

| معاجز قرآنية | المعجزة استحالة عادية لا عقلية
2025-06-07 84

المعجزة استحالة عادية لا عقلية
السيد علي العزام الحسيني
أثناء مطالعتي للمؤاخذات التي
تثيرها التيارات التي تشكك في إمكانية وقوع المعجزات، وجدتُ ركيزة
جامعة لتشكيكاتهم، وقاسمًا مشتركًا لعدد غير قليل من إشكاليتهم،
فكان منطلقًا لجملة من الاعتراضات في هذا السبيل.
لقد تلقى هؤلاء مفهومًا مغلوطًا،
وتصورًا ساذجًا عن المعجزة، فتعاطوا مع ما يصفه علماء العقيدة
لمفهوم المعجزة من أنّها أمرٌ خارق للعادة، أو مخالفٌ للطبيعة على
أنّه اضطراب في القوانين التكوينية، ومخالفة للقواعد العقلية،
واستثناء من قانون العليّة!
لا شك أنّ المعجزة فعل موصوف بخرق
للعادة المتعارفة عند البشر إلى جانب القيود والأبعاد الأخرى
المرتبطة بطبيعة المعجزة مما لا يعنينا أمرها هنا، وإنّما نقف
بالتحليل على البُعد الملتبس الذي نتجت عنه الاعتراضات، أعني انتهاك
المعجزة للنواميس المعروفة وخرقها للعادة الجارية.
إنّ كون المعجزة أمرًا خارقًا يعني
أنّها ليس حدثًا عاديًا وفعلا مألوفًا طبيعيا، بل هو فوق الفعل
النادر ودون الاستحالة العقلية، وسأشرح هذا المعنى بأسلوب سلس
وعبارة مفهومة كالآتي:
الفعل بشكل عام طيف متدّرج، متعدد
المستويات، متفاوت الدرجات من حيث الوقوع والتحقّق. وبتعبير علماء
المنطق: إنّ مفهوم الفعل ليس من المفاهيم المتواطئة، بل هو مفهوم
مشكك ذو مراتب أربع وهي على الإجمال كالآتي: 1- الفعل العادي الذي
يكثر وقوعه. 2- ويليه في المرتبة النادر الذي يقل نظيره. 3- ثمّ
الخارق الذي منعدم النظير. 4- وأخيرًا ما يدخل تحت عنوان الممتنع
العقلي.
تقع المرتبة الأولى في أقصى
اليمين، بأن يكون فعلًا عاديًا مألوفًا، جاريًا على النسق الطبيعي
الذي نعرفه، لا يثير في النفس استغرابًا ولا يبعثها على السؤال،
وهذا هو حال عامة ما نراه في حياتنا اليومية، مما يكثر ولا يندر،
كالحمل في الرحم لا في الكبد.
وفي مضادة هذه المرتبة تقف على
أقصى الشمال المرتبة الرابعة التي يدخل فيها الفعل درجة الاستحالة
ودائرة الامتناع العقلي، كالجمع بين النقيضين أو وجود المعلول بغير
علّة أو جعل الناتج من ضرب واحد في واحد يساوي عشرة وإلخ. وما بين
هذه وتلك تتوسط المرتبتان الأخريان: الثانية والثالثة.
أما الثانية حيث الفعل الذي يقل
وقوعه ولا يكثر، ما يجعله داخلًا عن عنوان الحالة النادرة والواقعة
الشاذة، من قبيل عجائب الدنيا السبع، أو حمل امرأة في كبدها بدلًا
من رحمها(حالة جرى الكشف عنها على يد طبيب كندي قبل ثلاث سنوات)، أو
تكلّم الطفل وهو في عامه الأول بشكل سليم واضح مثلًا، أو بلوغ بعض
العلماء درجة الاجتهاد والفقاهة دون سن البلوغ إلى آخر ما هنالك من
أمثلة ونماذج، والوصف الدقيق لهذه النماذج أنّها حالات نادرة، قليلة
النظير، لا منعدمة النظير بحيث يستحيل على البشر تكراره ويمتنع
عليهم إيقاع نظيره.
وعلى هذا الأساس تتميز المرتبة
الثالثة عن سابقتها بكون الفعل فيها خارقًا للعادة، يعجز الإنسان
نوعًا عن مماثلته، ولا طاقة للجنس البشري عن مجاراته، فعلى سبيل
المثال، مهما كانت نماذج المرتبة الثانية مبهرة كما في حالة نطق
الطفل في عامه الأول نطقًا فصيحًا، مع ذلك ليس من المستبعد أنّ يكون
المجتمع العلمي قادرٌ على إحداث هذه الحالة وتكرارها لو بذل جهودًا
حثيثة في هذا المضمار، ولكن من دون شك ليس بوسعهم تبكير النطق في
الطفل الرضيع الذي لم يمض على ولادته سوى ساعات كما في حالة المسيح
عليه السلام.
ونتيجة لما ذكر: تتميز المرتبة
الثالثة التي تنضوي تحتها المعجزة عن بقية المراتب بكونها أمرًا
ممكنًا في نفسه، لا يتعارض مع المحالات العقلية، بدليل وقوعه،
والوقوع -كما قالوا- خير دليل على الإمكان، لكن وقوعه لا يصيّره
حدثًا عابرًا عاديًا ولا حتى نادر الوقوع، يمكن لبني الإنسان إعادته
بالتعلم والتكرار وبذلك تخرج أفعال السحر والشعوذة، ولهذا أضاف
علماء العقيدة والكلام في تعريف المعجزة قيد (التحدّي وعدم
المعارضة).
وبكلمة موجزة: وصف المعجزة بخرق
العادة ومخالفة السنن الظاهرة لا يعني أنّها تجري بلا قانون يحكمها
أو أنّ فيها هتكًا لثوابت العقل بقدر ما تعني غياب القواعد
والقوانين التي تحكمها يحكمها عنا، لا أنّها تجري بلا قانون،
لاعتقادنا بأنّ الوجود أوسع من المادة، وأنّ عالم الطبيعة لا يمثّل
كلّ الحقيقة، ومن ثمّ فنظام الأسباب الذي يحكم الوجود يشمل العلل
الطبيعية وما ورائها، بل ربما تغيب عنّا إدراك العلل الطبيعية، خذ
على سبيل المثال، الوصول لحكم مصر، له أسبابه الظاهرة وسبله
المعروفة، كالاستيلاء بالغلبة أو التوريث وما أشبه ذلك، فهذه علل
وأسباب طبيعية ظاهرة، أما أن يكون الإلقاء في جوف البئر طريقًا إلى
ذلك فهذا مستحيل في العادة( لا في العقل)، ولا يخطر على بال بشر،
لكنه كان.
الأكثر قراءة
32355
19387
14897
11613