15 جمادي الاول 1447 هـ   6 تشرين الثاني 2025 مـ 6:50 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أحكام مجتمعية |  الرؤية المادية للعالم وأزمة المستقبل
2025-11-02   50

الرؤية المادية للعالم وأزمة المستقبل


الشيخ معتصم السيد أحمد
تشكل الرؤية المادية للعالم أحد أهم التحولات الفكرية في التاريخ الحديث، إذ قامت على الانفصال الكامل عن الغيب، وإحلال الإنسان محل الإله في صياغة الوجود وصناعة المستقبل. هذه الرؤية لم تكن حدثاً عابراً، بل هي ثمرة صراعٍ طويلٍ بين الكنيسة والعلم، انتهى إلى إقصاء السماء من ميدان المعرفة وإحلال التجربة والعقل الأداتي محل الوحي والإيمان. ومنذ ذلك التحول الجذري في الوعي الغربي، أصبح المستقبل مشروعاً أرضياً خالصاً تحدده المصالح والتقنيات لا القيم والمبادئ. وهنا بدأت أزمة الإنسان الحديث الذي ظن أنه حرّر نفسه من القيود، فإذا به يقع في أسرٍ جديد أكثر قسوة وعمقاً.

لقد وُلدت الرؤية المادية في رحم عصر النهضة الأوروبية، حين أُعلن أن الإنسان هو السيد الوحيد للطبيعة، وأن تقدمه مرهون بعقله لا بعلاقته بالسماء. ثم جاءت الثورة الصناعية لتُكرّس فكرة أن الزمن حركة تصاعدية دائمة نحو الإنتاج والاستهلاك، فتحول المستقبل من وعدٍ إلهي إلى إنجازٍ بشري، ومن انتظارٍ للعدل إلى سباقٍ نحو الربح. ومع القرن العشرين، بلغت هذه الفكرة ذروتها في النظريات الوضعية والماركسية والليبرالية، التي وإن اختلفت في أدواتها ومناهجها، إلا أنها اتفقت على نفي الغيب وإقصاء الدين. فماركس اعتبر أن المستقبل سيُبنى على أنقاض الصراع الطبقي ليصل إلى المجتمع الشيوعي الكامل، بينما رأى فوكوياما أن الليبرالية الديمقراطية هي نهاية التاريخ، أي أن البشرية قد بلغت ذروة تطورها وأنها لم تعد بحاجة إلى نموذج آخر. في هذا السياق، تحولت الفلسفة إلى لاهوتٍ أرضي جديد، غايته إنتاج الإنسان المادي الذي يعيش من أجل اللذة والمنفعة، لا من أجل الحقيقة والغاية.

غير أن هذا الإنسان الذي أعلن نفسه مركزاً للكون وجد نفسه سريعاً يفقد المعنى. فالتحرر من الغيب لم يقده إلى السعادة بل إلى الضياع، لأنّ الروح التي خُنقت تحت ركام المادة ظلت تصرخ في أعماقه طلباً للمعنى. صحيح أن التقنية حررته من الجهد اليدوي ومن كثيرٍ من الحاجات، لكنها سلبته الدفء الإنساني، وحولت علاقاته إلى وظائف وأدوار خالية من العاطفة. لقد استطاع العلم أن يُخضع الطبيعة، لكنه فشل في أن يُخضع النفس، وبات الإنسان غريباً عن ذاته، لا يعرف من هو ولا إلى أين يسير. ولعلّ ما قاله الفيلسوف هايدغر يلخّص المأساة حين نبّه إلى أن الخطر الحقيقي لا يكمن في القنبلة النووية بل في تحويل الإنسان إلى كائنٍ وظيفيٍ بلا روح. فالإنسان الحديث يعيش حاضراً طويلاً بلا أفق، بعد أن تحوّل المستقبل إلى مجرد تكرارٍ للحاضر بتقنياتٍ أحدث، لا يحمل في طياته وعداً ولا معنى. ومن هنا تفاقمت أزمات القلق والاكتئاب والانتحار في المجتمعات المتقدمة، لأنّ الرفاه المادي لم يُشبع الظمأ الوجودي الكامن في أعماق الإنسان.

هكذا غدا المستقبل في الوعي المادي هاجساً للخوف أكثر من كونه أملاً للتحقق. فالإنسان الذي ظن أنه يسير نحو الكمال يجد نفسه يسير نحو حافة الانقراض، سواء بفعل الحروب النووية أو الكوارث البيئية أو الانهيارات القيمية التي تهدد الأسرة والمجتمع. لقد انقلبت مقولة التقدم إلى لعنة، لأن التقدم بلا غاية أخلاقية يتحول إلى سقوطٍ في المجهول.

في مقابل ذلك، تبرز أزمة العدالة بوصفها أعمق مفارقة بين الوعي المهدوي والرؤية المادية. فبينما ينظر الفكر الإسلامي إلى العدالة كجوهرٍ للوجود الإلهي في الأرض، تراها المادية مجرد اتفاقٍ اجتماعي لحفظ المصالح وتوازن القوى. لم تنجح الحضارة الحديثة – رغم مؤسساتها الضخمة ومنظماتها الدولية – في إقامة عدالةٍ حقيقية، لأنها فصلت العدالة عن الأخلاق، وحولتها إلى معادلةٍ اقتصادية أو سياسية. في النظام الرأسمالي تُقاس العدالة بفرص السوق لا بكرامة الإنسان، وفي الأنظمة الشمولية تُقاس بالانضباط لا بالحرية، وبين هذين النموذجين ضاعت العدالة كقيمةٍ روحية سامية. أما في الرؤية المهدوية، فإن العدالة ليست مجرد نظامٍ إجرائي، بل هي تجلٍ لإرادة الله في الأرض، وعدٌ بإقامة توازنٍ شامل بين الروح والمجتمع، بين الإنسان وخالقه. فالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) حين يظهر، لا يُصلح فقط نظام الحكم، بل يُصلح الإنسان نفسه، فيطهّر النفوس من أدران الأنانية ويعيد للتاريخ وجهته الغائية، ولهذا كانت المهدوية وعداً بالعدل الإلهي الكامل الذي تعجز عنه جميع المشاريع الأرضية. قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، وهي آيةٌ تكشف أن من ينفصل عن الوحي يُحاط بالظلام مهما بلغ من قوة.

