

| أحكام مجتمعية | الإنسان في الحضارة الغربية: بين وهم القيم وجوهر المادية
2025-06-23 47

الإنسان في الحضارة الغربية: بين وهم القيم وجوهر المادية
الشيخ معتصم السيد أحمد
في الوقت الذي تُروّج فيه الحضارة
الغربية لخطابٍ إنساني يدّعي الانتصار للحرية والعدالة والعقلانية،
ويجعل من العلم والعقل مرجعية عليا في تحديد خيارات الإنسان ومصيره،
يبرز سؤال جوهري يستدعي التوقف والتأمل: ما حقيقة "الإنسانية" في
الثقافة الغربية؟ وهل فعلاً ترتكز هذه الحضارة على منظومة قيم تنصف
الإنسان وتمنحه مكانته اللائقة، أم أنها تتخذ من هذه الشعارات واجهة
خادعة تخفي وراءها تصوراً مادياً يُفرغ الإنسان من أي قيمة جوهرية
حقيقية؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بد أن
نتجاوز الخطابات الترويجية وننقب في البنية الفلسفية التي انطلقت
منها الحضارة الغربية الحديثة، وتحديداً في رؤيتها الكونية للوجود
والإنسان. فعلى خلاف ما قد يتصوره البعض من تنوع وتعدد في الرؤى
داخل الغرب، إلا أن هناك جوهراً موحداً يربط بين أغلب المدارس
الفكرية والفلسفية الغربية، وهو الإيمان بالمادة بوصفها الأصل
والأساس لكل ما في الوجود، بما في ذلك الإنسان نفسه.
فالإنسان – وفق هذه الرؤية – ليس
سوى كائن مادي، يخضع للقوانين الطبيعية كما تخضع بقية عناصر
الطبيعة. لا فرق بينه وبين الحيوان أو النبات أو الجماد من حيث
الجوهر، وكل ما يميّزه هو تعقيد في البنية وليس تفرّداً في الطبيعة.
هذه الرؤية المادية تُسقط عن الإنسان خصوصيته، وتدمجه في منظومة
حتمية تحكمها قوانين الحركة والسببية والعرض والطلب، دون أن يكون له
أي امتياز وجودي أو أخلاقي.
وهذا على الضد تماماً من الرؤية
التوحيدية التي يقدمها الإسلام، حيث يُنظر إلى الإنسان على أنه كائن
مزدوج الطبيعة: قبضة من طين ونفخة من روح. فبينما تعترف الحضارة
الإسلامية بالمادة، إلا أنها لا تختزل الإنسان فيها، بل تضيف بُعداً
غيبياً وروحياً يمنحه خصوصية ومسؤولية، ويجعله كائناً حرّاً قادراً
على الاختيار، مسؤولاً عن أفعاله، مُكرماً في ذاته، وغايته السعي
نحو الكمال عبر منظومة من القيم الأخلاقية التي تستمد مرجعيتها من
الله عز وجل.
من هنا يمكن القول إن التوحيد لا
يكتفي بتفسير الكون على أنه خلق إلهي، بل يؤسس لرؤية كونية تجعل
للوجود غاية، وللإنسان وظيفة، ولقيم الخير والحق والعدل مرجعية
ثابتة متجاوزة للمصلحة والمنفعة. أما في الرؤية المادية الغربية،
فالمادة هي المبدأ وهي الغاية، وهي المعيار الوحيد في فهم الظواهر
وتقييم السلوك الإنساني. ولهذا فإن كل شيء – بما في ذلك الأخلاق –
يتم تفسيره بردّه إلى دوافع مادية أو نفسية أو بيولوجية، لا إلى
معانٍ متعالية أو قيم مطلقة.
وهذا ما أشار إليه المفكر عبد
الوهاب المسيري في حديثه عن "العلمانية الشاملة"، والتي تعني إقصاء
البعد الغيبي من كل مجالات الحياة، بما فيها الدين والأخلاق والفن
والإنسان نفسه. فالعلمانية الشاملة لا تكتفي بفصل الدين عن الدولة
كما في النموذج التقليدي، بل تفصل الغيب عن الواقع، والروح عن
الجسد، والمعنى عن المادة. ولهذا فهي تؤول إلى رؤية ميكانيكية تفسر
الإنسان بوصفه نظاماً بيولوجياً خاضعاً للحتمية مثل بقية الأنظمة
الطبيعية، وهو ما يجعل كل قيمة إنسانية مجرد ترف أخلاقي أو وهم
معنوي.
