11 شوال 1445 هـ   20 نيسان 2024 مـ 12:08 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2021-01-23   1672

"كنتم خير أمة"... إعمال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... الدواعي واللوازم

ما أنفك الإسلام عن إقرار بعض ما كانت تعمل به الديانات من قبله، بل ويؤيدها ويؤكدها، أما تلك التي نُسخت فلعلة ما، فضلا عن أن ما نسفه القرآن الكريم من اعراف وتقاليد اصطبغت ـ لسبب أو لأخر ـ بصبغة الدين، وهو منها براء، إنما مرده لتعارضها مع الأصل التشريع او تحريفها وتزويرها من قبل المنتفعين ومن ينصب نفسه حارسا للشريعة من غير الأنبياء واوصيائهم واولي العلم من اتباعهم، مبقيا على القويم السليم منها بقدر ما ينسجم مع الفطرة السليمة، وبالتالي فأن ليس من تعارض بين الدين الإسلامي ـ ممثلا بالقرآن الكريم والمنظومة العصموية من أحاديث رسول الله وحواريه من أئمة اهل البيت عليهم السلام ـ والديانة الموسوية (اليهودية) او العيسوية (المسيحية)، وعلة ذلك هو أن مصدرها جميعا واحد، هو الله الواحد الأحد علام الغيوب. 
ومن تلك الإقرارات، ما أقره الإسلام بضرورة إدامة العمل بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، معتبرها فريضة اجتماعية مهمة ولها إسقاطات وضعية كبيرة.
     على الرغم من كونها مبدأ سماوي اقرته الديانات السابقة ـ بل وألزم الله أنبياءه قبل الني محمد عليه وعليهم الصلاة السلام ـ فلم يكتفى الإسلام بذلك، إنما منحها زخما جديدا وجعل منها فريضة ثابتة لا تغيرها السنن ولا التشريعات نظرا لكونها لازمة لبناء أي مجتمع، لذا نجد ان القرآن الكريم قد أطرى وامتدح أهل الكتاب من المسيح واليهود عندما يأتمرون بهذه الفريضة البنّاءة، ((لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُم يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُسَارِعُوْنَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)) (آل عمران ـ 113 ـ 114).
وأبعد من ذلك، فقد اعتبر القرآن الكريم أن سبب تفضيل الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم، إنما مرده قيمومتها بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كرقابة مجتمعية ضرورية لإدامة العلاقات الإنسانية والحفاظ على الفرد والمجموع، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بالقول ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...))(آل عمران ـ110)، بل وأنه جل شأنه قد عّرف بعظمة نبيه الأكرم محمد صلى الله عليه وآله للأمم السالفة عبر كتبه المقدسة (التوراة والإنجيل) من خلال ما تميز عليه السلام به، كآمرٍ للمعروف وناهٍ عن المنكر، فضلا عن صفات أخرى كتحريره لهم وتحريمه للخبائث، ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))(الأعراف ـ157).
ولأهمية ذلك، فأن النبي محمد صلوات الله عليه وسلم، راح يمعن بتبيان هذه الفريضة، وبيان أهميتها، لئلا تتكاسل الأمة الإسلامية ـ خصوصا وأنها كانت يومئذ فتية ـ عن القيام بواجبها اتجاه افراداها وافراد الديانات الأخرى، فقد قال عليه الصلاة والسلام في خطبته يوم الغدير "ألا وإني أجدد القول، الا فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، ألا وإن رأس الأمر بالمعروف أن تنتهوا إلى قولي، وتبلغوه من لم يحضر، وتأمروه بقبوله، وتنهوه عن مخالفته، فإنه أمر من الله عز وجل ومني، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، الا مع إمام معصوم".
 وأنزل عليه الصلاة والسلام القائمين بهذه الفريضة العظيمة منزلة الأنبياء والشهداء بما يغبطهم عليه الناس! حيث قال: "ألا أخبركم عن أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الناس يوم القيامة بمنازلهم من الله عز وجل، على منابر من نور؟" قيل: "من هم يا رسول الله؟" قال: "هم الذين يحببون عباد الله إلى الله، ويحببون الله إلى عباده"، قيل: "هذا حببوا الله إلى عباده، فكيف يحببون عباد الله إلى الله؟" قال: "يأمرونهم بما يحب الله، وينهونهم عما يكره الله، فإذا أطاعوهم أحبهم الله".
 بل وراح عليه وآله الصلاة والسلام الى أبعد من ذلك، معتبرا معايشة الناس بالنصح ومنعهم من المنكر وأمرهم بالمعروف، من نعم الله التي تستلزم الشكر لا الكفران، حيث يقول صلوات الله عليه وآله لضيفين عنده من أهل الصفة، زهدا في الحياة وابتعدا عن مخالطة الناس وقال قائلهما: "إني أشهد الله، وأشهد رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن حضرني، ان نوم الليل علي حرام"، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: "لم تصنع شيئا، كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إذا لم تخالط الناس؟ وسكون البرية بعد الحضر كفر للنعمة، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يقذفون الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، بئس القوم قوم لا يقومون لله تعالى بالقسط، بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط في الناس".
