2 شوال 1446 هـ   31 آذار 2025 مـ 2:14 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | العلاقة مع النفس (الرياضة النفسية) (الصوم) |  حقيقة الغناء والموسيقى بين المتعة الحسية والمخاطر الروحية
2025-03-12   142

حقيقة الغناء والموسيقى بين المتعة الحسية والمخاطر الروحية


الشيخ معتصم السيد أحمد
من المؤكد أن ظاهرة الغناء وما يصاحبها من موسيقى أصبحت من الظواهر المنتشرة بشكل واسع في المجتمعات المعاصرة، وقد ساهم التقدم التكنولوجي في تحويلها إلى جزء من ثقافة العصر الحديث، حيث فرضت نفسها بقوة على مختلف الطبقات والمجتمعات. ففي الماضي كان الغناء مقتصراً على مناسبات خاصة وأماكن معينة، تتناسب مع أجواء الترف والمجون، لكن اليوم أصبح متاحاً في كل مكان وفي أي وقت، فشبكات الإنترنت، أجهزة الموبايل الحديثة، شبكات البث التلفزيوني، أجهزة التسجيل ومكبرات الصوت، كلها عوامل تجعل الغناء والموسيقى حاضرين في معظم الأوقات والمواقف، من المنازل إلى وسائل المواصلات، الأسواق، والمحلات التجارية، وحتى الشوارع العامة.

وقد أصبح من الصعب تصور يوم يمضي دون أن يطرق سمع الإنسان الغناء أو الموسيقى، سواء بقصد أو دون قصد. ويُظهر ذلك أن المجتمع المعاصر أصبح في حالة من الإدمان على هذه الظاهرة لدرجة أنه لو توقف الغناء والموسيقى في كافة أنحاء العالم ليوم واحد فقط، فإننا سنشهد اضطرابات اجتماعية ونفسية تجتاح العالم بأسره.

إن التعامل مع ظاهرة الغناء والموسيقى في المجتمع المعاصر يفتقر إلى الحيادية والموضوعية في كثير من الأحيان. غالبية الناس في هذه الأيام يتأثرون بشدة بالضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي تفرضها هذه الثقافة، مما يجعلهم في حالة استسلام مستمر لها. فالغناء والموسيقى جزء أساسي من وسائل الترفيه التي تُعرض في كل مكان، بدءاً من وسائل الإعلام وصولاً إلى أماكن العمل والتجمعات العامة. هذه الظاهرة تشبع رغبات الإنسان وتستغل غرائزه النفسية، فهي تغذي احتياجاته العاطفية وتعمل على تحفيز مشاعره. فما يحدث هو أن الشخص لا يجد أي مقاومة داخلية تجاه هذه الضغوط، بل على العكس، تميل نفسه تلقائياً إلى ما يثير هواها ويسعدها.

هذه الظاهرة تفرض نفسها بحكم أنها تُشبع دوافع النفس واحتياجاتها العابرة. لكن المشكلة تكمن في أن الغناء والموسيقى، رغم تأثيرهما العاطفي المباشر، يتعارضان بشكل جوهري مع المبادئ العقلية والروحية التي تسعى الرسالات السماوية إلى ترسيخها في الإنسان. فالنفس البشرية، كما هو معروف، قد تميل إلى الملذات العابرة واللهو، لكن هذا لا يعني أن هذه الظواهر هي التي ينبغي أن تكون محور حياة الإنسان أو وسيلته لتحقيق سعادته الحقيقية.

وفي هذا السياق، لابد من تذكير الإنسان بأن تكوينه الفطري يحتوي على صراع دائم بين العقل والهوى. فالإنسان بطبيعته لا يحتاج إلى من يذكره بما تهواه نفسه، فهو يعرف تماماً ما يرغب فيه وما يميل إليه من غرائز، ولكن ما يحتاج إليه بشكل دائم هو من يوجهه ويذكره بقيم العقل، التي تتضمن السعي نحو الكمال والجمال الروحي. هذه القيم لا تأتي من الرغبات الذاتية أو الملذات اللحظية، بل من المبادئ السامية التي تفرضها الرسالات السماوية. فمن خلال هذه الرسالات، يتمكن الإنسان من تصحيح مسار حياته وتوجيه قدراته العقلية والنفسية نحو أهداف أسمى، فيسعى لتحقيق التوازن بين احتياجاته الجسدية والفكرية والروحية.

