2 شوال 1446 هـ   31 آذار 2025 مـ 2:11 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | النص القرآني  |  مدخل لفهم النص القرآني: التحديات والآليات
2025-02-09   399

مدخل لفهم النص القرآني: التحديات والآليات


الشيخ معتصم السيد أحمد
في ظل التحديات الفكرية والثقافية المعاصرة، يسعى البعض إلى توظيف القرآن لخدمة مشاريعهم الأيديولوجية، متجاهلين المنهج العلمي في فهم النصوص. ويرتكز هذا الاتجاه على فكرة أن القرآن مجرد نص لغوي يمكن تأويله دون مرجعية ضابطة، مما أدى إلى تفاسير انتقائية ومزاجية تُبعده عن روحه الحقيقية. ونتيجة لذلك، انتشرت تفسيرات مغلوطة تُشوّش على جوهر الرسالة القرآنية وتُحدث خللاً في وعي المتلقي.

إزاء هذا الواقع، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة النظر في منهجيات فهم اللغة القرآنية، بعيداً عن أي تلاعب أو تشويه. لهذا جاء هذا المقال ليسلط الضوء على أبرز التحديات التي تعترض فهم النص القرآني في العصر الحالي، إلى جانب استعراض الآليات المنهجية التي تساهم في تحقيق الفهم الصحيح للكتاب الكريم. سنناقش فيه الأسس العلمية التي يجب اعتمادها لتجاوز العقبات التي تحجب المعاني الحقيقية للنص، وصولاً إلى تدبر واعٍ للنصوص بعيداً عن التأويلات الذاتية التي قد تُبعدها عن مقصدها الأصلي.

ولا شك أن فهم النصوص الدينية من أعمق القضايا التي تواجه العلماء وطلاب المعرفة، وهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً باللغة التي تستخدمها تلك النصوص في التعبير عن معانيها. وإذا كان القرآن الكريم هو المصدر الأساسي للتشريع الإسلامي، فإن استيعاب دلالاته يعتمد على فهم اللغة التي نزل بها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن اللغة بطبيعتها تتغير وتتطور بمرور الزمن. وهذا يثير تساؤلات حول كيفية التعامل مع النص الديني في ظل هذه التغيرات، خاصة عندما نعلم أن القرآن قد نزل "بلسان عربي مبين". ومن هنا، تبرز أهمية دراسة العقبات التي قد تعترض الفهم الصحيح للقرآن، وكذلك التدابير المنهجية التي تساعد في تجاوزها، وهو ما سيبحثه هذا المقال بالتفصيل.

فاللغة تمثل العنصر الأساسي في استيعاب النصوص الدينية، سواء القرآنية أو النبوية، إذ إنها الوعاء الذي يحمل المعاني التي يريد المتكلم إيصالها. ومن هذا المنطلق، شكّلت دراسة اللغة وحُسن فهم دلالات الكلمات ركيزة أساسية في العلوم الإسلامية، بدءاً من علوم التفسير، ومروراً بعلم الحديث، وانتهاءً بعلوم الفقه. وقد اهتمت أصول الفقه بدراسة الألفاظ ودلالاتها للكشف عن منهجيات تفسيرها في مختلف السياقات، مما يجعل إتقان اللغة ومعرفة تطوراتها ضرورة لا غنى عنها لكل مفسر ومتدبر للنصوص الدينية، لضمان الوصول إلى فهم دقيق وصحيح للوحي الإلهي.

لكن رغم أن النصوص قد تبدو واضحة للإنسان العربي الذي يتحدث باللغة العربية، فإن هناك العديد من العوامل التي قد تؤثر على الفهم الصحيح لهذه النصوص. ويعتبر التأثر الثقافي واحداً من أبرز هذه العوامل، فالتاريخ الثقافي والنفسي والاجتماعي قد يغير من طريقة فهمنا للكلمات واستخداماتها. إضافة إلى ذلك، فإن النصوص الدينية لا تعدّ مجرد نصوص لغوية خالصة، بل هي نصوص ذات أبعاد دينية وفكرية تتطلب منهجاً خاصاً لفهم مراد المتكلم منها.