ومن أبرز تجليات هذه الأزمة المعاصرة ما يُعرف بتأليه التقنية. فقد تحولت الوسائل إلى غايات، وأصبح الإنسان يخضع لما صنعه بيديه. كانت التقنية وسيلة لخدمة الإنسان، فإذا بها تصبح سيدته التي تُعيد تشكيل وعيه وسلوكه. في عالم الذكاء الاصطناعي والخوارزميات صار الإنسان مراقباً في كل حركةٍ ونَفَس، وتحوّلت إرادته إلى بياناتٍ تُحلَّل وتُوجَّه لخدمة مصالح كبرى. لم يعد التقدم التكنولوجي مرادفاً للتقدم الإنساني، بل صار في كثير من الأحيان نزعاً للإنسانية من الإنسان. فكلما اتسع العالم الافتراضي ضاق الواقع الإنساني، وكلما تعددت وسائل التواصل ازداد الانعزال. لقد أقرّ كثير من المفكرين الغربيين بأن الحضارة الحديثة تسير نحو أزمة وجودية كبرى لأنها فقدت التوازن بين المادة والروح، وبين الوسيلة والغاية، وبين القدرة والمسؤولية.

إن التناقض بين التقدم التقني والانحدار القيمي يعكس عمق الخلل في المشروع المادي برمّته. فالعلم حين ينفصل عن الضمير يتحول إلى أداةٍ للتدمير لا للبناء. وما شهدته البشرية في الحروب العالمية من إبادةٍ ودمارٍ هو الوجه القاتم للعقل بلا إيمان. واليوم، مع تجارب العبث بالجينات وصناعة الأسلحة الذكية والروبوتات القاتلة، يبدو أن المستقبل المادي يسير نحو خطرٍ أشد، لأن الحضارة التي لا تسأل “لماذا نعيش؟” لا يمكنها أن تعرف “إلى أين نسير؟”. فالمستقبل الذي يُرسم في مختبرات التقنية بلا بوصلةٍ أخلاقية هو مستقبلٌ غامضٌ ومظلم، مهما تلألأ بإنجازاته.

في المقابل، يحمل الإسلام، ومنه الوعي المهدوي، رؤية مختلفة تماماً للمستقبل، رؤية تجعل الإنسان غاية الخلق لا وسيلته، وتجعل التقدم وسيلة لتحقيق الكمال الإنساني لا لإلغاء الإنسان. فالمستقبل في المفهوم القرآني ليس زمناً مجهولاً تُحدده المصادفات، بل هو وعدٌ إلهي يتحقق وفق سننٍ ربانيةٍ دقيقة، وعدٌ بنهاية الظلم وبداية العدل الشامل، وعدٌ بأنّ التاريخ يسير نحو غايته لا نحو عبثه.

ومن هنا، يتضح أن الأزمة التي يعيشها العالم المعاصر ليست أزمة موارد ولا أزمة علم، بل أزمة روحٍ ومعنى. فالمادة وفرت كل شيءٍ للإنسان إلا الطمأنينة، والعقل الأداتي ابتكر كل الوسائل إلا الغاية. وحين يُقصى الله عن الوجود يفقد الوجود معناه، لأن الله هو مصدر الغاية والرحمة والعدل. لذلك لا يمكن تجاوز أزمة المستقبل إلا بالعودة إلى الله وإلى الوعد الإلهي الذي يجسده الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، بوصفه المصلح الأعظم الذي يعيد للإنسان توازنه وللتاريخ وجهته.

إنّ الفارق بين المهدوية والمادية ليس مجرد خلافٍ فكري أو فلسفي، بل هو صراع بين روحين: روح تؤمن بأن للوجود هدفاً إلهياً، وروح تنكر ذلك وتغرق في عبثها. فالمهدوية تعد بمستقبلٍ تكتمل فيه إنسانية الإنسان، والمادية تعد بمستقبلٍ تتلاشى فيه الإنسانية تحت ثقل المادة. وبين هذين الطريقين يقف الإنسان اليوم أمام مفترقٍ حاسم: إما أن يواصل الركض في طريقٍ بلا غاية حتى الهلاك، وإما أن يستعيد صلته بالسماء ليجد نفسه من جديد.

وهكذا، يمكن القول إن الرؤية المادية للعالم، رغم ما حققته من إنجازات مذهلة، تعيش اليوم أزمتها الكبرى، لأنها فقدت الإيمان بالوعد وضيّعت المعنى. أما الوعي الإيماني المهدوي، فإنه يعيد إلى المستقبل روحه، ويؤكد أن العدالة ليست حلماً طوباوياً، بل وعدٌ إلهيٌّ ينتظر لحظة التحقق، لحظة عودة الإنسان إلى إنسانيته، والعالم إلى خالقه.

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م