ما وراء فقه وأخلاق برامج التواصل الاجتماعي
إن المتابع لمجريات ما يحدث على
مواقع التواصل الاجتماعي، سواء ما كان منها على مستوى النشر أو
على مستوى التفاعل، يلاحظ وجود فوارق كبيرة بين المتفاعلين فيها
والتعاطي معها، تبعا للمستوى الثقافي والأخلاقي والديني لهم، حيث
كل يعمل على شاكلته، عاكسا مستوى البيئة المنحدر عنها وعلى كل
المستويات، فترى فيهم الشخصية المأزومة أخلاقيا ولا تستحق
الاحترام، بفعل نشره وتعليقه واهتماماته، كونه يجسد فعل الأشرار،
متوسلا بالوسائل الشيطانية، إن لم نقل هو الشيطان بعينه، وهكذا
شخصية تكون بعيدة عن قيمية وأخلاقية الدين الإسلامي التي تحث على
احترام الآخر، ومنها احترام الذائقة العامة سواء بالنشر أو
التعليق، في حين ترى منهم المحترم بشخصه، ولا يخرج عنه إلا الكلم
الطيب، وأهدافه وأفعاله أخلاقية تحترم الآخر وتقيم وزنا للذوق
العام، وكل ذلك ينحدر من تحت راية الإصلاح التي تربى عليها في
بيئة صالحة التكوين بالأصل، حيث الالتزام الديني والأخلاقي، وهذا
يتوافق ويتسق مع توجهات الدين الإسلامي باعتباره دين المحبة
والإخاء، حيث يعكس في كل كلمة وفعل منه حسن دينه وتربيته
وانضباطه.
ولأن برامج التواصل الاجتماعي هي
أرقى وأخطر وسيلة اتصال إعلامية لحد الآن؛ حيث أن كل صفحة فيها
تمثل قناة إعلامية بحد ذاتها، قناة تعتمد في عطائها على عطاء
الفرد، وكل حسب توجهاته وما سخر نفسه له، وهذا يعتمد كليا على
تفكيره وتفكره فيما يحيط به، ويعتمد كذلك على رفعة مستواه
الحضاري، حيث يستطيع من خلال كل ذلك، الانطلاق للفضاء العالمي بلا
حد يمنعه، فضلا عما يوفره ذلك من اطلاع على كل ثقافات
العالم بلا استثناء، والتفاعل معها بلا حدود، كما يمكنه من خلالها
أن يقرأ وينشر ويشكل صداقات وعلاقات، يكون فيها مؤثرا تارة
ومتأثرا بأخرى، وعليه لا بد من التحصين الثقافي والديني
للمتفاعلين لهذه المواقع كي لا يكونوا صيدا سهلا لبعض الهجمات
الدينية والثقافية والفكرية التي تريد له الدوران في
فلكها.
النشر الهابط
ودلالاته
من خلال المعاينة والمتابعة
لبرامج التواصل الاجتماعي؛ نشاهد وجود مستويات هابطة للنشر، تُظهر
ثقافة ضحلة للناشر، حيث تجده لا يفقه أي شيء من أساليب وطرق
النشر، ولا حتى يعرف أبجديات النشر، والدليل على ذلك، سوء ما
يطرحه من مواضيع للنشر، في ظل غياب الفكرة وعدم تجانس المباني
لديه وانتفاء الرقيب عنده، وهذا يدلل على قصوره الثقافي، وهبوط
حاد في مستوى الذائقة العامة لديه، وهو أمر مزعج للغاية
ومتعب للمهتم بالذوق العام، كنتيجة لتأثيراته السلبية على المجتمع
والمتلقي خاصة، حيث يشعرك بالمستوى الثقافي الهزيل يظهر تسافل
طرحه وسطحية تفكيره، مع العلم أن دعوة الإسلام قائمة على تحصيل
العلم والخلق الرفيع، حيث تدعو للاستفادة من هذه البرامج بشكل
واسع وكبير اغناء للمعارف الإنسانية، لتعدد مجالات الفائدة فيها،
فمواضيعها لا حد لها، تستغرق كل المجالات؛ العلمية منها والثقافية
والدينية والفنية مجتمعة، وهذه الدعوة هي مطلب إسلامي جوهري لا
يمكن التهاون فيه، خاصة ونحن نطمح إلى بناء مجتمع إسلامي متطور
يواكب الحضارة ويسخر كل معلومة فيها لصالح عمارة الأرض ورخاء من
فيها، تحت راية سلامة العقيدة، عقيدة الإسلام والعمل الصالح الذي
تقتضيه، وإذا بنا نرى مستويات هابطة تسيء للذوق العام ولا تراعي
دينا ولا عرفا، الا أن القيمية الإسلامية تنبذ هؤلاء حتى يتوبوا
عن سوء أفعالهم، لأنها تسبب عامل إحباط لدى المعتدلين من المجتمع،
في وقت يبذر فيه هؤلاء بذرة الخراب، ما يتطلب الوقوف بقوة ضدهم
والتصدي لهم كي لا ينشطوا في الإساءة للمجتمع.
