10 ربيع الثاني 1447 هـ   2 تشرين الأول 2025 مـ 12:11 صباحاً كربلاء
سجل الايام
في هذا اليوم من عام 201 هـ توفت السيد فاطمة المعصومة بنت الإمام الكاظم (ع).
القائمة الرئيسية

 | أحكام مجتمعية |  الإيمان كوقاية من الانهيار النفسي
2025-09-24   59

الإيمان كوقاية من الانهيار النفسي


الشيخ معتصم السيد احمد
في عصر تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتزداد فيه الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، يبرز الاكتئاب كأحد أكثر التحديات النفسية التي تهدد استقرار الإنسان وسلامه الداخلي. وقد أدى هذا الانتشار الواسع للاكتئاب إلى تصاعد الأسئلة حول طرق العلاج الممكنة، بل وتجاوزها نحو التساؤل عن الدور الذي قد يلعبه الدين في الوقاية من هذا المرض أو حتى التخفيف من آثاره. فهل يمكن أن يكون للدين أثر فعلي في مواجهة الاكتئاب؟ وهل يمتلك وصفة خاصة لتجاوزه؟

للإجابة على هذا التساؤل، من المهم أولاً التفريق بين مستويين من التعاطي مع المرض النفسي: الأول هو علاج الاكتئاب كحالة سريرية، وهذا من اختصاص الطب النفسي والأطباء المختصين الذين يمتلكون الأدوات العلمية والتجريبية لتشخيص الحالة ووصف العلاج المناسب. والثاني هو معالجة الأسباب التي قد تؤدي إلى الاكتئاب قبل وقوعه أو التخفيف من وقعه النفسي من خلال تعزيز القيم والمعاني والوعي الذاتي، وهنا يظهر الدور الفاعل للدين كعامل مساعد ومكمل.

الدين لا يدّعي أنه بديل عن العلاج الطبي، ولا يُنتظر منه أن يقدم حلولاً دوائية لحالة مَرَضية قائمة بالفعل، ولكنه يُسهم بشكل عميق في بناء رؤية حياتية تجعل الإنسان أكثر قدرة على الصمود والتوازن النفسي، وبالتالي أقل عرضة للانهيار عند مواجهة الأزمات.

لفهم الدور الوقائي للدين، لا بد أولاً من الوقوف عند الأسباب النفسية التي تمهّد للإصابة بالاكتئاب، فالظروف الخارجية وحدها لا تفسر كل الحالات، بل إن الاختلاف في ردود الفعل النفسية تجاه نفس الظروف يكشف أن هناك عوامل باطنية هي الحاسمة في هذه المعاناة.

هنا تتدخل المدارس النفسية لتقديم تفسيرات متنوعة. المدرسة التحليلية التي أسسها سيغموند فرويد، على سبيل المثال، ركزت على دور اللاشعور والعقد النفسية في تشكيل الحالة النفسية للإنسان، معتبرة أن السلوك الظاهر ما هو إلا انعكاس لحالة اللاوعي وما اختزن فيه من تجارب مؤلمة ومكبوتات. وعلى الرغم من التحليل العميق الذي قدمته هذه المدرسة، إلا أنها أهملت البُعد الروحي للإنسان، واختزلته في غرائز – خصوصاً الغريزة الجنسية – مما جعل رؤيتها قاصرة عن الإحاطة الكاملة بطبيعة الإنسان.

وقد ظهرت لاحقاً مدارس أكثر شمولاً، ربطت بين العوامل الثقافية والاجتماعية والنفسية، وتوسعت في إدخال مؤثرات التربية، والبيئة، والثقافة الدينية أو الوجودية في تشخيص المشكلات النفسية. ومن بين هذه التطورات، برز اتجاه علاجي حديث يُعرف بـ"العلاج بالمعنى"، وهو يقوم على أساس أن فقدان الإنسان للمعنى في حياته هو أحد أهم أسباب الاكتئاب، وبالتالي فإن إعادة بناء المعنى، وتزويد الإنسان برؤية إيجابية للحياة، يمثل أحد سبل العلاج الأكثر فاعلية.

الدين كمصدر للمعنى والتوازن:
من هنا تتضح أهمية الدين، ليس فقط كمصدر للإيمان والعقيدة، بل كمصدر للمعنى العميق للحياة. فالدين لا يكتفي بتفسير الحياة المادية، بل يفتح أمام الإنسان أفقاً أوسع يمتد إلى ما وراء المادة والمصلحة، نحو القيم والغايات العليا، كالمغزى من الوجود، والغاية من الابتلاء، ومآل الإنسان بعد الموت.

