

| العدل | فلسفة العقوبات في الإسلام: بين العدالة والإصلاح الاجتماعي
2025-03-06 207

فلسفة العقوبات في الإسلام: بين العدالة والإصلاح الاجتماعي
فلسفة العقوبات في الإسلام: بين العدالة والإصلاح الاجتماعي
الشيخ معتصم السيد أحمد
تثير بعض الأحكام الشرعية مثل قتل
المرتد ورجم الزاني تساؤلات حول مدى توافقها مع مبدأ الرحمة
الإلهية، غير أن أي حكم شرعي لا يمكن فهمه بشكل دقيق إلا في سياقه
الصحيح، لأن إسقاط الأحكام على واقع غير واقعها، أو النظر إليها
بمنظور تجريدي بعيد عن أهدافها وغاياتها، يؤدي إلى فهم مشوه ومغلوط.
ولذا فإن فهم التشريعات الإسلامية يتطلب نظرة كلية تتجاوز الأجزاء
إلى المنظومة الكاملة، بحيث تُدرس الأحكام ضمن المشروع الإسلامي
الأشمل، الهادف إلى بناء مجتمع متكامل يحافظ على توازنه الأخلاقي
والفكري.
في هذا السياق، نجد أن الإسلام لم
يكن مجرد منظومة عقائدية فردية، بل هو مشروع متكامل يسعى إلى
الارتقاء بالإنسان والمجتمع على حد سواء، ولهذا لم تكن التشريعات
منفصلة عن الرؤية العامة لهذا المشروع. فالعقيدة في الإسلام ليست
مجرد معتقدات شخصية، بل هي الإطار المرجعي الذي تتحدد وفقه القيم
والسلوكيات والمعايير التي تضبط المجتمع. فحينما تكون العقيدة واضحة
ومستقرة، يكون المجتمع أكثر تماسكاً وأقل عرضة للتشتت والانحراف.
وعلى العكس، فإن زعزعة العقيدة وتشويهها يؤديان إلى فوضى فكرية
وقيمية تضرب استقرار المجتمع في الصميم. ومن هنا شرعت بعض الأحكام
لحماية العقيدة، ليس بهدف قمع حرية التفكير، وإنما لصيانة المنظومة
الفكرية من العبث والاستهتار.
فحكم قتل المرتد في الإسلام ليس
إجراءً يهدف إلى قمع التفكير الحر أو فرض قيود على حرية العقل، بل
هو جزء من منظومة أوسع تهدف إلى الحفاظ على الأمن العقائدي للأمة
وصون استقرارها الديني. إذا كانت الدول الحديثة تضع قوانين لحماية
أمنها القومي من خلال مواجهة الخيانة والتخابر مع الأعداء، فإن
الإسلام يطبق أحكاماً لحماية المجتمع من تهديدات قد تزعزع استقراره
الداخلي وتفككه. إذ إن الارتداد في بعض الحالات قد يشكل خطراً على
تماسك المجتمع ووحدته الدينية، خاصة إذا كان يهدف إلى نشر الفتنة
وزعزعة عقيدة الناس.
ومن هنا، يميز الإسلام بين "المرتد
المستهتر"، الذي يتخلى عن دينه ويعلن ارتداده لأغراض شخصية أو
سياسية بهدف إثارة الفتن أو تشكيك المجتمع في ثوابته، مما يؤدي إلى
نشر الشكوك بين الأفراد والمساس بسلامة النظام الديني. لهذا، تطبق
عليه العقوبة التي تهدف إلى ردعه ووقف تهديداته للمجتمع.
أما "المرتد عن شبهة"، الذي قد
يترك دينه بسبب عدم وضوح الرؤية أو بسبب تساؤلات فكرية يعاني منها.
فإنه يُمنح فرصة لإعادة النظر في قراراته عبر الحوار والتوضيح،
ويُشجع على العودة إلى الإسلام إذا تبين له الحق.
ولا يتعارض حكم المرتد مع الآية
الكريمة (لا إكراه في الدين)، وذلك لأن المقصود أن الإسلام لا يُكره
أحداً على الدخول فيه، لكنه في الوقت نفسه يضع ضوابط لحماية بنيته
الداخلية. فكما أن لكل نظام سياسي أو قانوني حدوده التي لا يُسمح
بتجاوزها، فإن الإسلام كمنظومة متكاملة يمتلك أيضاً آليات تحميه من
العبث والتلاعب، ولذلك كان المرتد المستهتر الذي ينقلب على عقيدته
بعد الإيمان بها عن يقين، أشد خطراً على المجتمع من غير المؤمن
أصلاً، لأنه يعبث بأمنه الفكري، تماماً كما تعتبر القوانين الحديثة
الخيانة العظمى جريمة كبرى حتى لو ادّعى مرتكبها أنه غيّر
قناعاته.