العقبات التي تعترض طريق فهم النص الديني
الفهم السليم للنصوص الدينية يتطلب التعامل مع عدة عقبات قد تؤثر على دقة الفهم والتفسير. من بين هذه العقبات:

قد يظهر النص الديني في البداية بوضوح استناداً إلى المعنى الظاهر للكلمات وفقاً للدلالة المعجمية، لكن الواقع يثبت أن العديد من الكلمات تحمل أبعاداً معنوية أعمق تتجاوز المعنى الظاهر. هذا يعني أن الكلمات في النصوص الدينية لا تقتصر على معانيها الحرفية، بل تتسع لتشمل معاني إضافية تتشكل من سياقها وموقعها داخل النص. فالكلمة في النص الديني يمكن أن تتخذ معاني متعددة بناءً على مكانها في الجملة والسياق العام للآية. على سبيل المثال، كلمة "يد" في المعجم تعني الجزء التشريحي المعروف في جسم الإنسان، لكن نفس الكلمة تتحمل معنى مجازياً مختلفاً تماماً في قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم) (الفتح: 10). هنا، "اليد" لا تعني عضو الجسم، بل تشير إلى القوة والقدرة الإلهية التي تتجاوز المعنى المادي. هذه الأمثلة تؤكد ضرورة أن يتجاوز المفسر أو المتدبر المعنى اللغوي السطحي للكلمات ويغوص في السياق الذي تأتي فيه، مستعيناً بتفسير أوسع يتضمن السياق اللغوي والتاريخي والمعنوي، لكي يصل إلى المعنى الدقيق الذي أراده النص.

إحدى العقبات الكبرى التي تواجهنا في فهم النصوص الدينية تكمن في فقداننا للقرائن التاريخية التي كانت محيطة بالنصوص وقت نزولها. فالنصوص القرآنية لم تنزل في فراغ بل كانت جزءاً من سياقات اجتماعية وثقافية وزمانية محددة. هذه السياقات كانت تؤثر في فهم النصوص في وقت نزولها، ومن دون معرفة هذه الخلفيات والظروف التاريخية، يصبح من الصعب تفسير بعض الآيات بدقة وفهم مرادها الحقيقي. على سبيل المثال، قد يكون لنزول آية معينة في سياق معين من الأحداث السياسية أو الاجتماعية تأثير في تفسير معانيها. لذلك، كان من الضروري أن يبذل علماء علوم القرآن جهداً كبيراً في دراسة تلك القرائن الزمنية التي كانت تحيط بنزول الوحي، مثل دراسة أسباب النزول التي توضح الظروف التي نزلت فيها الآية، وكذلك تحديد مكان نزولها وأيّ فترات من حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت تحيط بها. كما تم التركيز على معرفة مفهوم الناسخ والمنسوخ، وكذلك فهم تفسيرات مختلفة للكلمات التي قد تكون تغيّرت دلالاتها مع مرور الزمن. لقد تم بحث هذه المسائل في عشرات العناوين التي تناولتها بحوث علوم القرآن، مما يثبت أن الفهم السليم للنصوص الدينية يعتمد بشكل كبير على استحضار هذه الظروف التاريخية لتحديد المعاني الصحيحة للنصوص، وبالتالي فهم مراد النص القرآني بصورة دقيقة.

اللغة العربية، كغيرها من اللغات، تخضع لتطور مستمر يتأثر بالحالة الاجتماعية والثقافية للمجتمع، وعلى مر العصور تعرضت اللغة العربية لتغيرات في الكلمات والمعاني والأساليب البلاغية، وعندما نتلقى النصوص الدينية اليوم، قد نفهمها وفقاً لفهمنا الحالي للغة، وهو ما قد يختلف عن المعاني الأصلية التي كانت سائدة عند نزول النصوص. لذلك، من الضروري الرجوع إلى السياق اللغوي والتاريخي لفهم النصوص بشكل صحيح وتجنب التفسير الخاطئ الناتج عن التغيرات اللغوية عبر الزمن.    


