2 محرم 1447 هـ   28 حزيران 2025 مـ 3:22 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أحكام مجتمعية |  بناء الإنسان من الداخل: أثر العقيدة في تشكيل الشخصية والسلوك
2025-06-25   29

بناء الإنسان من الداخل: أثر العقيدة في تشكيل الشخصية والسلوك


الشيخ معتصم السيد أحمد
تمثل العقيدة الإسلامية منظومة فكرية وقيمية مترابطة، تتجاوز كونها مفاهيم ذهنية أو معلومات نظرية مجردة، إلى كونها رؤية شاملة للحياة، تحدد موقع الإنسان في الوجود، وتمنحه بوصلة يهتدي بها في مسيرته الوجودية. وقد يُساء فهم العقيدة حين تُتناول على أنها بحث ذهني لإثبات وجود الله أو صحة الرسالات فحسب، بينما أثر العقيدة الأعمق يظهر عندما تصبح منطلقاً لرؤية كونية تُترجم في الحياة اليومية، فتشكّل السلوك، وتضبط الانفعالات، وتبني المواقف تجاه الذات والعالم. ولذلك فإن دراسة آثار العقيدة لا تقل أهمية عن دراسة براهينها، لأنها الوجه العملي الذي يكشف عن صدق الإيمان وعمقه في النفس.

ليس من المبالغة القول إن الإنسان لا يتحرك في الحياة بشكل عشوائي أو مستقل عن رؤيته الكونية. فكل موقف يتخذه وكل خيار يسلكه هو نتيجة مباشرة لمنظومة معرفية يحملها. هذه المنظومة تشكّلها مجموعة من التصورات والمفاهيم عن الله، والكون، والإنسان، والمصير. فإن كانت هذه الرؤية قائمة على التوحيد، والإيمان بالنبوة، والمعاد، والعدل، والإمامة، فإن السلوك الناتج سيكون متناسقاً مع تلك المبادئ، لأن القيم تنبع من العقائد، والثقافة تنعكس من القيم، والسلوك هو النتاج الطبيعي للثقافة. 

فالإنسان الذي يؤمن بأنه جاء من الغيب، وسيرجع إلى الغيب، وأن ما بين المجيء والعودة ليس إلا امتحاناً قصيراً يُبنى عليه المصير الأبدي، لا يمكن أن تكون خياراته الحياتية سطحية أو آنية، بل ستتسم بالمسؤولية والبصيرة. وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم حين قرن الإيمان بالعمل الصالح في أكثر من موضع، ليؤكد أن الإيمان ليس فكرة مجردة بل قوة دافعة للعمل، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً﴾، وأكد أن الأمن والهدى لا ينالانه إلا من لم يخلط إيمانه بظلم: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾.

ومن هنا فإن الإيمان الذي لا يُترجم إلى سلوك صالح ليس إلا تصوراً أجوف، والعمل الذي لا ينبثق من عقيدة راسخة لا يُرجى منه ثوابٌ في الآخرة. هذه العلاقة الجدلية بين الإيمان والسلوك تمثل ميزاناً دقيقاً لحقيقة التدين، فكم من الناس يُظهرون الاعتقاد وهم في السلوك بعيدون عن مقتضاه. هذه الفجوة بين الاعتقاد والعمل، بين الظاهر والباطن، هي واحدة من أخطر مظاهر الأزمة في الوعي الديني، حيث تتجمد العقائد في الذهن، ولا تنبض في الواقع، وتتحول من قوة فاعلة إلى عبء تاريخي أو هوية شكلية.

إن معالجة هذا الانفصام لا تكون فقط عبر التركيز على الأدلة العقلية والنقلية للعقيدة، بل الأهم هو استحضار البعد القيمي والحيوي للعقيدة في وجدان الإنسان، فالمطلوب ليس فقط أن يعرف الإنسان الحقيقة، بل أن يتخذ موقفاً عملياً منها. فالمعرفة في الإسلام ليست هدفاً بذاتها، بل وسيلة للهداية والبصيرة. لذلك أشار القرآن إلى الإيمان بوصفه نوراً يمشي به في الناس، ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾، وقال أيضاً: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾، فالمؤمن هو من يرى بنور عقيدته الطريق الصحيح، ويهتدي به إلى المواقف الصائبة.

