

| الإمامة | عارفًا بحقّه
2025-08-12 69

عارفًا بحقّه
السيد علي العزام الحسيني
لا تخلو معظم الأحاديث المتعلقة
بثواب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) من عبارة: "عارفًا بحقّه"،
وقد تضمّنتها أصح الروايات المثبتة في أقدم المصادر الحديثية، حتى
أنّ الشيخ الأجل ابن قولويه القمي(ت 368هـ) في كتابه: كامل الزيارات
قد وضع العبارة جزءًا من عنوان أحد أبواب: (ثواب من زار الحسين(ع)
عارفًا بحقّه)، فضلًا عمّا أخرجه الشيخ الصدوق(ت381هـ) في ثواب
الأعمال، ومن قبله الكليني(ت 329هـ) في الكافي.
هذا الاشتراط، وإن ورد بكثرة
ملحوظة في الأخبار الخاصة بزيارة سيد الشهداء(عليه السلام) بيد أنّه
غير مختص بذلك، فقد جاء أيضًا في الروايات المتعلقة بزيارة غيره من
الأئمة، فورد في زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكذلك ذكر في
زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) بأنّ من زاره عارفًا بحقه وجبت له
الجنّة.
وظاهر الأمر أنّ القيد المستفاد
منها ليس من صنف القيود التوضيحية الذي يمكن حذفه والاستغناء عنه
بدلالة الكلام عليه، وإنّما هو من صنف القيود الاحترازية التي لها
مدخلية في الحكم وترتيب الأثر، وما يؤيد هذا، علاوة على أنّه مقتضى
قاعدة احترازيّة القيود، أنّ الأخبار جاءت مؤكدة عليه بكثرة ملفتة
مع تعدد في الصياغة والأسلوب، ومنها مجيئه بأسلوب الشرط، كقوله عليه
السلام: «ما يثاب به زائر الحسين، إذا عرف بحقه وحرمته وولايته أن
يغفر له..» (الكافي، ج4، ص582).
والأهم من ذلك هو ببيان المراد
بالقيد الذي ترمي إليه كلمة: " عارفًا بحقه"، فما المقصود بالمعرفة
هنا؟، وأي حقّ للإمام ينبغي للزائر أن يعرفه؟ ولماذا لم يقل:
عالمًا، بدلًا من عارفًا؟ ولماذا تعلقت المعرفة بحقّ الإمام، دون
معرفة الإمام نفسه؟، ثمّ هل يمكن لمتهتك منتحل لمودة أهل البيت، لا
يؤدي الواجبات ولا يراعي المحرمات، وقد جاء قبر الإمام وقرأ
الزيارة؛ أن يكون مشمولًا بغفران الذنوب ودخول الجنة بغير
حساب؟!.
على الرغم مما ورد في بعض الأخبار
من تفسير للعبارة بأنّ المقصود منها أن يعلم الزائر أنّ المزور إمام
مفترض الطاعة (أمالي الصدوق ص 121)، أوأنّه حجة الله على خلقه وبابه
الذي يؤتى منه..». (الكافي، ج4، ص584) إلا أنّ هذه الأخبار ناظرة
للجزء الأهم في المسألة، أعني به الاعتقاد بإمامة الأئمة من أهل
البيت عليهم السلام، وهذا الاعتقاد شرط أساس وركن ركين في المعرفة،
ولا معرفة حقة من دون علم ويقين كما سيتبين بعيد قليل، ومن ثمّ لا
بدّ من النظر إلى مجموع المعطيات؛ كيما يتضح المراد وينجلي المقصود
بشكل كامل.