إن الغناء والموسيقى، رغم أنها تبدو جذابة في الظاهر، إلا أنها تشغل الإنسان عن هذه الأهداف السامية. فهي لا تحفز العقل على التفكير العميق أو تعزز من قدرة الإنسان على التأمل والتدبر. بل على العكس، يمكن اعتبارها محفزات نفسية تثير المشاعر السطحية، وتعزز الغرائز والرغبات العابرة. وكلما استمر الإنسان في الاستماع لهذه الظواهر، كلما أصبحت لديه فجوة أعمق بينه وبين قيم العقل التي تدعوه إلى الهدوء والتأمل في معاني الحياة السامية. من هنا، يمكننا أن نرى أن الغناء والموسيقى تعمل على إلهاء النفس عن القيم الروحية السامية، وتُضعف من ارتباط القلب بالعقل الهادئ الذي يسعى نحو السكينة والطمأنينة التي يوفرها ذكر الله.

من جانب آخر، يظهر الصراع بين الحق والباطل في هذا السياق بشكل واضح. فالغناء والموسيقى ليست مجرد وسائل ترفيه، بل هي أدوات تساهم في تأجيج الباطل والهوى في قلب الإنسان، مما يجعله يبتعد عن الطريق القويم الذي ترشده إليه الرسالات السماوية. فلا يمكن لأي شخص عاقل أن يزعم بأن الغناء أو الموسيقى تشكلان دعامة للحق، أو حتى دافعاً يدفع الإنسان إلى تحقيقه. بل على العكس، كل ما يلهي العقل ويفصل القلب عن ذكر الله تعالى هو شيء يجب تحاشيه والتحذير منه، لأن الإلهاء هو عائق أمام الإنسان في سعيه لتحقيق المعاني الحقيقية للوجود، والمعاني الروحية التي تهدف إليها الحياة في إطار التوجيهات الإلهية.

قال الله تعالى في كتابه الكريم: (أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الزمر: 22). وإن كانت هذه الآية الكريمة لا تتحدث عن الغناء بشكل محدد، إلا أنها تكشف عن القانون الكلي الذي يفرق بين القلوب التي نورها الله وبين تلك التي قست بسبب ابتعادها عن ذكر الله. فالقلوب التي شرح الله صدرها للإسلام تجد راحتها في التفكر والتأمل في معاني الحياة الروحية، بينما القلوب القاسية تبتعد عن هذا الطريق وتغرق في ملذات الحياة العابرة. فإذا كان الإسلام يسعى إلى تهذيب القلوب وتوجيهها نحو الحق، فإن الغناء، على النقيض من ذلك، يسهم في تعميق القسوة في القلب والابتعاد عن الطريق المستقيم.

ووفقاً لذلك، نجد أن العديد من الروايات التي حرمت الغناء تستند إلى فكرة أساسية مفادها أن الغناء يتناقض مع تحقيق العبودية الحقيقية لله. فقد خصص العلامة الحر العاملي باباً في "وسائل الشيعة" بعنوان "تحريم الغناء، حتى في القرآن، وتعليمه وأجرته"، ورد فيه عن زيد الشحام قوله: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة، ولا تجاب فيه الدعوة، ولا يدخله الملك».

هذه الرواية تشير إلى أن بيت الغناء يختلف جذرياً عن بيت العبادة، ففي بيت العبادة تُدفع الفجائع، وتُستجاب الدعوات، وتدخله الملائكة، بينما في بيت الغناء يطغى الهوى على العقل، وينصرف القلب عن الذكر. وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً: «الغناء مما قال الله عز وجل: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله».

تظهر هذه النصوص بوضوح أن الغناء لا يتماشى مع الأهداف السامية التي تسعى الرسالات السماوية إلى تحقيقها، بل هو أحد مظاهر الباطل الذي يسعى إلى إضلال الإنسان عن طريق إلهاء عقله وإفساد قلبه. وقد وصفه بعض الأئمة بالغش والنفاق، حيث قال الإمام الصادق (عليه السلام): "الغناء غش النفاق".

في المحصلة، يجب على المؤمن أن يتقي الله ويحذر من الوقوع في الشبهات، وألا يسعى للبحث عن مبررات لتلبية رغباته الشخصية، لأن الفقهاء عندما يتناولون المسائل الشرعية إنما يتبعون منهجاً علمياً موضوعياً، ويعتمدون على النصوص الشرعية في إصدار الأحكام. وبخصوص الغناء، فقد أجمع الفقهاء على حرمته نظراً للنصوص الواضحة الدالة على ذلك، بينما اختلفوا في حرمة الموسيقى نظراً لعدم وجود نصوص صريحة بشأنها. بعضهم حرمها باعتبارها من أدوات اللهو، بينما أباحها آخرون بشرط ألا تكون مرتبطة بمجالس اللهو والطرب، وتركوا تحديد ذلك لعرف المجتمع المتدين.

في النهاية، يتحمل المؤمن مسؤولية اتخاذ المواقف الشرعية المناسبة، ويجب أن يتجنب كل ما يساهم في نصرة الباطل ويبعده عن طريق الحق. 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م