15 شوال 1445 هـ   24 نيسان 2024 مـ 4:55 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2022-01-22   849

المكتبةُ السيَّارة.. سَبَقَتْ فرانكلين

لم تكن شفافةً وواقعية مع الأجيال، لم تَلْتَزِمْ صراحة الحقيقة، حين بثًتْ إلينا عِبْرَ شاشات الخطاب المعرفي، حقائقَ متقطعة ومُحَنَّطة، نشأت عليها وتسالمت على صحتها، وتشكلَت من خلالها ذاكرةٌ استدلالية، يُلْجَأُ اليها في مواطن الاستشهاد ومقاربة المعنى الروائي.. وهناك من اعتمدها في توثيق وتوهين ما يراه راجحاً.. فلا مجال لقبول النقد، أو الإشارة الى الخلل او الضعف او الريب، جرت السليقة على هذا وانتهى الأمر.
هذا ما لَمسناهُ من أوراقُ الأيام ومذكرات التدوين التاريخي.
لكن مخرجات حداثوية الفكر والخطاب ومنهج المقاربة الواقعية، وما أثارته طروحات (الخريطة الذهنية) ،يُحَتِّم  ازاحة ما أمكن إزاحته من ركام ثقافة غير منطقية، تسلحت بلغة الماضي ذي النزعة القطعية فيما يورد ويُصَدّر..
وما أعنيه ثقافة (حرق المكتبات العلمية والانسانية) التي لا يختلف اثنان من العقلاء ، بأنها أقسى وأمّر من جرائم الإبادة الجماعية، فالبشرية قادرة على تكرار الجنس البشري وديمومته بمقتضى السنن الكونية النافذة، لكنما جريمة طمر الكنوز الفكرية الهائلة والى غير رجعة، لَتَسْتوجِب الصدمة والذهول والوجوم!!!!
من أين نستخرج تلك الكنوز؟ ومن يملك بديلاً عنها؟ وهل خطر في بال أحد إعداد نسخة بديلة لها كما في عالم التكنولوجيا المكتبية المعاصر؟
فالذاكرة الزمنية  قد حفظت للأجيال، حوادث مرعبة عن جرائم الإبادة المعرفية الشاملة من عمر الإنسانية الطويل جداً، كما في إحراق الإمبراطور الصيني (تسي شن هوانغ) جميع الكتب العلمية والتاريخيّة الصينيّة، التي تربو على مئة ألف مخطوط، وما قام به الامبراطور اللاحق (شي هوانغ تي) الذي أصدر إعلاناً يقضي بتدمير آلاف الكتب القيمة،  وإحراق الرومان (مكتبة قرطاج) التي تضم نصف مليون مخطوط، وهذا ما حصل لـ (مكتبة بيرغاموس) في آسيا الصغرى والتي تحتوي على مائتي الف كتاب، وقيام (يوليوس قيصر) بإتلاف المخطوطات المذهلة في الفلسفة والطب وعلم الفلك في مدينة (أوتن) الفرنسية.. وقيام طاغية الرومان (دقليانوس) بحرق الكتب والمخطوطات الإغريقيّة الموجودة في البلاد، وقيام الإمبراطور (تيودوسيوس) بإحراق جميع المكتبات المعروفة في عصره، وكانت أعدادها هائلة جداً.. وغيرها الكثير الكثير.
أكاد أجزم، أن مئات الملايين من البشر، يجهلون أي كوارث معرفية وأخلاقية قد تسببت بها تلك الحوادث الرهيبة!!! فمن محو الذاكرة العرقية والدينية والثقافية، الى القضاء على هويات الجماعات ووجودها، فضلاً عن إيجاد فراغات مبهمة وغير مفهومة، تبعث فيك إحساساً قوياً بأنك وسط مدينة من الضباب او متاهة من الضياع!!!
إن هذه الحقيقة المُرة من (هزيمة المكتبات المعرفية) أمام قطعان الهمجية الموجهة صوب هدفها المنشود، ترمقُ هدفاً بعيداً غير معلن، وربما يكون مصداقاً له، ما ذهب اليه الأديب الالماني (هاينريش هاينه)، في مسرحيته الشهيرة (ألانسور) بما نصه: "حيث يحرقون الكتب، سوف يقومون في النهاية أيضا بحرق الناس".