حين يمتلك الإنسان إيماناً بأن الحياة لا تنحصر في لحظات الألم، بل تمتد إلى أفق أوسع من العدل الإلهي والثواب الأخروي، يصبح أكثر قدرة على احتمال المشاق وتجاوز الأزمات. ولهذا فإن الارتباط بالله بوصفه مصدر القدرة والرحمة، يعطي للإنسان شعوراً بالسكينة والثقة والأمان، تجعله أقل عرضة للانهيار النفسي عند التعرض للضغوط. وهذا ما تؤكده الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.

فليس من باب المجاز أن يكون ذكر الله باعثاً للطمأنينة، بل هو أثر نفسي وعقلي حقيقي، يستند إلى مبدأ التسليم والثقة والرضا.
ففي المجتمعات المادية التي اختزلت الإنسان في جسده وحاجاته الاقتصادية، تزداد نسبة الاضطرابات النفسية، لأن الإنسان حين يُعطل بُعده الروحي، يصبح بلا سند في وجه الأزمات. وإذا نظر إلى الحياة على أنها سلسلة من المصادفات الخالية من الغاية، واعتبر أن المادة هي نهاية المطاف، فستُحاصر روحه في قفص من الضيق والتوتر والتشاؤم. قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾، وهذا الضنك المعيشي لا يقتصر على البُعد الاقتصادي، بل هو ضيق النفس، وفقدان المعنى، وفقدان الأمل.

وبالمقابل، فإن الدين يعيد تعريف الحياة، ويزرع في الإنسان القدرة على تجاوز الحتميات الظاهرة، ويمنحه أدوات الصبر والمثابرة والتحدي، من خلال الإيمان بالإرادة الإلهية، والاعتقاد بأن لله حكمة في كل ما يجري، وأن وراء كل ألم رسالة، ووراء كل تأخير ابتلاء، ووراء كل مأساة فرصة للعودة إلى الذات.

يجب أن يكون واضحاً أن الدين لا يقدّم علاجاً دوائياً للاكتئاب، فهو ليس عيادة نفسية ولا بديلاً عن الطبيب المختص، ولكنه يُقدّم البيئة النفسية والفكرية والسلوكية التي تُمكن الإنسان من مواجهة الحياة بإيجابية.

إن الإنسان المتدين، الواعي بحقيقة دينه، والمتمثل لقيمه، أقل عرضة للسقوط في هوة الاكتئاب، لأنه يمتلك أدوات المقاومة النفسية، من توكل، وصبر، وأمل، ورجاء، ومغفرة، ورضا. وهذه كلها معانٍ دينية تُعادل في أثرها – بل وتتفوق في أحيان كثيرة – على جلسات العلاج الإيحائي أو الدواء.

بل إن بعض النماذج الحديثة في العلاج النفسي، بدأت تُدمج الجوانب الروحية والإيمانية ضمن خطط العلاج، فيما يُعرف بالعلاج المعرفي السلوكي المدعوم بالإيمان، أو العلاج الوجودي ذي البعد الديني، خاصة في المجتمعات التي تُشكل فيها المعتقدات الدينية جزءاً من البناء النفسي للفرد.

الخاتمة: الدين قوة صامتة في معركة النفس
في نهاية المطاف، لا يُنتظر من الدين أن يُقدّم علاجاً طبياً مباشراً للاكتئاب، ولكن يُنتظر منه أن يقي الإنسان من الوصول إلى مرحلة السقوط النفسي. ومن خلال منظومته المتكاملة من الإيمان والعقيدة، والسلوك والأخلاق، يخلق الدين شخصية متوازنة، ترى الحياة من منظور أرحب، وتُدرك أن الإنسان ليس ضحية الظروف، بل شريك في صناعة واقعه وتغيير قدره.

وبذلك، يكون الدين – وبخاصة الإسلام – رافداً قوياً في معركة الإنسان مع اكتئابه، لأنه يُضيء له الطريق حين تُطفئ الحياة مصابيحها، ويمنحه معنى حين تفقد الأشياء معناها، ويربطه بإله قادر رحيم، حين تعجز الأرض عن منحه الأمان. قال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾.

فمن أراد اتساع الصدر وسط أزمات الحياة، فليجعل لله مكاناً في قلبه، فإن الطمأنينة ليست في كثرة الأشياء، بل في حضور المعنى، وبذكر الله تطمئن القلوب.

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م