

| أحكام مجتمعية | الرق في الإسلام: رؤية تشريعية وسياق تاريخي

الرق في الإسلام: رؤية تشريعية وسياق تاريخي
الشيخ معتصم السيد احمد
الرق وملك اليمين من القضايا التي خضعت عبر التاريخ لتحولات جوهرية، حيث كانت النظرة إليهما تتغير تبعاً للثقافات المختلفة والحقب الزمنية المتعاقبة. فكثير من الممارسات التي كانت مألوفة ومقبولة في المجتمعات القديمة أصبحت مع مرور الزمن موضع رفض وإدانة نتيجة للتطورات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية. ولم يكن الرق استثناءً من هذه القاعدة، فقد كان قبل الإسلام ظاهرة مترسخة في البنى الاجتماعية والاقتصادية، لدرجة أن استقرار المجتمعات كان يبدو مستحيلاً دون وجود العبيد والجواري. ولو تصورنا أن شخصاً عاش في تلك الحقبة ورفع شعار تحرير الرقيق فوراً، لربما قوبل بالسخرية والاستهجان، بل قد يجد نفسه مضطراً، بحكم طبيعة التكيف الاجتماعي، إلى مجاراة الواقع السائد والامتثال لما كان يُنظر إليه حينها كأمر طبيعي لا جدال فيه.
فحتى نفهم تعاطي الإسلام مع قضية ملك اليمين، لا بد من إدراك السياق التاريخي الذي كانت تعيشه المجتمعات القديمة، إذ لم يكن الرق ظاهرة عارضة أو هامشية، بل كان يمثل جزءاً أساسياً من البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالأسرى في الحروب كانوا يتحولون إلى عبيد، والاقتصاد كان يعتمد على الأيدي العاملة من الرقيق في الزراعة والتجارة والرعي والخدمة المنزلية، إضافة إلى أن البنية الطبقية للمجتمع كانت قائمة على وجود طبقة من العبيد تخدم الطبقات الأعلى مرتبة.
وبناءً على ذلك، فإن أي محاولة لتغيير هذه المنظومة بشكل فجائي كانت ستؤدي إلى اضطرابات كبيرة، لا سيما أن العقل الجمعي آنذاك لم يكن مستعداً لتقبّل فكرة الاستغناء عن الرق. ومن هنا، فإن محاكمة العقل الاجتماعي القديم بمنطق العقل الاجتماعي الحديث دون مراعاة الفوارق الزمنية والثقافية تؤدي إلى فهم قاصر لطبيعة التحولات الاجتماعية، وهو ما ينطبق على قضية ملك اليمين التي تعامل معها الإسلام بمنهجية تدريجية بدلاً من الحلول الصدامية.
الإسلام والتعامل التدريجي مع قضية ملك اليمين
لم يكن الإسلام هو المؤسس لظاهرة الرق، وإنما جاء في بيئة كانت فيها هذه الظاهرة متجذرة في المجتمع، ولذلك كان التعامل مع هذا الواقع يتطلب رؤية إصلاحية قائمة على التدرج. وقد انتهج الإسلام منهجية مماثلة لما فعله مع قضايا أخرى مثل تحريم الخمر، حيث لم يُحرّمها دفعة واحدة، بل عبر مراحل متعددة، وكان الهدف من هذا النهج التدريجي هو إحداث تحول ثقافي واجتماعي عميق يجعل المجتمع نفسه مستعداً للتخلي عن الظاهرة، وليس فقط فرض تشريعات قانونية دون توفير الأرضية اللازمة لها. ففي الكافي عن زرارة قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "ما بعث الله عز وجل نبياً قط إلا وفي علم الله أنه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر ولم تزل الخمر حراماً وإنما ينقلون من خصلة إلى خصلة ولو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدين، قال: وقال أبو جعفر عليه السلام: ليس أحد أرفق من الله عز وجل فمن رفقه تبارك وتعالى أنه نقلهم من خصلة إلى خصلة ولو حمل عليهم جملة لهلكوا" (الكافي ج6 ص 395).