كما أن إنشاء مجتمع يفكر في كيفية
الانتفاع من وسائل التواصل الاجتماعي لأقصى مدى، هي مهمة شاقة
تتطلب جهدا ليس بالهين، خاصة مع وجود هكذا نماذج لا تعرف الألف من
الياء في نشرها، خصوصا من يدعمون تسافلهم ورذيلتهم بالصور
الفاضحة، مما يؤثر سلبا على كل من يرى أو يتفاعل مع هكذا منشورات
((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي
الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ))
(النور-19).
النشر المتزن
النافع
ولا ننكر وجود ناشرين
محترمين على مستوى عال من الثقافة والدراية، همهم الأول والأخير
هو نشر المعرفة والفضيلة في المجتمع، دافعهم في ذلك التزامهم
بأخلاق الإسلام واحترامهم للعرف الأخلاقي المجتمعي والذوق العام
للمجتمع الذي يعيشون فيه، حيث ينشرون ما ينفع الناس بما يطور
أذهانهم، من خلال أبحاث متواصلة ومؤثرة في حياتهم العامة وبشتى
المجالات، كذلك نشرهم لأقوال وحكم نافعة تتعدد أهدافها حسب طبيعة
الموضوع المنشور، وهذه بالتأكيد يؤثر إيجابا على المتفاعل ويرفع
من المستوى الثقافي له، ما ينعكس بالضرورة على المجتمع
إيجابا.
إن هؤلاء الناشرين من باب شعورهم
بالمسؤولية واحتراما لأنفسهم ولدينهم وما يدعون له من طلب للعلم
والتعامل بأخلاق الإسلام، كذلك احترامهم لأخلاقيات مجتمعهم، كل
ذلك دفعهم لاختيار الأحسن في النشر بعدما اتبعوا أحسن القول
متذاكرين دوما قول الله في كتابه العزيز ((الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَـئِكَ
الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّـهُ وَأُولَـئِكَ هُمْ أُولُو
الْأَلْبَابِ)) (الزمر-18).
مسؤولية المتلقي أو
المتفاعل في مواقع التواصل
إن وضع علامة إعجاب على نشر ما،
فيه مسؤولية أخلاقية وشرعية أمام الله وأمام المجتمع، حيث على
المتفاعل الانتباه لذلك، وعليه ألا يرمي إعجابه جزافا أو مجاملة
ليشجع به فاسق على زيادة في نشر الرذيلة، أو يجعله ظانا بأن ما
ينشره من تفاهات مرغوب فيها عند الكثرة من الناس، فيكون المعجب
بذلك سببا في نشر رذيلة وإشاعة الحقير والتافه من الأمور، مما
يسبب انحدارا لمنحنى الأخلاق في المجتمع، للتأثير السيكولوجي
للرذيلة على الأنفس حيث تحرره سلوكا خارجيا قد يشكل ظاهرة مجتمعية
لا يمكن السيطرة عليها.