وهنا نجتمع لنبكي بكاءً عظيما، ونلعن بلغة الأسى من أهدر رصيدنا المعرفي وأحرقه وذرّاه في فضاء الضياع واللا عودة.. هنا نبكي وبكل لغات الحضارات الانسانية، على أعظم مكتبة عرفتها الحضارة الاسلامية الشاملة، والمتمثلة بـ (مكتبة الصاحب بن عبّاد)..
الروائي والمترجم والناقد الأرجنتيني (ألبرتو مانغويل ) المعروف بتجربته المميزة في (قراءة الكتاب شَغَفاً) يقول في  كتابه (تاريخ القراءة) عن سائقي الجِمال التي تَحمل فهارس مكتبة (الصاحب بن عباد) الوزير المسلم الشيعي في القرن العاشر الميلادي: ".....إنهم خدموا بفعالية كأمناء مكتبة، إذ بإمكانهم تحديد موقع أي من العناوين التي طلبها الوزير بسرعةٍ بمُجرّد الرجوع إلى الفهرس المُتاح".
لن أخوض في الهوية العقائدية لهذا العبقري الفذ، وما شغله من مساحة في عالم المعرفة والفكر والادب والثراء الاخلاقي، فهذا الأمر متيسرٌ لِمَنْ أراد البحث والدراسة في شخصيته النادرة، لكني أفسح المجال لِمَنظومة الفكر، كي تعطي صورة شبه مقاربة عن مكتبته الرائدة وجهوده الجبارة.
يقول (ول ديورانت ) في (قصة الحضارة): ".... وكان عند بعض الأمراء كالصاحب بن عباد من الكتب بقدر ما في دور الكتب الأوربية مجتمعةً".
ووصفها المستشرق الفرنسي المعروف (جاك ريسلر) في كتابه (الحضارة العربية): "تلك المكتبة تفوق في موجوداتها، مجموع الموجودات لدى المكتبات الأوروبية مجتمعة في تلك الحقبة الزمنيّة".
وذكر الكاتب والإعلامي الأورغوياني (إدواردو غليانو) في كتابه (أبناء الأيام) تحت عنوان (الذاكِرة الجوّالة): "....... في تاريخ البشرية كله، كان للكُتب ملجأ آمِن واحد من الحروب والحرائق؛ المكتبة الجوّالة التي كانت فكرة خطرت لوزير بلاد فارس الأكبر، عبد القاسم إسماعيل (الصاحب بن عباد)، إنه رجلٌ حذرٌ، فذاك الرحَّالة الذي لا يملّ السّفر، كان يحمل مكتبته معه، أربعمئة جَمَل تحمل مئة وسبعة عشر ألف كتاب، في قافلةٍ تمتدّ كيلومترين طولاً، وكانت الجِمال تُستخدَم أيضاً فهرساً للكتب....".
لتأتي الباحِثة في تاريخ المكتبات  وأمينة مكتبة فيكتوريا الكبرى (مورين ساوا) في كتابها (قصة المكتبة من الجِمال إلى الكمبيوتر) وعِبرَ رحلتها الشاقّة في أصول المكتبات بأن: "عبد القاسم إسماعيل هو واحد من أبطال المكتبة المألوفين مثل "غوتنبرغ" و"بنجامين فرانكلين"، لكنه الأكثر غموضاً، مثل (هيباتيا) أمينة مكتبة الإسكندرية العظيمة التي قُتِلَت على يد مجموعةٍ من الغوغاء لمُعارضتها تعاليم أفلاطون، وأكثر ما يُميّزه أنه امتلك "مكتبة تدرَّبت على المشي؛ لأن الجِمال التي تحمل آلاف الكتب كانت تسير وفق نظام دقيق، يختلف عن "نظام ديوي العشري" لكنه لا يقلّ أهمية عنه في ذاك التاريخ".
ختاماً.. أليسَ من المنطق و الحيادية أن يقفَ المنبهرون بإنجازات (بنجامين) الجديرة بالاهتمام، ان يقفوا طويلاً عند إنجازات (مُخترع المكتبة السيَارة.. منقطعة النظير)؟!

مرتضى محمد

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م