7 شوال 1445 هـ   16 نيسان 2024 مـ 9:35 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | مقالات في القرآن الكريم |  هكذا حاور القرآن الكريم العقل
2022-01-09   2106

هكذا حاور القرآن الكريم العقل

القرآن الكريم، كتاب حياة، يعالج مفترقاتها ومتعلقاتها؛ إنى كانت وتكون، وبالتالي فهو ليس كتابا قصصيا ولا كتابا علميا (نقصد بالعلمي هنا بأنه لا يتعاطى مع المفاهيم العلمية المجردة فحسب، دون الاجتماعية او الحياتية الأخرى)، خصوصا وأنه الكتاب الخاتم، ما يعني بأن مسؤولية معالجته لجميع مستحدثات الحياة؛ أمر لا بد منه، لئلا يفتقر الناس للحجة عليهم. 
والحديث عن القرآن الكريم، يستتبع بالضرورة الحديث عن الكائن العاقل ـ الإنسان ـ باعتباره محلا لهذا التنزيل، ومقصدا منه ـ بعد أن ميزه الله سبحانه وتعالى بميزة القدرة على التعقل والإدراك التي تساعده على فهم حياته واستيعابها وتطويرها حسبما كانت فلسفة الخلق والإنشاء ومن ثم الثواب والعقاب، والفناء والخلود، ومنها بطبيعة الحال ما يسمح له أن يكون خليفة الله في الأرض.
كما تجرنا ثنائية (القرآن ـ الإنسان) الى ضرورة العلاقة بينهما من خلال مفهوم التدبر ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ))(ض ـ29)، ((أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))(محمد ـ24)، لأن القرآن الكريم ـ على عظمة ما يحتويه بين دفتيه من معالجات أبدية وأزلية، سيكون مجرد كلمات يلقلقها لسان القارئ له إذا ما افتقر للتدبر، وعندئذ سيكون وغيره من الكتب سواء، تغطيه السردية أكثر من العقلية؛ ـ حاشاه من ذلك ـ وهو تقّول لا ينسجم البتة مع ما وصف الله به كتابه الكريم من كونه كتاب هداية ((ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ))(البقرة ـ2)، ونور يستضاء به في الظلمات ((قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(16))(المائدة ـ 15 ـ 16)، واستشفاء ((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى))(فصلت ـ44)، ورشد ومراشدة ((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ (2))(الجن ـ1 ـ2) وبصيرة ((هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))(الجاثية ـ20).
وكتاب يحمل كل هذه الصفات، قطعا سيجر المؤمنين به لحالة من التدبر والتفكر، لئلا تفوتهم منه مقاصد ومقاصد، وهو ما أمرنا به الله سبحانه وتعالى من ضرورة التدبر بما يجعلنا نميزه عن باقي الكتب، خصوصا وإن فيه ما لا يوجد في غيره ((فَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا))(النساء ـ 82).
والتدبر لغة هو التأمُل بنظر عميق وصولا للاستنباط، أما اصطلاحا فيراد به تصرف القلب بالنظر في عواقب أمور الإنسان، باختلاف قليل عن التفكر الذي يعني تصرف القلب بالنظر في الدليل؛ لذلك فهما ـ التفكر والتدبر ـ يلتقيان بالتصرف ويختلفان فيما ينظر فيه منهما.
ومن هذا وذاك فالتدبر هو حالة من عقلنة الحياة ـ عرضها على العقل والبحث في سببها ومنشئها ومآلها ـ، بمعنى أنه منطقة ـ من المنطق ـ الحياة بشكل يجعل منها غير غامضة ولا مبهمة، واضحة المعالم من حيث المبدئ والمنتهى.
ولفظة "التدبر" كادت أن تكون من مخصوصات القرآن الكريم، ولو عرفا، فلم يتدبر القارئ لكتاب علمي مثلا، أنما يشتغل عليه فكره بالتفكير، لذا فأن لفظة "التدبر" تنصرف غالبا ما الى القرآن الكريم، وبالتالي فالتدبر هو التفكُّر المنطقي في المعنى الحقيقي للآيات القرآنية.
ومن دواعي ضرورة تدبر العبد للقرآن الكريم هو ما يتميز به القرآن من ميزات، جعلت من التدبر له ذات جدوى، بل وجعلته لازمة لمن يريد القرب من الله سبحانه وتعالى، ومن هذه الميزات، التماسك، الثبات، الرشد والهداية، العبرة والعظة، وسناتي على كل منها بشيء موجز.