ولا يكون هذا النور إلا حين تتحول العقيدة إلى بصيرة، أي حين تندمج المعرفة مع الوجدان، وتتحول إلى قناعة حيوية تدفع الإنسان للتغيير. فالإيمان بالله، على سبيل المثال، لا يقتصر على التصديق بوجود خالق، وإنما يقتضي رفض أي سلطة أرضية تستبد بالإنسان، ويمنح الإنسان حرية وجودية حقيقية، لأنه يُخرج الإنسان من عبودية الشهوات والطغاة إلى عبودية الله وحده، وهذه هي الحرية الحقيقية التي عبّر عنها القرآن بقوله: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾.

كما أن التوحيد الذي يدّعيه الإنسان لا يكتمل بمجرد الإقرار الذهني بأن الله واحد، فقد كان إبليس يعلم ذلك وأكثر، ومع ذلك لم يكن موحداً في ميزان الحق، لأن التوحيد ليس مسألة ذهنية فقط، بل هو التزام كامل وتسليم شامل لسيادة الله في الحياة، وهذا لا يتحقق إلا باتباع رسله وأوليائه، الذين يمثلون التجسيد العملي لإرادة الله في الأرض. ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.

وهكذا يتبين أن العقائد الإسلامية ليست جُزُراً منعزلة، بل هي منظومة مترابطة تبدأ بالتوحيد، وتتكامل بالنبوة والإمامة، وتُتوّج بالإيمان بالمعاد، ويغلفها العدل كروحٍ حاكمة على مجمل الخيارات الإنسانية. فالعدل في التصور الإسلامي ليس قيمة إضافية أو ترفاً أخلاقياً، بل هو روح العقيدة وسنامها، وهو انعكاس مباشر للإيمان بالله.

فالذي يؤمن أن الله خلق كل شيء بحق، وأن كل مخلوق له كرامته وحقه، لا بد أن يكون سلوكه قائماً على احترام تلك الحقوق. وقد قرر القرآن أن غاية الرسالات هي إقامة العدل، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.

إن الذي يدّعي الإيمان ولا يحمل العدل في قلبه وفعله كاذب في دعواه، لأن الإيمان الحقيقي يقتضي الانتصار للحق حتى في أصعب الظروف، حتى مع الأعداء، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾.

ولمن أراد اختبار مدى رسوخ العقيدة في قلبه، فليتأمل في خياراته اليومية، فإن وجد أن حياته تعكس مضمون قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ فهو صادق في إيمانه، أما إذا كان من الذين يأمرون بالبر وينسون أنفسهم، وهو يقرأ الكتاب، فهو حتماً غافل عن جوهر العقيدة.

وأما من حيث المصادر التي يمكن الرجوع إليها لفهم هذه الآثار، فإن الجواب لا يقتصر على البحث في الكتب فقط، لأن الأزمة ليست معرفية بقدر ما هي إرادية ونفسية، تتعلق بمدى استعداد الإنسان ليجعل من عقيدته نوراً يسير به في حياته. ولكن مع ذلك، فإن القرآن الكريم وأحاديث المعصومين عليهم السلام تبقى هي المصدر الأهم والأغنى لفهم هذه الحقائق، لأنها لا تعرض المفاهيم فحسب، بل تبني النفوس وتوقظ البصائر. ومن نعم الله على عباده أن جعل أبواب التوبة والعودة مفتوحة دوماً، وأن العثرات لا تخرج الإنسان من الصراط ما دام مُصرّاً على السير فيه.

وفي الختام، فإن العقيدة في الإسلام ليست قيداً بل محرراً، وليست عبئاً بل نوراً، وهي الميزان الذي يُقاس به الإنسان في دنياه وأخراه. وإذا أراد المسلم أن يحيا حياة ذات معنى، وأن يكون له أثر في الدنيا وثواب في الآخرة، فعليه أن يُعيد صلته الواعية بعقيدته، لا من باب الدفاع عنها فقط، بل من باب تفعيلها في سلوكه وواقعه، حتى يصبح من الذين ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾، أولئك هم المؤمنون حقاً، أولئك هم أبناء العقيدة الحيّة.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م