وفيما عدا المعطى العام الذي
تقتضيه الأصول الاعتقادية والقواعد الكلامية من أنّ الإيمان قول
مقول، وعمل معمول، وعرفان العقول، أو أنّه تصديق بالقلب، وإقرار
باللسان، وعمل بالأركان، فضلًا عن انسجام التفسير المتقدّم مع روح
الكتاب العزيز، وأنّه تعالى إنّما يتقبل من المتقين، أقول: عدا هذا
وذاك: بين أيدينا معطيان خاصّان يكشفان بمجموعهما عن دخالة الالتزام
العملي ومؤثريته في المقام، وأنّ المقصود بمعرفة حقّ الإمام ليس محض
الانتساب له وصرف الاعتقاد بإمامته، بل هي مع طاعته الفعلية،
ومتابعته العملية، قضاءً لحقّ الإقرار بولايته، ووفاءً للائتمام به،
وهي من كلٍ بحسبه:
المعطى الأول، وهو معطى داخلي
يستند إلى تحليل مفردة(المعرفة) الواردة في العبارة، فعلى الرغم من
التداخل بين المعرفة والعلم إلا أنّ المعرفة لا ترادف العلم ولا
تساوقه، بل هما مفردتان مختلفتان في المبنى والمعنى، وتشيران إلى
مفهومين متباينين، وقد بُحثت الفوارق بين المفردتين في المطولات،
ولا شأن لنا بتفاصيل ما ذكر في هذا الصدد سوى أن نشير إلى مائز رئيس
واحد، وفارق جوهري فارد:
إنّ المعرفة هي العلم مع العمل به،
أي أنّها خصوص العلم الذى يراعيه صاحبه، ويعمل بموجَبه، ويرتب عليه
الأثر، ويأخذ مقتضاه، وبكلمة أخرى: إنّ النسبة المنطقية بين العلم
والمعرفة ليست نسبة التساوي كما الإنسان والناطق، بل نسبة العموم
والخصوص المطلق نظير الإنسان والجسم، بأعمية العلم من المعرفة،
وأخصية المعرفة من العلم، فكل من عرف فقد علم، ولكن ليس كل من علم
فهو عارف.
وعلى هذا الأساس، فالعمل لا ينفك
عن المعرفة، لأنّه جزء داخل فيها وركن مقوّم لها، ولا مجال للتفكيك
بين المعرفة والعمل، بينما يمكن التفكيك بين العلم والعمل، لذا
نطالع في العديد من الأخبار عن عالم يعمل بعلمه، وآخر لا يعمل
بعلمه، ولا نجد الانفصال فيمن عرف؛ لكون العمل من ذاتيات المعرفة أو
من لوازمها التي لا تنفك عنها، ومن ثمّ ذكرت بعض الأخبار أنّه توقّف
المعرفة على العمل، فروى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الصادق عليه
السلام أنّه قال: «لا يقبل الله عز وجل عملًا إلا بمعرفة، ولا معرفة
إلا بعمل..» (الأمالي، ص422).
والمعطى الثاني، معطى روائي، له
ارتباط مباشر بما نحن فيه، فقد روى ابن قولويه بإسناد معتبر عن
الإمام الصادق(عليه السلام) قال: من زار الحسين(عليه السلام) عارفًا
بحقه: يأتمّ به؛ غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر.(كامل
الزيارات،ص264) ومحور القضيّة وجوهرها ينصبُّ على كلمة "يأتم به"
عقيب العبارة محل البحث مباشرة" عارفًا بحقه"، من دون فصل بحرف
العطف أو بغيره، ما يعني أنّ جملة(يأتمّ به) جملة شارحة لما
قبلها:(عارفًا بحقه)، مبيّنة للمقصود منها. ولا يخفى أنّ تعبير
"يأتمُّ به" ظاهر في الاتّباع والاقتداء العملي، فضلًا عن الاعتقاد
القلبي.
إذن، فعبارة "عارفًا بحقّه" تؤسس
لقيد يتقوم بعد الاعتقاد بالمتابعة الفعلية والاقتداء العملي ولو في
حدها الأدنى، وأنّه لا يكفي صرف العلم ومحض الاعتقاد في قبول
الزيارة وترتّب الآثار العظيمة والدرجات الرفيعة والمقامات العالية
التي وعدت بها الروايات الشريفة الزائر من قبيل ما رواه ابن قولويه
عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنّه قال: «من زار الحسين بن علي(عليه
السلام) عارفا بحقه كان من محدّثي الله فوق عرشه»، ثمّ استشهد
الإمام الرضا بقوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ
نَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).(كامل
الزيارات،ص141).
الأكثر قراءة
33538
19538