في هذا السياق يمكن فهم تلك النزعة
العدوانية الكامنة في بعض الخطابات الغربية، كتلك التي عبر عنها
هتلر حين قال: "يجب أن نكون مثل الطبيعة، فالطبيعة لا تعرف الرحمة
أو الشفقة"، في إشارة واضحة إلى التنصل من أي قيمة أخلاقية أو تعاطف
إنساني لا يتماشى مع منطق القوة والبقاء للأقوى. هذا النمط من
التفكير لا يمثل شذوذاً داخل الثقافة الغربية، بل هو وجه من وجوهها
المتطرفة التي تنسجم في بنيتها العميقة مع الرؤية المادية القائلة
بأن الإنسان ليس أكثر من حلقة في سلسلة تطورية، تحكمه قوانين البقاء
والصراع والتكيف.
ومن هنا فإن شعارات مثل "الحرية"
و"الديمقراطية" و"العقلانية" في الفكر الغربي، رغم طابعها الجذاب،
إلا أنها في حقيقتها تدور ضمن دائرة المادية الغربية. فهي لا تستند
إلى مرجعية روحية، بل تنبع من فلسفات منفصلة عن الإيمان بالله،
وبالتالي فهي تعني حرية الفرد في إطار حاجاته المادية، لا في إطار
كرامته الروحية، كما أنها تبرر الاستغلال والتمييز الطبقي تحت مسمى
"الحرية الاقتصادية"، وتحول الإنسان إلى مجرد مستهلك أو
منتج.
لهذا، فحين تُصوّر الحضارة الغربية
نفسها بأنها "حضارة الإنسان"، فإنما تُصوّره على صورة الإنسان
المادي ذي البُعد الواحد، والذي لا يتجاوز حدود الطبيعة، ولا يطمح
إلى ما وراءها. هذا التصور لا يمكن أن ينتج إنساناً حرّاً بحق، لأنه
محكوم بمنطق الضرورة وليس بمنطق الغاية، وهو ما يفسر غياب المعنى في
حياة كثير من الأفراد في المجتمعات الغربية، وارتفاع نسب الانتحار
والاكتئاب والانهيار النفسي رغم التقدم التكنولوجي والرفاه
المادي.
بل حتى عندما نسمع عن بعض الفلاسفة
أو التيارات الفكرية في الغرب التي تنادي بقيمة الإنسان أو تدعو إلى
الأخلاق، فإنها غالباً ما تكون انعكاسات لصحوات ضمير فردية، سرعان
ما تنقطع عن السياق العام للحضارة المادية وتُبتلع في التيار الكاسح
للمنفعة والنفعية. فمحاولات إحياء "الإنسانية" في الغرب تظل ناقصة
ما لم تنطلق من إعادة تعريف الإنسان بوصفه كائناً ذا بُعد روحي، ولا
يمكن لذلك أن يتحقق دون الارتباط بالله كمصدر مطلق للمعنى
والقيمة.
إن غياب الإيمان بالله عن الفلسفة
الغربية المادية يعني غياب الإيمان بالقيم المطلقة، لأن القيم إذا
لم تستند إلى مرجعية متعالية فهي محكومة بالنسبي والمتغير، ولا يمكن
للنسبي أن يُنتج التزاماً أخلاقياً حقيقياً. ومن هنا فإن الأخلاق في
الغرب أصبحت إما نسبية خاضعة لمعايير الثقافة واللحظة، أو تم
تقويضها باسم "الحرية الفردية"، ما فتح الباب واسعاً أمام الشذوذ
والانحرافات السلوكية، والممارسات التي تفتك بجوهر الإنسان وكرامته،
رغم تغطيتها بمصطلحات براقة.
في المقابل، جاءت الرسالة
الإسلامية لتضع الإنسان في مكانه الصحيح: كائن مكرم، مسؤول، حرّ،
مرتبط بالله، متجاوز للطبيعة، ملتزم برسالة، وساعٍ نحو الكمال. وهذا
التحديد هو ما يمنح الإنسان قيمته الحقيقية، ويؤسس لحضارة إنسانية
حقيقية، تنظر إلى الإنسان بوصفه أمانة إلهية في هذا العالم، لا مجرد
أداة إنتاج أو كيان غرائزي.
وعليه، فإن الفارق الجوهري بين
الإنسانية الإسلامية والإنسانية الغربية يكمن في هذا البعد
التأسيسي: الأولى تنطلق من روح الإنسان وصلته بالله، بينما الثانية
تنطلق من جسده وصلته بالمادة. وبين هذين المنهجين يتحدد مستقبل
الإنسان، إما بأن يكون سيداً في ظل التوحيد، أو مجرد رقم في آلة
المادية الحديثة.
الأكثر قراءة
32354
19387
14897
11613