      من جهة أخرى، فقد ابعد صلوات الله عليه وآله من لا يأمر بمعروف وينهى عن منكر عن ملة المسلمين! لما لامتناعه هذا من توهين للإنسانية وإشاعة للظلم والفحش، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ولم يوقر كبيرنا، ولم يأمر بالمعروف، ولم ينه عن المنكر".
ولما كانت هذه الفريضة أهم ما تُبنى به الأمم ويحافظ من خلالها على قيمة الإنسان بمنحه ما يتسق ومتطلبات حياته، ويحفظ نفسه وماله بل ورأيه، فقد كان للخليفة الشرعي لرسول الله النبي محمد ـ الإمام علي ـ عليهما السلام اشتغالات كثيرة على تثبيت هذا الركن المجتمعي، استقراء منه لأهمية هذه الفريضة في نظم الشأن الإنساني، إنى كان، حيث اعتبر عليه السلام فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعبتين من شعب الجهاد، والأخير (الجهاد) واحد من أربعة شعب للإيمان، وبالتالي فقد ربطهما ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ بالإيمان، حيث قال عليه السلام: "إن الله عز وجل جعل الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد، فالصبر من ذلك على أربع شعب: على الشوق والاشفاق والزهد والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن راقبت الموت سارع إلى الخيرات، واليقين على أربع شعب: تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، ومعرفة العبرة، وسنة الأولين، فمن أبصر الفطنة عرف الحكمة، ومن تأول الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة عرف السنة ومن عرف السنة فكأنما كان مع الأولين، واهتدى إلى التي هي أقوم، ونظر إلى من نجى ما ومن هلك بما هلك وإنما أهلك الله من أهلك بمعصيته وأنجى من أنجى بطاعته، والعدل على أربع شعب: غامض الفهم، وغمر العلم، وزهرة الحكم وروضة الحلم، فمن فهم فسر جميع العلم، ومن علم عرف شرائع الحكم، ومن الحكم، ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش في الناس حميدا، والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافقين وأمن كيده، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه ومن شنأ الفاسقين غضب لله ومن غضب لله غضب الله له، فذلك الإيمان ودعائمه وشعبه".
كما اعتبر عليه السلام الآمر بالمعروف كمن يشد من آزرة أخيه المؤمن، في حين اعتبر الناهي عن المنكر بمثابة من يرغم المنافق آمنا من كيده.
وبذلك، فإن إحياء هذه الفريضة المعطلة ـ حسب رؤية الإمام علي عليه السلام ـ بمثابة استنهاض لروح الجماعة والأزرة من جهة، وتوهين للنفاق من جهة ثانية، ما يجعلها ـ الفريضة ـ المحرك الإساس للبناء المجتمعي، ولازمة لأي عملية إصلاحية فيه، خصوصا وأن القيام بهما كواجب شرعي ـ حسب مستويات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمتسلسلة التي أوصى بها رسول الإنسانية النبي محمد لخليفته الإمام علي عليهما السلام بالقول :"يا علي مُرّ بالمعروف وانه عن المنكر بيدك فان لم تستطع فبلسانك فان لم تستطع فبقلبك وإلا فلا تلومن الا نفسك"، ما يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتمرحل بثلاث مراحل هي اليد (القوة) واللسان (النصح من جهة والرفض من جهة أخرى) والقلب (الدعاء من جهة والرفض القلبي).
من جهة أخرى، يرى عليه الصلاة والسلام ـ ومن باب تأكيده على أهمية هذه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ بأن القيام بهذين الفرضين لا يقرب أجلا ولا يمنع رزقا، وبالتالي فلا خسارة للقائم بهما، أنما الربح الدائم وحسب، حيث يقول عليه السلام: "وإنَّ الأمرَ بالمعرُوفِ والنَّهي عنِ المُنكرِ لخُلُقان مِن خُلُق الله سُبحانه، وإنَّهُما لا يُقرِّبان مِن أجَلٍ، ولا ينقصانِ مِن رزقٍ".
ومن باب تثقيف الأمة ـ وهو إمامها ورئيسها الشرعي ـ فقد اعتبر الإمام علي عليه السلام بعضا من معاشره (من يتزلف اليه بالقرب) أبعد ما يكون عن المنهج الإلهي، بل وأنه بهذا التقرب المزيف أنما يهجر كتاب الله جل شأنه! بسبب نكرانهم للمعروف وعدم نهيهم عن المنكر، فتراه يشتكي من هذه الطغمة بالقول: "إِلى اللهِ أشكُو مِن معشر يعيشُون جُهَّالاً ويمُوتُون ضُلاَّلاً، ليس فيهم سِلعة أبورُ مِن الكتاب إذا تُلي حقَّ تلاوتهِ، ولا سِلعة أنفقُ بيعاً ولا أغلى ثمناً مِن الكِتاب إذا حُرِّف عن مواضعهِ، ولا عندهُم أنكر من المعرُوف ولا أعرفُ من المُنكرِ".  
كما عد عليه السلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنه أفضل اعمال الخلق، حيث يقول عليه السلام: "الأمر بالمعروف أفضل اعمال الخلق"، بل ويعتبر ذلك اس الدين وغايته السامية، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: "غاية الدين، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود"، ما دفعه لأن يمنح هذا الموضوع ـ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ أهمية كبرى لدرجة أنه يوصي به ـ وهو على فراش الموت ـ ولديه الحسنين وباقي ولده وأهله بالقول: "أوصيكُما وجميع ولدِي وأهلي ومن بَلَغه كتابي......" إلى أن قال بعد عِدَّة وصايا "وعليكُم بالتّواصُلِ والتبادل، وإيَّاكُم والتدابُر والتّقاطُع، لا تترُكُوا الأمر بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ، فيُوَلَّى عليكُم شِرارُكُم، ثُمَّ تَدعُونَ فلا يُستجابُ لكُم".

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م