| النبوة | كيف يستطيع الدين تلبية احتياجات مجتمع متغيّر؟
2024-02-27 460
كيف يستطيع الدين تلبية احتياجات مجتمع متغيّر؟
رغم خاتمية الإسلام للديانات السماوية تبعاً لخاتمية النبوة (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)، الأحزاب: 40، إلا انه قد يقال: ان متطلبات البشر وحاجاتهم نتيجة تطور مناحي الحياة وأشكالها وتعقد العلاقات الاجتماعية فرض واقعاً متجدداً، فكيف للدين في أحكامه الثابتة المعدودة أن يستجيب لحاجات الانسان المستحدثة التي تطرأ على صعيد حياته العملية وتطوراتها الى يوم القيامة؟ وهل يمكن للدين أن يلبي جميع متطلبات البشر وحاجاته المستجدة في ضوء أحكام ثابتة غير متطورة؟
لا يخفى أن للإنسان حاجات ومتطلبات ثابتة ودائمة، وأخرى مستجدة بحسب
تطور الظروف، وقد استجاب الإسلام لكلا القسمين، فكما أشتمل على
الأحكام الثابتة الملبية لحاجات الإنسان الدائمة، كذلك يمتلك الدين
قوانين وقواعد وآليات متغيرة لتلبية الحاجات المستجدة، الأمر الذي
جعل الدين مرناً قابلاً لمواكبة التغيرات ومنسجماً مع حاجات الانسان
المستحدثة. ومن هذه الآليات:
العقل: فقد صرح الشارع المقدس بأنه حجة باطنة كما ان النبي او
الإمام حجة ظاهرة، وبهذا الاعتبار المهم صار العقل مصدراً للتشريع،
من جهتين:
الأولى، من خلال اعتبار سيرة العقلاء والقول بالملازمة بين حكم
الشرع وحكم العقل، من جهة ان الشارع من العقلاء بل سيدهم، ولا يخرج
حكمه من حكمهم، فإذا لم يردع الشارع عن مثل هذه السيرة فلا إشكال في
حجيتها واعتبارها.
والثانية، قدرة العقل على استنباط مجموعة لوازم تعرف بـ(المستقلات
العقلية)، وتعتبر من أهم آليات الفقيه المعاصر اليوم، كمقدمة
الواجب، ومسألة الضد، وتقديم الأهم عند تزاحم حكمين إلزاميين،
ومسألة اجتماع الأمر والنهي، وغيرها.
فيمكن لنا من خلال هذه النماذج أن نتعرف على دور العقل في جعل
الأحكام والتعاليم الدينية مواكبة لمستجدات الحياة العصرية.
ثانياً: الاجتهاد الفقهي: بمعنى بذل الفقيه الوسع والطاقة في معرفة
الحكم الشرعي من أدلته المعتبرة، لا بمعنى الاكتفاء بالظنون والركون
اليها، ومن شأن هذا الطريق أن يجعل الدين قادراً على تلبية جميع
متطلبات البشر الى يوم القيامة، يقول أحد الأعلام المعاصرين: "إن
التشريع الإسلامي في مختلف الأبواب مشتمل على أصول وقواعد عامة تفي
باستنباط آلافٍ من الفروع التي يحتاج اليها المجتمع البشري على
امتداد القرون والأجيال، وهذه الثروة العلمية التي اختصت بها الأمة
الإسلامية من بين سائر الأمم أغنت الشريعة الإسلامية عن التمسك بكل
تشريع سواها، او بظنون لم يقم الدليل على حجيتها.
وهذا هو العلامة الحلي أحد فقهاء الإمامية في القرن الثامن (648 ـ
726هـ)، قد ألف كتباً وموسوعات في الفقه وأصوله، منها (تحرير
الأحكام الشرعية)، وقد حوى من الأحكام والقوانين ما يربو على أربعين
ألف مسألة، استنبطها من هذه الأصول الواردة في القرآن والسنة
النبوية، والأحاديث المأثورة عن أئمة الدين، رتبها على ترتيب كتب
الفقه في أربع قواعد، العبادات والمعاملات والايقاعات والأحكام.