كما إن كثرة ما يحصل عليه السيئون
من "اعجابات" يزيد في القناعة لديهم بأن ما يفعلونه هو محط ترحيب
عند الناس، وهو دليل رضا لديهم، معتمدين فيه على كثرة الإعجابات
على ما ينشرون.
التحصين الديني والثقافي للفرد
والمجتمع
إن زيادة الوعي الديني للإنسان من
خلال تعريفه بأصول الشريعة في الحلال والحرام، كذلك تعريفه بعقائد
دينه وأخلاقه، سيكون عامل ردع للنفس الأمارة بالسوء، وعامل قهر
للوسوسة الشيطانية اللتان تحاولان جر الفرد لمواطن السوء والرذيلة
مما يتوافر في بعض مواقع التواصل الاجتماعي كالقنوات غير
الأخلاقية، وما شاكلها من مواقع وصفحات، أو من خلال الانفراد
بامرأة والحديث معها في الفيس بوك بما يخالف الشريعة والخلق
الإسلامي، لذلك بات إظهار مساوئ هذه القنوات والمراسلات المخالفة
للشريعة؛ أمرا واجبا لتحصين الفرد من الوقوع في شراكها، لما له من
تأثير على حالته النفسية والغريزية والتي تسبب اضطرابات نفسية عدة
قد تؤدي به للتهور والتصرف وفق سلوكيات غرائزية حيوانية تنتهك
أعراض الناس، وهذا أمر يستهجنه الدين الإسلامي ويحرمه ويعاقب
عليه، مما يستوجب على المهتمين بالبناء المجتمعي؛ تنظيم دراسات
وإقامة ندوات وبث إعلانات تشير لمساوئ هذه المواقع لأنها ستنسحب
بالضرورة على أخلاق المجتمع ككل، وبهذا يكون التعريف بها بل
والتعرض لها واجبا شرعيا على أمل تجنيب المجتمع من مساوئها
ومضارها، لذا نجد إن موقف الفقه الإسلامي من شبكات التواصل
الاجتماعي موقفا صريحا وشجاعا، فتراه مرة مرحبا بها فيما اذا
استغلت استغلالا علميا ومعرفيا، حيث الانتفاع منها معرفيا بوسع
مجالاتها المشرعة للقاصي والداني، خصوصا وأن دعوة الدين الإسلامي
للتزود من العلوم تنطلق من عديد الآيات القرآنية التي تحث على طلب
العلم والتعلم ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو
الْأَلْبَابِ)) (الزمر-9)، فضلا عن تقديره للعلم والعلماء الذين
بإبداعاتهم وكثير منجزاتهم كان كل هذا التطور التكنلوجي المتسارع
الذي نعيشه والذي سهل الحياة للإنسان، لذا فأن تقدير الإسلام
للعلم هو الدافع القوي الذي يدفعه لتشجيع المسلمين على الانتفاع
من مواقع التواصل الاجتماعي حيث المعلومة سهلة متوفرة بين
أيديهم.
أما موقفه الممانع من استخدامها
للتوافه من الأمور والتي تحط من سلوك الفرد بما يؤثر سلبا على
البنى الأخلاقية للمجتمع، فهو مستمد من أصول الشريعة الإسلامية
التي تحث على حسن الخلق والتعامل بالتي هي أحسن بين الناس، لذلك
يجب النظر بموضوعية وحيادية لموقف الدين من مواقع التواصل
الاجتماعي، ولا يهم قول المتخرصين الذين يرمون الدين بتهم لاحقيقة
لها، همهم الأول والأخير نشر الفاحشة بين الناس، وهذا ما يرفضه
الدين جملة وتفصيلا، ما أحدث تصادما بينهم وبينه، خصوصا وإن سنة
العدل والحق لها الغلبة بالنتيجة على سنن الباطل الشيطانية، لذلك
فأن زيادة الوعي الديني للفرد بما يرفع الغشاوة عنه سيشعره بشعور
عقلي وقلبي بالضد من هذه القنوات السيئة الصيت وتأثيرها النفسي
والغريزي عليه، ما قد يبعده عنها قانعا بقراره متيقنا من قبيح
آثارها.
عادل مشكور الظويهري