

| التوحيد | من خلق الله؟ في ضوء الحكمة المتعالية
2025-05-31 227

من خلق الله؟ في ضوء الحكمة المتعالية
السيد علي العزام الحسيني
مثّل سؤال(من خلق الله؟) محور
النقد الذي وجهه الفيلسوف الشهير(راسل) لدليل الحدوث، فقال: " إذا
ينبغي أن يكون لكل شيء سبب إذن: ينبغي أن يكون للإله سبب، وإذا كان
من الممكن أن يكون هناك إله بدون علة أو سبب يمكن إذن أن يكون
العالم بدون علة أو سبب مثل الإله تماماً)لماذا لستُ مسيحياً ص 17ط:
الأولى: 2015 – دار التكوين.(
ينطبق هذا إلى حدّ ما على أشهر
رموز الإلحاد الجديد(دوكينز) فقد كرّر السؤال في كتابه "وهم الإله "
غير مرّة، يقول مثلًا في صفحة 111: كل الحجة تدور حول السؤال
التالي: من خلق الله؟.. وفي سياق نقد التصميم الذكي قال في صفحة
122: "التصميم ليس بديلاً بالأساس لأنّه يؤدي لأثارة مشكلة أكبر من
المشكلة التي يحاول حلها: من خلق الخالق؟".
هذان نموذجان وحسب، ولستُ مسترسلًا
في استعراض غيرهما، فلا غرض لي هنا بذلك هنا، كما لا أنوي تفكيك
مرتكزات السؤال، أو بيان أنواع الإجابات الكلامية والفلسفية عنه،
فقد فعلت كل ذلك بالتفصيل في كتابي(من خلق الإله؟-سياقات السؤال
ونقد الإجابة السائدة)، وإنّما المقصود الوحيد لهذا المقال الموجز
ومسعاه يتعلّق ببيان جواب السؤال آنفًا في ضوء فلسفة صدر الدين
الشيرازي، المعروفة بمدرسة الحكمية المتعالية.
الأمر كلّ الأمر يتعلّق بفهمنا
لمبدأ العلية، فهمًا فلسفيًا عميقًا، فقد لاحظ فيلسوف الحكمة
المتعالية أنّ هذا المبدأ هو نحو من أنحاء الارتباط بين موجودين
وشكل من أشكال العلاقة بين شيئين فراح يدرس ويدقق ويتأمل أنحاء
الارتباط والعلاقة فخرج بقاعدة مفادها: أنّ كل أنواع الارتباط إنما
تتم بين كيانين مستقلين تحصل العلاقة والارتباط بينهما بعد وجودهما
لا بالارتباط يحصل لهما الوجود، باستثناء نوع واحد من أنواع
الارتباط هي رابطة العلية، وتوضيح ذلك كالآتي:
إنّ أنحاء الارتباط على كثرتها
تُقسّم على قسمين:
أـ ارتباطات بين شيئين لا علية
بينهما، فالرسام مرتبط باللوحة التي يرسم عليها، والكاتب مرتبط
بالقلم الذي يكتب به، والمطالع مرتبط بالكتاب الذي يقرأ فيه، والأسد
مرتبط بسلسلة الحديد التي تطوق عنقه، وهكذا سائر العلاقات
والارتباطات بين الأشياء. ولكن شيئا واضحا يبدو بجلاء، في كل ما
قدمناه من الأمثلة للارتباط، وهو ان لكل من الشيئين المرتبطين وجودا
خاصا، سابقا على ارتباطه بالآخر. فاللوحة والرسام كلاهما موجودان،
قبل أن توجد عملية الرسم، والكاتب والقلم موجودان، قبل ان يرتبط
أحدهما بالآخر، والمطالع والكتاب كذلك وجدا بصورة مستقلة، ثم عرض
لهما الارتباط. فالارتباط في جميع هذه الأمثلة علاقة تعرض للشيئين
بصورة متأخرة عن وجودهما، ولذلك فهو شيء ووجودهما شيء آخر، فليست
اللوحة في حقيقتها ارتباطا بالرسام، ولا الرسام في حقيقته مجرد
ارتباط باللوحة، بل الارتباط صفة توجد لهما بعد وجود كل منهما بصورة
مستقلة.
ب ـ ارتباط شيئين برباط العلية،
كارتباط الإحراق بالنار، فالعلية بطبيعتها تقتضي، أن لا يكون
للمعلول (الإحراق) حقيقة وراء ارتباطه بعلته (النار) والا لم يكن
معلولا. ويتضح بذلك ان الوجود المعلول ليس له حقيقة، الا نفس
الارتباط بالعلة والتعلق بها. وهذا هو الفارق الرئيسي، بين ارتباط
المعلول بعلته وارتباط اللوحة بالرسام، أو القلم بالكاتب، أو الكتاب
بالمطالع. فان اللوحة والقلم والكتاب، أشياء تتصف بالارتباط مع
الرسام والكاتب والمطالع. وأما (الإحراق) فهو ليس شيئا له ارتباط
وتعلق بالعلة - لأن افتراضه كذلك، يستدعي ان يكون له وجود مستقل،
يعرضه الارتباط كما يعرض اللوحة الموجودة بين يدي الرسام، ويخرج
بذلك عن كونه معلولا - بل هو نفس الارتباط بمعنى ان كيانه ووجوده،
كيان ارتباطي ووجود تعلقي، ولذلك كان قطع ارتباطه بالعلة افناء له،
وإعداما لكيانه، لأن كيانه يتمثل في ذلك الارتباط. على عكس اللوحة،
فإنها لو لم ترتبط بالرسام في عملية رسم معينة، لما فقدت كيانها
ووجودها الخاص(انظر: فلسفتنا الصفحة ٢٧٧).
والمتحصّل مما تقدّم، أنّ الوجودات
الإمكانية هوياتها عين التعلقات والارتباطات بالوجود الواجبي، لا
أنّ معانيها مغايرة للارتباط بالحق تعالى، كما ينصّ الشيرازي.
(الأسفار الأربعة، ج 1، صفحة 65)، بمعنى أنّ حقيقة وجود الممكنات
أنّها عين التعلق والارتباط، وأما الواجب فهو عين الغنى والاستقلال،
من ثمّ لا يصح أن يسأل عن علته التي أوجدتُه وأعطته الوجود لأنّ
وجوده عين ذاته، والذاتي لا يعلل، ويمكن تقريبه بأنّ السؤال عن
حلاوة الشاي صحيح وفي محله؛ من حيث إنّ حلاوته ليست من ذاته بل من
تعلّقه وارتباطه بالسكر، ولكن لا يصح السؤال عن حلاوة السكر؛ لأنّ
الحلاوة عين ذاته.
الأكثر قراءة
32354
19387
14896
11613