ـ التماسك: يمتاز المجموع القرآني ـ السور والآيات من جهة، المواضيع ومعالجاتها من جهة ثانية، الأمثلة والمقاصد من جهة ثالثة ـ بأنه متماسك بروابط وصلات تسمح للمتدبر بالخروج بنتيجة مقنعة ومحكمة، وتماسكه وإحكامه هذان متأتيان ـ بالضرورة ـ من كون منزله حكيما وقادرا على كل شيء، ((أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا))(النساء ـ82).
وتتبلور تماسكية الخطاب القرآني بأنه يمتلك ترابط بين نصوصه ومقاصده، كما أنه يعطي كل صغيرة في هذا الكون حجمها وبلا تعارض مع غيرها، وبالتالي فهو يبين دور كل مخلوق، ودور حركته ـ اللاإرادية أو الاختيارية ـ ضمن منظومة حية للحياة في الكون، وبدون تزاحم أو تعارض.
ومن أدلة التماسك في الخطاب القرآني، نجده ـ عز من قال ـ يشرح في زاوية ما طريقة خلق الإنسان والقصدية منه، ومن ثم يشرح مآله وهدفه، ومن بعد ذلك يشرح آلية تحقيق ذلك، ويربطها بآيات إبداعية منه، كتسخيره جل شأنه لبعض المخلوقات خدمة لهذا الإنسان، بغية حثه على التكامل والتفاضل القيمي وصولا للهدف المنشود من الاستخلاف، مرورا بشرحه لأليات قيام هذا الإنسان بوظيفته على الوجه الأحسن والأفضل، ثم يشرح عز من قال أهداف الإنسان ومساعيه في دنياه، ثم يربط كل هذا التحرك المتنوع في الدنيا بعالم الآخرة كمسار خاتم لحركة الإنسان الدنيوية، وبذلك تكتمل رواية الخلق وتكون منطقية بالنسبة للعقل البشري.
وتماسك الخطاب القرآني، يمنح بالضرورة حالة من القناعة بسبب النشأة وهو ما يمنح الإنسان ـ كونه المقصود بالتدبر القرآني ـ استقرارا وتوازنا فكريا وسلوكيا، يمنع عنه أي تناقض أو تهافت أو اختلاف بين الإنسان ووظائفه في الحياة الدنيا والأهداف الأخروية، وبالتالي يؤدي كل ذلك الى نسقية وانسجام واتزان في تصرفات الإنسان، لأنه فهم ووعى ماذا يريد؟ وكيف؟ ومتى؟ ولماذا؟، وهو ما يمكن تسميته بالهدية أو القصدية او الغائية من خلق الإنسان.

ـ الثبات: وثبات الخطاب القرآني يعني عدم تناقضه بالكليات والجزئيات، وبالتالي عدم تحريفه او التقول عليه، مع لازمة الحفظ ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ))(الحجر ـ9).
وثبات الخطاب القرآني ضروري ـ على مستوى العقل البشري ـ كونه كتابا خاتما، ومتضمنا لما قبله، ما يستلزم تصديقه لها من جهة، وأثباته بأنه من ذات الجهة العلوية التي أنزلت ذات الكتب السابقة من جهة ثانية، وبخلاف ذلك، قد يوقع اتباعه واتباع الديانات الأخرى في محنة الشك، في وقت كان يراد منه أن يكون كتاب هداية لا ضلال، كتاب يستمر مع الإنسانية في كل مراحلها اللاحقة، ليقوم بدوره في الوعظ والإرشاد والهداية إلى الله، ولا تستقيم هذه المقاصد غلا من خلال لازمة "الحفظ" والبعد عن التحريف والتلاعب ليبقى ممارساً لوظيفته، وهذا ما تحقق على امتداد التأريخ من نزول القرآن الكريم، وسيبقى كذلك حتى يوم القيامة.

ـ الرشد والهداية: مما لا شك فيه هو إن من مقاصد القرآن الكريم صناعة النوع المستخلف ـ خليفة الله ـ وفقا لـ (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارتضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فأولئك هُمُ الْفَاسِقُونَ))(النور ـ55)، وبالتالي توريثهم الحياة الأبدية ((وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ))(القصص ـ5)، ما يجعل منه ـ القرآن الكريم ـ صانع لمخلوق عابد يمثل الله في ارضه، أي أنه ـ القرآن الكريم ـ كتاب صنع للإنسان بأبعاد إلهية.. وليس غير منظومة العبودية لله والإيمان به ورسله وكتبه وفعل الخير والعمل الصالح، يجعل الإنسان في حالة تكامل صوب ما قصده الباري جل وعلا من خلقه له، ولا يكون كل ذلك الا من خلال أسلوب الرشد والهداية الذي تدرج به القرآن الكريم خلال سوره وآياته الكريمات، خصوصا وإنه ـ القرآن الكريم ـ ينظر للإنسان على أنه الوسيلة التي خلقها الله لبناء الحياة بالطريقة التي يبرز فيها هذا المخلوق كل إمكاناته وقابلياته الروحية والفكرية في صورة العمل المؤسس في الحياة الدنيا والمجسد للطروحات الإلهية، ولينتقل بعد ذلك الى عالم الآخرة مؤهلاً لدخول الجنة ـ على أنها عالم الجزاء ـ التي يحتاج دخولها الى العمل الصالح الذي يكون الإنسان قد قام به في الدنيا باعتبارها عالم الابتلاء.

ـ العبرة والعظة: يتميز الخطاب القرآني بأسلوب النصح المقرون بالسرد القصصي ـ القصة عموما أكثر تأثير على المتلقي من القواعد المجردة ـ المتنوع والمتعدد لتجارب إنسانية سابقة تمثل الإرث لذات المخلوق ـ الإنسان ـ ما يجعله أكثر قبولا لها كمصداق تطبيقي عليه ـ، وهي قصص تحمل بين طياتها العبرة والعظة  بمنهجية (الأسباب والنتائج)، ما يجعل من هذا الأسلوب ـ العبرة والعظة ـ خير معلم للإنسان الذي لا يستطيع أن يقنع نفسه الأمارة بشكل ذاتي دون استثارتها بما هو مؤثر وواقع وممكن، وإن كان من الماضي البعيد، وبهذا يضع القرآن الكريم جدلية (الإيمان والكفر)، و جدلية (الحق والباطل) بل وحتى جدلية (الله والشيطان) قابلة للتعقل والنمذجة عبر نماذج قصصية سابقة ومتنوعة من حياة الحضارات والأمم والافراد السالفين.
مع إن هذا الأسلوب ـ السرد القصصي لخلق العبرة والعظة ـ لم يجعل من القرآن الكريم كتابا قصصيا ولا تأريخيا، بل ميزه عن كل ذلك بالشمولية والسعة.

 

فاطمة الشيخ ناظم

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م