

| العدل | الإنسان بين وهم الاستغناء وحقيقة الافتقار إلى الله
2025-06-19 140

الإنسان بين وهم الاستغناء وحقيقة الافتقار إلى الله
الشيخ مقداد الربيعي
منذ أن خلق الله الإنسان وأودع فيه
العقل والإرادة، وهو يعيش بين قوتين متجاذبتين: حقيقة افتقاره إلى
الله ووهم استغنائه عن خالقه. هذه الجدلية التي ترافق الإنسان منذ
بداية وجوده قد شكلت مسار الحضارات وأثرت في بناء المجتمعات، حيث
يتجلى في كل عصر نمط من أنماط النزعة الاستغنائية، سواء كانت
استغناءً بالفكر، أو بالعلم، أو بالمال، أو بالقوة، أو حتى بالروح.
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ
لَيَطْغَىٰ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ﴾ (العلق: 6-7)، وهي آية تختصر
ببلاغة عميقة مشكلة الإنسان الكبرى حين يتوهم الاكتفاء الذاتي،
ويتجاوز حدوده غافلًا عن ضعفه وحاجته المستمرة إلى
الله.
فالنزعة الإنسانية التي تدّعي
الاستغناء عن الله ليست وليدة العصر الحديث، بل هي امتدادٌ لموقف
متكرر عبر التاريخ، حيث تصور الإنسان أنه قادر على إدارة شؤونه
بمعزل عن الإيمان والتوجيه الإلهي. من فرعون الذي قال: ﴿أَنَا
رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾ (النازعات: 24)، إلى قارون الذي زعم أن
ثروته جاءت من عند نفسه بقوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ
عِندِي﴾ (القصص: 78)، وصولاً الى فلاسفة عصر التنوير ومذهب
"الإنسانية المستغنية" الذين ادّعوا أن الإنسان هو محور الكون
وقانونه الأعلى.
لقد أدى هذا الاستغناء الوهمي إلى
انهيارات أخلاقية واجتماعية خطيرة، حيث أصيب الفرد بالاغتراب
الروحي، وابتعدت المجتمعات عن منظومات القيم، فأصبحت المادة هي
الحاكمة، والمنفعة هي الميزان الوحيد للحكم على الأمور، مما أدى إلى
تفكك الأسرة، واستشراء الظلم، وغياب العدالة، وظهور أنماط جديدة من
الطغيان السياسي والاقتصادي والفكري.
وترتكز هذه النزعة على فكرة أن
الإنسان لم يعد ذلك الكائن الضعيف، الخاضع للخوف والرهبة من
المجهول، أو المستسلم للأساطير والخرافات، أو المنقاد لأوامر تُفرض
عليه من الخارج. بل على العكس، فقد ارتقى إلى مرتبة عليا وأصبح صاحب
شأن رفيع، فهو الذي كشف أسرار الكون وفك رموزه، وأدرك قوانينه التي
تحكمه، بل أصبح عنصرًا فاعلًا في توجيه مسار الحياة والتأثير في
مجرياتها. وهو واضع القوانين التي تحقق الرفاه والتقدم، ومبتكر أعظم
الصناعات في مختلف الميادين. بناءً على ذلك، لم يعد مقبولًا، وفقًا
لهذه الرؤية، أن يخضع الإنسان لأي سلطة تفوقه أو تأتي من خارج
نطاقه، إذ أن التخلي عن استقلاله ورشده الذاتي يُعد تراجعًا عن
الإنجازات التي بلغها. وفي تأكيد هذا المعنى يقول جوليان هكسلي:
«الإنسان قد خضع لله بسبب عجزه وجهله، والآن وقد تعلم وسيطر على
البيئة، فقد آن أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر
الجهل والعجز على عاتق الله، ومن ثم يصبح هو الله». انظر مذاهب
فكرية معاصرة، محمد قطب (٦٣١).
تاريخ ظهور النزعة الإنسانية
المستغنية
ظهر مصطلح "الإنسانية" لأول مرة في
الفكر الغربي الحديث خلال عصر النهضة في القرن السادس عشر، حيث
أُطلق على الحركة التي ركزت على دراسة العلوم الإنسانية والأدب،
وسعت إلى إحياء التراث الفكري والثقافي للحضارتين اليونانية
والرومانية. ورغم أن هذه الحركة لم تسعَ في البداية إلى معارضة
الدين ذاته، إلا أنها مهدت الطريق لتطور أكثر جذرية.
في القرن السابع عشر، تصاعدت موجة
التمرد الإنساني بشكل ملحوظ بالتزامن مع الثورة العلمية، وكما يصف
زكي نجيب: «جاءت النهضة الأدبية، فأعلنت معها حرية الإنسان في فكره
وانطلق العقل من قيود الفلسفة المدرسية... حتى نشأ لذلك مذهب خاص
يعرف بالمذهب الإنساني، يرفع الإنسان إلى أرفع المراتب ويضع مصلحته
فوق كل شيء آخر». قصة الفلسفة الحديثة (٤٦/١).
بلغت النزعة الإنسانية ذروتها في
القرن الثامن عشر مع حركة التنوير، حيث تحول العقل الإنساني إلى
معبود جديد. ويؤكد ممثلو التنوير «أن العقل سبيلنا للنفاذ إلى
الحقيقة الكامنة وراء الظواهر... وسيكشف العقل عنا غشاوة الخرافات
والخوارق وغير ذلك من أمور تتنافى معه». ويشرح بول هازار أبعاد هذا
التحول: «فالإنسان والإنسان وحده أصبح مقياساً لكل شيء، كان هو مسوغ
وجوده وغايته». تشكيل العقل الحديث، کرین برینتون (۱۱۷).
