والتعقيد؟ 

إن غياب هذا الإطار المتعالي في الإلحاد يُثير سؤالاً وجودياً: إذا لم يكن هناك إله أو حقيقة مطلقة، فما الذي يمنع الإنسان من أن يكون أسيراً لرغباته وشهواته؟ وما الذي يمنع القوة من أن تكون المعيار الوحيد للحقيقة؟ وقد كان ريتشارد دوكنز متسقاً مع إلحاده عندما قال: "في هذا العالم لا يوجد شر ولا يوجد خير، لا يوجد سوى لامبالاة عمياء وعديمة الرحمة". ويقول أيضاً: إنّه من العسير جداً الدفاع عن الأخلاق المطلقة على أسس غير دينية"[1]

وهكذا، يبدو أن الإلحاد، رغم نقده للأديان ومحاولاته تقديم رؤى بديلة، لا يزال غير قادر على تجاوز الدور الأخلاقي العميق الذي أدته الأديان على مر التاريخ. فالأخلاق، في جوهرها، ليست مجرد اتفاق اجتماعي، بل هي تعبير عن البحث الإنساني عن المعنى والقيم المطلقة، وهي رحلة يبدو أن الأديان وحدها استطاعت تقديم إجابات شافية عنها.

وفي المقابل نجد الليبرالية، رغم تأكيدها على ضرورة فصل الدين عن شؤون الحياة العامة، لا يمكنها الهروب بالكامل من تأثيراته العميقة. فالقيم الجوهرية التي تشكل العمود الفقري للفكر الليبرالي، مثل الحرية، المساواة، والكرامة الإنسانية، تجد جذورها في تعاليم الأديان الكبرى التي تبنتها معظم الحضارات عبر العصور. هذه القيم لم تكن مجرد اختراعات عقلية أو اجتماعية حديثة، بل هي امتداد لمبادئ دينية قديمة، حيث تركز الأديان على احترام حرية الفرد وكرامته الإنسانية، وتحقيق العدالة والمساواة بين البشر.

من هذا المنظور، يمكن القول أن الليبرالية قد استوعبت جزءاً كبيراً من الإرث الديني وأعادت صياغته بما يتناسب مع العصر الحديث، لكن دون أن يكون لها أساس ديني مباشر. فهذا الاعتماد على هذه القيم الدينية التاريخية يجعلها قادرة على التعايش مع الدين والتكيف مع التعددية الدينية والثقافية للمجتمعات الحديثة. هذا التعايش يظهر بوضوح في العديد من النظم الليبرالية التي تحترم حرية المعتقد وتعمل على ضمان حقوق الأقليات، بغض النظر عن أيديولوجياتهم الدينية أو غير الدينية.

وفي هذا السياق، يُطرح تساؤل مهم: هل يمكن للليبرالية، التي تعتمد على قيم دينية في جوهرها، أن تستمر في التعايش مع الإلحاد الذي يرفض أي قيمة إنسانية بما فيها الإرادة الحرة التي يعتبرها مجرد وهم؟ وكيف يمكن بناء نظام اجتماعي يحقق التوازن بين الفكر الليبرالي والتوجهات الإلحادية في عالم يعترف بتعددية المعتقدات؟

ففي الوقت الذي يسعى فيه الإلحاد إلى التخلص من الدين كمرجعية للحياة العامة، فإنه يترك فراغاً كبيراً في القيم والمعايير التي تنظم سلوك الأفراد والمجتمعات.

 فالدين كان وما زال يشكل الأساس الذي يضبط سلوك الأفراد ويضمن تماسك المجتمعات. وعندما يُستبعد هذا الأساس، يصبح السؤال المحوري: ما هي البدائل التي يمكن أن تحل مكانه لضمان استقرار المجتمع وحماية حقوق الأفراد؟

تاريخياً، قدمت الأنظمة الإلحادية التي ظهرت في القرن العشرين، مثل الاتحاد السوفيتي والصين الشيوعية، نماذج على هذا التحدي، عندما حاولت استبدال الدين بأيديولوجيات سياسية وفلسفية جديدة، لكن النتائج كانت كارثية. ففي محاولة فرض أيديولوجياتها بالقوة، تحولت هذه الأنظمة إلى أنظمة استبدادية، قمعية، لا تقبل التنوع الفكري أو العقائدي. ورغم أنها تبنت شعارات العدالة والمساواة، إلا أن التطبيق الفعلي لهذه المبادئ كان بعيداً عن القيم التي ينادي بها الإلحاد، مثل الحرية الفردية والكرامة الإنسانية.

التجارب التاريخية تشير بوضوح إلى أن غياب مرجعية دينية أو فلسفية محورية يمكن أن يؤدي إلى ظهور أنظمة قمعية بدلاً من أنظمة تحترم حقوق الأفراد وتضمن استقرار المجتمع. وبالتالي، لا تقتصر المشكلة في الإلحاد الجديد على إنكار الدين، بل تتعلق أيضاً بغياب البدائل التي يمكن أن تحافظ على توازن المجتمع وتحميه من الانزلاق نحو الاستبداد.

في المقابل، رغم مرونة الليبرالية في قبول التعددية واختلاف المعتقدات، فإنها تحتاج إلى قيم أساسية مشتركة للحفاظ على استقرار المجتمع وضمان التعايش السلمي بين أفراده. هذه القيم غالباً ما تكون مستمدة من الأديان والتقاليد الثقافية، مثل احترام حقوق الإنسان، والعدالة، والمساواة، والحرية. بدون هذه القيم المشتركة، تصبح الليبرالية مهددة بالتشظي والانقسام، خاصة في المجتمعات التي تتمتع بتعددية دينية وفكرية.

في الختام، يمكن القول إن التعايش بين الإلحاد والليبرالية لن يكون ممكناً ما لم يتخلى الإلحاد عن محاولاته المستمرة لاقتلاع الدين من العالم، ويعترف بأن هناك حاجة للقيم المشتركة التي تضمن استقرار المجتمع وتوازن العلاقات بين الأفراد. كما أن الليبرالية لا يمكن أن تحقق مفاهيم الحرية الحقيقية والمساواة الشاملة إلا إذا تعايشت مع التنوع واحترمت اختلافات الناس في المعتقدات والآراء.


[1] الاخلاق والإلحاد، أسماعيل عرفة، http://midan.aljazeera.net/intellect/philosophy/2017/9/19

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م