وهذا صاحب الجواهر ذلك الفقيه الأعظم من فقهاء القرن الثالث عشر
(1191 ـ 1266 هـ)، قد جاء في مشروعه الوحيد (جواهر الكلام) بأضعاف
ما جاء به العلامة الحلي، فإن الباحث عندما يقف أمام هذا الكتاب
الثمين وينظر في مباحثه، يرى أمامه بحراً يزخر بالدرر التي تحار في
حصرها النهى والخواطر، وتنبهر بها عيون البصائر، فقد حوى من الفروع
والقوانين ما يعسر عدها. وقد اعتمد في استنباط هذه الأحكام الشرعية
الهائلة على الكتاب والسنة والعقل والأجماع".
ثالثاً: التوسع في باب المصاديق، وعدم الجمود على القديم منها،
فالأحكام الشرعية الخاصة بأكثر المعاملات تحدد الوظيفة العملية
للمكلف من دون النظر لكيفية التنفيذ والامتثال، وكما هو واضح فإن
أكثر حالات التطور والتغير إنما تحصل في نوعية المصاديق لا في نفس
التكليف، فعلى سبيل المثال، قوله تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ
بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ.. الآية)، الأنفال: 60، حدد
التكليف وهو ضرورة إعداد العدة لمواجهة أعداء الدين، وأما نوعية
وطبيعة الأسلحة فلم يجعلها ملزمة، بل هو متروك لطبيعة كل عصر. ولا
يخفى ما لهذه الطريقة من مرونة في التعامل مع المتغيرات.
رابعاً: الأحكام الثانوية: وهي جملة من الأحكام الشرعية تكون حاكمة
ومهيمنة على سائر الأحكام، كقاعدة الحرج، (..وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.. الآية)، الحج: 78، وقاعدة
(لا ضرر)، وقاعدة (أصل بقاء النوع وحفظ الإسلام)، وهذه العناوين
الفقهية تعالج الكثير من المشاكل والصعاب التي تواجه تطبيق الأحكام
الشرعية الأولية.
خامساً: الأحكام الحكومية الخاصة بالمجتهد الجامع للشرائط: فقد أعطى
الشارع المقدس الفقيه بعض الصلاحيات والاختيارات للحاكم الإسلامي
ليتمكن من اتخاذ القرارات المناسبة لمصلحة الأمة وحل المشاكل
المتعلقة بالشؤون الاجتماعية، ولهذا الأمر دور مهم في حفظ نظام
المجتمع وتسيير أموره، وهو ما يعبر عنه بعض الفقهاء بمنطقة الفراغ،
والمراد منه إعطاء ولي الأمر صلاحيات في مجالات لم يرد فيها نص شرعي
الزامي، يقول السيد محمد باقر الصدر (ره): "والدليل على إعطاء ولي
الأمر صلاحيات كهذه لملأ منطقة الفراغ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ .. الآية)، النساء: 59، ومنطقة الفراغ التي تتسع
لها صلاحيات أولي الأمر تضم في ضوء هذا النص الكريم كل فعل مباح
تشريعياً بطبيعته، فأي نشاط أو عمل لم يرد نص تشريعي يدل على حرمته
أو وجوبه يسمح لولي الأمر بإعطائه صفة ثانوية بالمنع عنه او بالأمر
به. فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته أصبح حراماً، وإذا أمر به
أصبح واجباً. وأما الأفعال التي ثبت تشريعاً تحريمها كالربا مثلاً،
فليس من حق ولي الأمر الأمر بها. كما ان الفعل الذي حكمت الشريعة
بوجوبه كإنفاق الزوج على زوجته لا يمكن لولي الأمر المنع عنه؛ لأن
طاعة أولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله
وأحكامه العامة. فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في الحياة
الاقتصادية هي التي تشكل منطقة الفراغ".
النتيجة: ان الدين يمتلك آليات وأدوات تجعل أحكام الدين مرنة تتلائم
وتنسجم مع متغيرات العصر، فليس الإسلام ديناً ناقصاً وقاصراً عن
تلبية متطلبات الإنسان في مختلف الأزمان، ولأمير المؤمنين عليه
السلام كلام رائع في المقام: "أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً
فاستعان بهم على إتمامه؟! أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه
أن يرضى؟! أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصر الرسول عن تبليغه
وأدائه، والله سبحانه يقول: (.. مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ..
الآية)، الأنعام: 38".
الشيخ مقداد الربيعي - باحث وأستاذ في الحوزة العلمية
الأكثر قراءة
25874
18682
13874
10739