ومن هنا، لم يقم الإسلام بإلغاء ملك اليمين مباشرة، بل وضع له ضوابط مشددة تحدّ من انتهاكات الرق، كما عمل على تشجيع تحرير الرقيق بطرق مختلفة، من خلال الكفارات والمستحبات الشرعية، إضافة إلى تقييد موارد الرق ومنع استرقاق الأحرار، وهي خطوات كان الهدف منها تصفية الظاهرة بشكل تدريجي. ولعل أكبر دليل على هذا النهج أن الإسلام ساوى بين السيد والعبد في الحقوق الإنسانية، ودعا إلى معاملتهم كجزء من العائلة، كما روي عن النبي (ص) أنه قال: "إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم" (شرح رسالة الحقوق ص 539).
أثر الانحراف السياسي في استمرار الرق
كان من المفترض أن يتلاشى الرق تدريجياً لو سارت الأمور وفق المنهج الإسلامي الذي رسمه النبي (ص)، لكن الانحراف السياسي الذي حصل بعد وفاته أدى إلى تعطيل هذا المسار. فقد تسلم السلطة خلفاء ركزوا على التوسع العسكري، وكانت الفتوحات الإسلامية تجلب آلاف الأسرى الذين تم استرقاقهم، مما أدى إلى تكريس ظاهرة الرق بدلاً من إنهائها. وفي العصرين الأموي والعباسي، ازدادت أعداد الجواري والعبيد بشكل غير مسبوق، حتى أصبح لهم أسواق خاصة يتم بيعهم فيها، وكان الخلفاء يوزعون الجواري كهدايا على المقربين منهم.
ولعل أحد أوضح الأمثلة على هذا التوسع في الرق ما يرويه البلاذري عن أن أول سبي وصل إلى المدينة كان في خلافة أبي بكر، أرسله خالد بن الوليد، ثم تزايدت أعداد السبايا في العهد الأموي، حيث بعث معاوية وحده أربعة آلاف سبية إلى المدينة، بينما بلغ عدد السبايا الذين أُخذوا من شمال إفريقيا خلال فتوحات موسى بن نصير مائة ألف، ثم ازداد العدد في الفتوحات اللاحقة ليصل في بعض الأحيان إلى مئات الآلاف.
هذا التوجه لم يكن امتداداً للرؤية الإسلامية الأصلية، بل كان انحرافاً عنها، حيث وظفت الأنظمة الحاكمة الرق كأداة لتعزيز سلطتها، وهو ما أدى إلى بقاء هذه الظاهرة لعدة قرون بعد أن كان من الممكن أن تنتهي خلال فترة قصيرة لو تم اتباع النهج الذي وضعه الإسلام.
وعليه، من الأخطاء الشائعة نسبة ظاهرة ملك اليمين إلى الإسلام، في حين أن الإسلام لم يُوجدها، وإنما تعامل معها بوصفها أمراً واقعاً، وسعى إلى تقليصها والحد منها وصولاً إلى إنهائها. ولذلك، فإن الجماعات المتطرفة التي حاولت في العصر الحديث إعادة إحياء هذه الظاهرة لم تستند إلى التشريع الإسلامي، وإنما إلى ممارسات تاريخية ارتبطت بالخلفاء الذين وظفوا الرق لأغراض سياسية واقتصادية.
في الختام، يتضح من خلال هذا التحليل أن قضية ملك اليمين لم تكن تشريعاً إسلامياً، بل كانت ظاهرة اجتماعية متجذرة تعامل معها الإسلام بمنهجية التدرج، حيث أقرّها بحدودها المشروعة وفقاً للأعراف العقلائية آنذاك، لكنه عمل في الوقت نفسه على تضييق نطاقها وتشجيع تحرير الأرقاء وصولاً إلى إنهاء الظاهرة. إلا أن الانحراف السياسي الذي حدث بعد النبي (ص) أدى إلى استمرار الرق لعدة قرون نتيجة للفتوحات العسكرية التي زادت من أعداد العبيد والجواري، مما جعل الممارسات التاريخية تختلف عن المنهج الإسلامي الحقيقي.
ومن هنا، فإن أي قراءة موضوعية لهذه القضية يجب أن تميز بين التشريع الإسلامي والممارسات السياسية اللاحقة، حتى لا يُحمَّل الإسلام مسؤولية ظاهرة كانت قائمة قبله واستمرت بعده بسبب العوامل السياسية والاجتماعية، وليس بسبب التشريع الديني ذاته.