ومن الأخطاء الشائعة في فهم هذه
الأحكام الاعتقاد بأن تنفيذها موكول لعامة الناس أو حتى للسلطة
السياسية، بينما الحقيقة أن إقامة الحدود في الفقه الإسلامي لا تتم
إلا عبر جهة مخوّلة شرعاً بتمثيل الإرادة الإلهية، كالنبي أو الإمام
المعصوم. وقد اختلف فقهاء الإمامية في مسألة تنفيذ الحدود في زمن
الغيبة الكبرى، فذهب بعضهم، كالشيخ الطوسي وابن إدريس والسيد أحمد
الخوانساري، إلى أن إقامة الحدود من اختصاص الإمام المعصوم فقط، ولا
يجوز تنفيذها في غيبته. بينما رأى آخرون، مثل الشيخ المفيد والشهيد
الأول والإمام الخميني والسيد الخوئي، أن الفقيه الجامع للشرائط
يملك صلاحية تنفيذ الحدود حتى في عصر الغيبة، وقد تبنّى هذا الرأي
صاحب الجواهر وادّعى عليه إجماع علماء الشيعة. وهناك رأي ثالث،
تبنّاه بعض الفقهاء كالقمي، يفيد بعدم جواز إقامة الحدود في الغيبة،
مع الإقرار بجواز التعزيرات من قبل الفقيه. وعليه، فإن هذه المسألة
ليست محل اتفاق بين الفقهاء، مما يعزز القول بأن تطبيق الحدود في
العصر الحاضر يتطلب رؤية فقهية واضحة تتناسب مع طبيعة المجتمع
وظروفه، لا أن يتم التعاطي معها من منطلقات فردية أو سياسية، خصوصاً
وأن الشريعة لم تهدف إلى مجرد العقوبة، بل إلى بناء مجتمع مؤهل
لحماية نفسه من الجرائم، وهو ما لم يتحقق في كثير من المجتمعات
الإسلامية المعاصرة.
إضافة إلى ذلك، فإن هذه الأحكام
تُفهم في إطار الفلسفة العامة للتشريع الإسلامي، والتي تنظر إلى
العقوبات باعتبارها آخر الحلول وليست الخيار الأول، فالشريعة
الإسلامية قامت أولاً بتأسيس بيئة اجتماعية تمنع وقوع الجريمة قبل
أن تفكر في معاقبة مرتكبيها. فالتشريع الإسلامي لا يهدف إلى مجرد
فرض العقوبات، بل يسعى إلى معالجة الأسباب التي تؤدي إلى وقوع
الجريمة، بحيث يصبح اللجوء إلى العقوبة أمراً استثنائياً، وليس
القاعدة العامة في التعامل مع الانحرافات السلوكية. ولهذا، فإن
الشريعة وضعت منظومة متكاملة من القيم والتشريعات التي تهدف إلى
بناء مجتمع تسوده العدالة والتكافل، بحيث تقل فيه الدوافع إلى
ارتكاب الجرائم.
فمثلاً، لم يشرع حد السرقة إلا بعد
ضمان العدالة الاجتماعية، حيث أوجب الإسلام على الدولة والمجتمع
توفير سبل العيش الكريم لكل فرد، سواء من خلال العمل، أو التكافل
الاجتماعي، أو تشريع الزكاة والصدقات، بحيث لا يكون هناك دافع حقيقي
للسرقة إلا في حالات نادرة جداً. وعندما يتحقق مجتمع لا يعاني من
الفقر، وتكون حاجات أفراده الأساسية مكفولة، فإن وقوع السرقة فيه لا
يكون ناتجاً عن الحاجة، وإنما عن استهتار بالقيم والأخلاق، وحينها
يكون من العدل فرض عقوبة قاسية لحماية هذا النظام من الانهيار.
فالعقوبات في الإسلام ليست مجرد أدوات للردع، وإنما هي تدابير
لحماية كيان المجتمع بعد استنفاد الوسائل الإصلاحية الأخرى.
وهذا المنهج ينطبق على سائر
الحدود، فقبل تشريع أي عقوبة، يحرص الإسلام على توفير الظروف
الاجتماعية التي تمنع وقوع الجريمة، فمثلاً في مسألة الزنا، وضع
الإسلام منظومة كاملة لحماية المجتمع من الانحراف، من خلال تيسير
الزواج، وتحريم الاختلاط غير المنضبط، والأمر بغض البصر، وفرض
الحجاب، إلى جانب إشاعة أجواء العفة والاحتشام، مما يجعل الوقوع في
الزنا أمراً صعباً في المجتمع الإسلامي الصحيح. كما أن الإسلام فرّق
بين من يقع في هذه الجريمة وهو غير متزوج، وبين من يرتكبها رغم
تمتّعه بزوجة شرعية تلبّي حاجاته المشروعة، فحدّ الزاني غير المحصن
هو الجلد، وذلك لأنه قد يكون واقعاً تحت ضغط الشهوة أو ضعف النفس،
بينما حدّ الزاني المحصن هو الرجم، لأنه ارتكب الفاحشة رغم كونه
متمكناً من العلاقة الشرعية، مما يجعل ذنبه أعظم وتأثيره على
المجتمع أشد خطورة.
وبذلك، فإن العقوبات الشرعية ليست
أحكاماً معزولة عن السياق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وإنما هي
جزء من منظومة متكاملة تهدف إلى حماية الفرد والمجتمع، وتجعل
العقوبة آخر وسيلة تُستخدم بعد فشل كل وسائل الإصلاح والوقاية
الأخرى.
وفي الختام، فإن الأحكام الشرعية،
وبخاصة الحدود، يجب أن تُفهم ضمن سياقها الصحيح، لا بمعزل عن الرؤية
الإسلامية الكلية التي تسعى إلى بناء مجتمع مثالي متكامل. ولذا فإن
تطبيقها مرتبط بظروف اجتماعية محددة لا يمكن إسقاطها على واقع يفتقد
للمقومات التي اشترطها الإسلام نفسه. ومن هنا، فإن الأحكام الشرعية
ليست أحكاماً جامدة أو منفصلة عن الواقع، وإنما هي أدوات لحفظ
التوازن والاستقرار، وإذا كان الإسلام قد شرّع حدوداً رادعة، فقد
وضع قبلها أسساً تبني المجتمع على الطهر والعفة والاستقرار، بحيث لا
يكون هناك حاجة إلى تطبيقها إلا في حالات نادرة.
الأكثر قراءة
29858
19122
14524
11202