

| أحكام مجتمعية | بين البلاء والعقاب: كيف نقرأ أحداث الحياة في ضوء الإيمان؟

بين البلاء والعقاب: كيف نقرأ أحداث الحياة في ضوء الإيمان؟
الشيخ معتصم السيد أحمد
من أصعب الأسئلة التي تراود الإنسان
المؤمن حين يمر بظروف قاسية أو مشكلات عاصفة: "هل ما أمرّ به ابتلاء
يمتحن صبري وإيماني، أم أنه عقاب على ذنب أو تقصير ارتكبته؟" هذا
السؤال لا ينبع من فراغ، بل من شعور فطري بأن لحياة الإنسان معنى،
ولما يمر به من معاناة مغزى، وأنّ خلف كل حدث حكمة عليا قد تخفى
أحياناً عن بصيرتنا المحدودة. لكن كيف نميز فعلاً بين الابتلاء
والعقاب؟ وكيف نفسّر فلسفة البلاء في إطار النظرة القرآنية للوجود
والإنسان؟
أول ما ينبغي أن نؤسس عليه هذا
النقاش هو فهم موقع الإنسان في فلسفة الخلق. فبحسب التصور القرآني، لم
يُخلق الإنسان عبثاً أو سدى، بل كُلف برسالة كبرى تختصر في قوله
تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾. والعبادة هنا ليست طقوساً
محدودة أو شعائر جامدة، وإنما هي رؤية وجودية متكاملة، تجعل حياة
الإنسان في انسجام دائم مع إرادة الله. فحين يأكل أو يعمل أو يحكم أو
يصبر، يفعل ذلك على ضوء قيم مستمدة من صفات الله وكماله، فيتحول سلوكه
اليومي إلى تجلٍّ من تجليات العبودية الحرة لا العبودية
القهرية.
وانطلاقاً من هذا التصور، لا يمكن
لحياة الإنسان أن تسير على وتيرة واحدة؛ لأن الامتحان لا يتحقق في
بيئة ساكنة، ولا في واقع يخلو من التحديات. فكما لا يُختبر الطالب إلا
حين يوضع في موضع الاختيار بين الصحيح والخطأ، كذلك لا يُختبر المؤمن
إلا حين تُعرض عليه شتى صنوف الخير والشر، والرخاء والشدة، والغنى
والفقر، ليُنظر كيف يتعامل معها. هذا ما يعبّر عنه القرآن بوضوح في
قوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا
آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾، وفي قوله: ﴿وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾.
إذاً، البلاء جزء من طبيعة الحياة،
وهو أحد الأوجه التي تظهر من خلالها حكمة الله وعدله وتربيته لعباده.
لكن تبقى المشكلة في فهمنا نحن: كيف نقرأ هذه الأحداث؟ وهل نعتبرها
إشارات اختبار، أم علامات سخط وغضب؟
الجواب هنا يبدأ من ملاحظة دقيقة
جداً: إن الحدث – من حيث هو حدث – لا يختلف كثيراً بين المؤمن
والكافر، فقد يُصاب كلاهما بمرض أو فقر أو كارثة طبيعية. الفارق
الجوهري لا يكمن في طبيعة الحدث، بل في كيفية تلقيه والتعامل معه.
فالمؤمن يرى في كل محنة فرصة للترقي والاصطفاء، وامتحاناً يفتح له
أبواب الصبر والثبات والتوكل، فيترجم معاناته إلى معنى، وألمه إلى
يقين. أما الذي لا يملك إيماناً يفسّر به ما يمر به، فسرعان ما يرى في
تلك الحوادث ضرباً من العبث أو العقوبة الصرفة، ويقع فريسة للضجر
والجزع والانهيار الداخلي.
وقد لخّص النبي الأكرم محمد صلى الله
عليه وآله هذا المعنى بدقة حين قال: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله
خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له،
وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له". ففي كلا الحالين، يتفاعل المؤمن
مع ما يُبتلى به تفاعلاً إيجابياً واعياً، مما يجعله في حالة ربح
دائم، وليس خسارة.
البلاء إذن ليس دائماً عقوبة. بل قد
يكون تكريماً ورفعة. ألم يُبتلَ الأنبياء؟ ألم تمر على الأئمة
والأولياء أصعب الظروف؟ لو كان البلاء دليلاً على غضب الله، لما ابتلي
أحب خلقه إليه، بل إن البلاء، حين يقع على أهل الصلاح، قد يكون من
علامات اصطفائهم وتمحيصهم ورفعتهم في مراتب الكمال.