الفهم الصحيح للنصوص الدينية يتأثر بشكل كبير بالثقافة العامة التي يعيش فيها المفسر للنص أو المتدبر فيه، ففي بعض الأحيان، قد يكون الفهم غير دقيق لأن الشخص المتدبر قد يكون متأثراً بأيديولوجيات أو مفاهيم ثقافية بعيدة عن جوهر الدين. على سبيل المثال، قد يتم تفسير بعض الآيات القرآنية بناءً على مفاهيم ثقافية غربية أو حديثة تتنافى مع المعنى الأصيل للنص. هنا تكمن أهمية الرجوع إلى الأصول الصحيحة لفهم النصوص وتجنب تحميل النصوص معاني غير مرادة من قبل الشارع. كذلك، فإن النصوص الدينية لا تتعلق فقط بالفكر البشري العام، بل هي موجهة إلى فطرة الإنسان وحكمته الداخلية، ومن هنا يأتي الفرق الكبير بين معارف الدين ومعارف البشر العادية. ولذا، فإن فهم النصوص الدينية يتطلب منا فحص تأثير الثقافة السائدة وضرورة تفادي أي تأويل مشوّه قد ينشأ عن تلك التأثيرات الثقافية.
هذه العقبات مجتمعة تجعل فهم النصوص الدينية ليس بالأمر السهل، بل يتطلب من الدارسين والمفسرين أن يكونوا على دراية شاملة بتاريخ اللغة، والسياق الثقافي، والظروف التاريخية المحيطة بالنص، بالإضافة إلى ضرورة عدم التأثر بمفاهيم خارجية قد تؤثر في التفسير الصحيح للنصوص الدينية. 

التدابير المنهجية لفهم النص الديني
لتجاوز هذه العقبات، ينبغي اتباع منهجيات علمية ودقيقة تساعد في الوصول إلى فهم صحيح للنصوص الدينية. ومن بين هذه المنهجيات:

أولاً: ضرورة استحضار مصدر النص الديني: عند تلقي النصوص والتأمل فيها، من الضروري أن يعرف المتلقي من هو المتحدث وما هي غايته من الكلام، وأي نوع من الكلام يتبناه، سواء كان علمياً أو أدبياً أو غيره. هذه النقطة تؤكدها اليوم دراسة النصوص وتحليلها.

وفي هذا السياق، فإن معرفة النص القرآني تبدأ من استحضار كونه كتاباً منزلاً من الله سبحانه وتعالى، العزيز الحكيم، الذي فضّله على سائر الكلام كما فضّل الله على خلقه. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا ما يجعل فهمه يتطلب مستوى من الاستعداد الروحي والمعنوي لتلقي معارفه. لذلك، نجد أن القرآن الكريم وصف نفسه بكونه هدى للمتقين دون غيرهم، كما في قوله تعالى: (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)، مشيراً إلى أن الفهم العميق لآياته يتطلب تزكية النفس وتهذيبها. وبالتالي، فإن الإطار السليم لفهم آيات الكتاب واستنارة القلب بنوره يتحقق من خلال تطهير النفس، كما جاء في قوله تعالى: (يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة). عندما يُطهر القلب وتصفو النفس، يكون الشخص قادراً على تدبر آيات القرآن بشكل صحيح، فيلامس قلبه معاني كلمات الوحي ويدرك حقيقتها.

وقد أمرنا الله تعالى باتباع سنة رسوله الكريم والائمة المعصومين، فهم المرجعية التي تضمن لنا الفهم السليم. فالإنسان لا يمكنه أن يفهم القرآن الكريم دون الرجوع إلى هؤلاء الأئمة، فكما قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) وأيضاً في قوله: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).

ثانياً: بالرغم من أن القرآن نزل بلغة عربية فصيحة، والتي كانت سائدة في جزيرة العرب في زمن الوحي، وبالرغم من أن القرآن نفسه قد حافظ على لغة العرب ونصوصها، إلا أن التأثيرات المتتالية على اللغة العربية نتيجة لتداخل الثقافات وتغير الحضارات عبر العصور، باتت حقيقة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها. فاللغة تتأثر بتطورات الزمن وتغيّر السياقات الاجتماعية والثقافية، مما قد يؤثر على فهمنا للكلمات في النص القرآني في ظل تغير دلالاتها. ومن هنا، اقترح العلماء مجموعة من التدابير التي تساعد في الاقتراب من لغة القرآن الكريم، وأهمها الوقوف على العرف العام الذي كان سائداً عند نزول الكتاب. هذا العرف يتعلق بكلمات الناس الذين كانوا معاصرين للنبي صلى الله عليه وآله أو حتى لمن عاصره، وكذلك الذين عاصروا أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام. هؤلاء المعاصرون يعتبرون الأقرب إلى فهم معاني كلمات القرآن ودلالاتها، فهم كانوا في قلب الأحداث الثقافية والاجتماعية التي احاطت بالنص القرآني.

وهذا الفهم لا يقتصر على معرفة معاني مفردات اللغة العربية فحسب، بل يتعدى ذلك إلى كيفية فهمهم لأسلوب النصوص ومراميها، وهي منهجية متكاملة في فهم الوحي، حيث كانت تقتصر على استنباط المعاني بلا تكلف أو تأويلات بعيدة. لذلك، فإن استفادتنا من هذا التراث يمتد إلى الاستفادة من منهجهم في التعامل مع النصوص الدينية بفهم سليم وواقعي.