في القرن التاسع عشر، اتخذت النزعة
الإنسانية أشكالاً أكثر تطرفاً مع فلاسفة مثل أوجست كونت الذي أسس
"دين الإنسانية"، ولودفيغ فيورباخ الذي اعتبر أن «الكائن الروحي
الذي يضعه الإنسان فوق الطبيعة... ليس إلا الجوهر الروحي للإنسان
نفسه»، وصولاً إلى نيتشه الذي أعلن موت الإله وقال: «لقد ماتت جميع
الآلهة، فلم يعد لنا من أمل إلا ظهور الإنسان المتفوق». أصل الدين
(۹۲).
وقد أكد تزفيتان تودوروف أن الفكر
الغربي في عصر التنوير «قررت الكائنات البشرية لأول مرة في التاريخ
أخذ مصيرها بيدها، وتواضعت على اعتبار رفاه الإنسانية الهدف الأسمى
لأفعالها». روح الأنوار (٧).
وهكذا تطورت النزعة الإنسانية من
حركة إحياء ثقافي إلى فلسفة تجعل الإنسان بديلاً.
نقد مذهب الإنسانية
المستغنية
رغم ادعاءات دعاة النزعة الإنسانية
المستغنية بأنهم يحافظون على قيم الإنسان وخصائصه الفريدة، إلا أن
تحليلاً عميقاً لأسس هذا المذهب يكشف عن انتهاكات جوهرية للإنسانية
الحقيقية. ويمكن إجمال أبرز أدلة نقد هذا المذهب في النقاط
التالية:
فساد المسلمات الأساسية
تنبني النزعة الإنسانية المستغنية
على افتراضات غير صحيحة، منها الاعتقاد بأن الإيمان بوجود إله مسيطر
على الكون يتنافى مع كمال الإنسان. هذه الفرضية تقع ضمن نطاق
المصادرة على المطلوب، وهو خطأ استدلالي متفق على بطلانه. كما تفترض
هذه النزعة أن الإنسان قادر ببنيته العقلية وحدها على الوصول إلى كل
شيء دون الحاجة لأي دعم خارجي، بينما يؤكد برتراند رسل أن «العلماء
يعترفون في تواضع بوجود مناطق يجد العلم نفسه عاجزا عن الوصول
إليها». الدين والعلم (۱۷۱).
ويعبر أينشتاين عن هذا القصور
بقوله: «إن العقل البشري مهما بلغ من عظم التدريب وسمو التفكير عاجز
عن الإحاطة بالكون، فنحن أشبه الأشياء بطفل دخل مكتبة كبيرة ارتفعت
كتبها حتى السقف فغطت جدرانها، وهي مكتوبة بلغات كثيرة، فالطفل يعلن
أنه لا بد أن يكون هناك شخص قد كتب تلك الكتب، ولكنه لا يعرف من
كتبها، ولا كيف كانت كتابته لها، وهو لا يفهم اللغات التي قد كتبت
بها». أينشتاين ونظريته النسبية عبد الرحمن مرحبا (١٤٥)
انتهاك الكرامة الإنسانية
أدت النزعة الإنسانية الإلحادية
إلى تدمير قيمة الإنسان ذاته، كما يوضح رئيس التشيك فاكيلا فهافل:
«حينما أعلنت الإنسانية أنها حاكم العالم الأعلى في هذه اللحظة
نفسها بدأ العالم يفقد بعده الإنساني». ويؤكد علي عزت بيجوفيتش هذا
المعنى بقوله: «إن القول بمذهب إنساني ملحد ضرب من التناقض؛ لأنه
إذا انتفى وجود الله انتفى بالتالي وجود الإنسان، كما أنه لو لم
يوجد إنسان، فإن الإنسانية التي يزعمونها تصبح عبارة بلا مضمون، إن
الذي لا يعترف بخلق الإنسان لا يمكنه أن يفهم المعنى الحقيقي
للإنسانية». العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة عبد الوهاب
المسيري (٢٦/٢).
تقويض الأسس الأخلاقية
إن إنكار النزعة الإنسانية للمبادئ
المطلقة والقيم الثابتة أدى إلى أزمة أخلاقية عميقة. فقد عبّر علي
عزت بيجوفيتش عن هذا بقوله: «يوجد ملحدون على أخلاق، ولكن لا يوجد
إلحاد أخلاقي»، و«لا يمكن بناء نظام أخلاقي على الإلحاد». الإسلام
بين الشرق والغرب (٢٠٥). وقد أقر بعض الفلاسفة الملاحدة بهذه
الحقيقة، كما قال بول سارتر: «إن الوجودي يعتقد أنه من المؤلم جدًا
ألا يوجد إله؛ لأن كل احتمال للعثور على قيم في سماء من الأفكار
يختفي باختفاء الله». الوجودية الإلحادية - ضمن آراء فلسفية في أزمة
العصر، آدريين كوخ - (۲۷۲).
إفراغ الحياة من المعنى
بإنكارها لوجود الله وربوبيته،
عجزت النزعة الإنسانية عن تقديم رؤية متماسكة تمنح للحياة غاية
ومعنى. فبدلاً من الهدف السامي المتمثل في عبادة الله وتحقيق
الفضيلة، أصبح الإنسان يحيا في كون لا معنى له، ووجودٍ خاوٍ من أي
هدف أو غاية حقيقية.
إن هذه الأدلة تكشف أن النزعة
الإنسانية المستغنية، رغم ادعاءاتها، إنما تهدم أسس الإنسانية
الحقيقية وتفرغها من مضمونها الأصيل، مما يؤكد ضرورة الرجوع إلى
الإيمان بالله كأساس لبناء حياة إنسانية متوازنة وهادفة.
الأكثر قراءة
32354
19387
14896
11613