مع ذلك، لا يمكن أن نغفل أن بعض
البلايا قد تكون عقوبة فعلية على ذنوب ارتكبها الإنسان، وهي تأتي حين
يُعرض عن سبيل الله ويتمادى في البغي والظلم. لكن حتى هذه العقوبات لا
تأتي في الإسلام بوجه الانتقام، بل في وجه التنبيه والردع، يقول
تعالى: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير﴾. ومع
ذلك، لا يُسارع الإسلام إلى تحميل كل مصيبة مسؤولية أخلاقية مباشرة،
بل يدعو الإنسان أولاً إلى التفكر والمراجعة والتوبة، لا إلى جلد
الذات أو الانهيار.
وهنا نعود إلى السؤال الأساسي: كيف
نميز بين البلاء الذي يكون امتحاناً من الله، وبين البلاء الذي يكون
عقوبة؟ والجواب أن التمييز لا يكون من خلال طبيعة الحدث أو شدته، لأن
نفس المصيبة قد تصيب المؤمن والكافر، الصالح والطالح، وإنما يكمن
الفرق الحقيقي في أثرها على النفس واستجابة الإنسان لها؛ فإن كانت
سبباً في مراجعة الذات، والرجوع إلى الله، وزيادة الإيمان، والصبر،
والتقرب إلى الطاعة، فهي ابتلاء فيه رحمة وتزكية، أما إذا أورثت
الإنسان جزعاً ويأساً، ودفعت به إلى الاعتراض والتمرد والغفلة عن
الله، فهي عقوبة وإن لم تُسمَّ كذلك، فالعبرة ليست بالمحنة في ذاتها،
بل بما تخلّفه في القلب من يقظة أو قسوة، من قرب أو بعد عن
الله.
وبهذه الرؤية، تصبح الحياة كلها ساحة
امتحان، وتتحول كل لحظة فيها إلى فرصة للترقي أو السقوط. وليس شرطاً
أن تكون المحن فقط هي الامتحان، بل حتى النعم قد تكون أخطر أنواع
البلاء، لأنها تغري الإنسان بالركون والغفلة، يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا
الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ
فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا﴾. أي
إن معيار الإنسان في قراءة الأحداث – من حيث كونها كرامة أو إهانة –
قد يكون مغلوطاً، والله هو وحده الذي يعلم مواضع الخير وأشكال التمحيص
المناسبة لكل عبد.
كما أن هذه الرؤية التوحيدية للبلاء
تجعل من الإنسان كائناً واعياً لما يجري له، لا عبداً لظروفه، ولا
ضحية للمصادفة أو الحظ. هو مسؤول عن موقفه، عن صبره أو جزعه، عن تحمله
أو انهياره. ولذلك وعد الله الصابرين بثواب خاص: ﴿وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ قَالُوا
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، وهي كلمات تختصر كل
فلسفة البلاء: أن نرى أنفسنا وأحداث حياتنا في ضوء الانتماء لله
والرجوع إليه.
إن البلاء إذن، ليس ظاهرة سلبية
بالضرورة، بل هو إحدى الوسائل التربوية التي يعتمدها الله في تهذيب
الإنسان وتنمية إرادته وكشف جوهره، فكما يُصقل الذهب في النار، يُصقل
الإيمان في بوتقة المحن. ومن فهِم هذه الفلسفة، لن يسأل فقط: لماذا
أُبتليت؟ بل سيسأل: كيف أستجيب لهذا الابتلاء؟ وما الذي ينبغي أن
أتعلمه منه؟ وما الباب الذي فتحه الله لي من خلاله؟
وفي نهاية المطاف، فإن التمييز بين
الابتلاء والعقاب ليس هو القضية الأهم، بقدر ما أن الأهم هو: كيف
نُحوّل كل بلاء إلى فرصة قرب من الله، وكل مصيبة إلى سُلَّم رشد، وكل
محنة إلى دليل إيمان. ومن فعل ذلك، فإنه يكون من المهتدين، الذين
وعدهم الله بالرحمة والرضا، لا لأنهم لم يُبتلوا، بل لأنهم عرفوا كيف
يُبتلون.