وبناء على هذا، إذا اجتهد الإنسان في تفسير النصوص استناداً إلى هذه التراث، فإنه يتقدم خطوة أساسية نحو تجاوز المسافة الزمنية التي تفصله عن عصر الوحي، مما يعزز قدرته على فهم الأحكام الدينية بشكل أقرب وأدق، بعيداً عن الفهم القاصر أو التفسير المشوه.

ثالثاً، فقه القرآن بالقرآن: نقصد به فهم القرآن من خلال كلماته ضمن سياق الخطاب القرآني، إذ إن للسياق الموضوعي دوراً أساسياً في تحديد معاني كلمات القرآن الكريم وتوظيفاتها في نصوص مختلفة. فكل كلمة في القرآن لا تكتسب معناها بشكل منفصل، بل في إطار سياقها الموضوعي والموضعي، حيث قد تُستخدم الكلمة بمعنى مختلف تماماً عند تكرارها في سياقات متنوعة. هذه العملية لا تقتصر على فهم الكلمات الفردية فحسب، بل تشمل أيضاً فهم العلاقة بين الكلمات وسياقاتها، مما يفتح أمام المتدبر أبواباً متعددة من الفهم الدقيق لأبعاد النص القرآني.

من خلال التدبر المستمر في هذه السياقات الموضوعية والموضعية، يكتسب المسلم ذخيرة كبيرة من فقه لغة القرآن ومعانيه العميقة، مما يعزز قدرته على فك مغاليق النصوص والوصول إلى تفسير دقيق للآيات. 

رابعاً مرجعية المُحكمات: من المعروف أن في القرآن محكمات هُنَّ أم الكتاب، وهي بمثابة الأصول المشتملة على جوامع العلم والحِكمة، وهي بالتالي تمثل مرجعاً للآيات المتشابهة، وعليه فإن الضامن لسلامة الاستفادة من آيات القرآن أن يكون التدبر تحت سقف الآيات المحكمة، فإنها تشكل الإطار الذي يتحرك فيه عقل المتدبر فلا يحيد الطريق ولا يحمل القرآن ما لا يحتمل. وبهذه المنهجية يتقدم التدبر لفقه النص خطوة بعد خطوة نحو كشف أسرار القرآن ومن ثَمَّ معرفة لغته.

خامساً، توافق العقل والوحي: جاء القرآن منسجماً مع فطرة الإنسان ومرتكزات العقل، حيث إن جوامع العلم، واصول المعرفة، وركائز الهدى، وبصائر الوحي، هي تلك الحقائق الكبرى التي أودعها الله سبحانه في كل عقل، وهي ميزان معرفة الإنسان، ولولاها لتاهت البشرية، ولما اهتدت إلى ربها ولما تعرفت على رسولها والحجة عليها؛ لكونها الفطرة التي فطر الله جميع البشر عليها، وعليه هناك مسبقات عقلية يُجْمِع الناس عليها على اختلاف مذاهبهم وطبائعهم، وهي الحجة فيما بينهم. وهذه الأصول العقلية هي التي يوقظها الوحي في الإنسان لتصبح ركيزة لسائر شرائعه ووصاياه. والتدبّر المستمر في كتابه هو الذي يحي في النفس هذه البصائر، فكل ما يخالف مقتضيات العقل وضرورات المنطق لا يكون مراداً لله في كتابه، وهذا من أهم المعايير التي أهملها البعض فوقع في ضلالات من أمثال الحشوية المجسمة وغيرهم.

وغير ذلك من الضوابط المنهجية التي تعرض لها العلماء في بحوثهم الأصولية والتفسيرية، كلها تعمل على ضمان الاستفادة من القرآن من غير اسقاط معاني من الخارج عليه.

وفي الختام، إن فهم النصوص الدينية ليس مجرد اجتهاد شخصي، بل هو مسار معرفي يتطلب أدوات علمية ورؤية متكاملة. والقرآن، رغم نزوله بلسان عربي مبين، لا يمكن لأي عربي أن يفهمه بمجرد معرفته باللغة، بل لا بد من الرجوع إلى سياقه التاريخي ومرجعياته التفسيرية حتى لا نقع في إسقاطات ذاتية قد تحرف معانيه عن مقاصدها الحقيقية.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م