2 جمادي الثاني 1447 هـ   23 تشرين الثاني 2025 مـ 5:04 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أحكام مجتمعية |  شبهة الحجاب المكاني: قراءة نقدية تحليلية
2025-11-18   81

شبهة الحجاب المكاني: قراءة نقدية تحليلية


الشيخ مصطفى الهجري

في خضم الجدل المعاصر حول قضايا الحجاب والستر الشرعي، برزت شبهة يروّج لها بعض الحداثيين تدّعي أن الحجاب المذكور في القرآن الكريم لا يعني غطاء الرأس أو الجسد، بل يقتصر معناه على الحاجز المكاني الذي يفصل بين الرجال والنساء. وقد اعتمد أصحاب هذه الشبهة على تفسير حرفي لبعض الآيات القرآنية، متجاهلين السياق الشامل والحكمة التشريعية العميقة. في هذه المقالة، نسلط الضوء على هذه الشبهة ونبيّن وجه الحق فيها بمنهجية علمية موضوعية.

 

يستند المشككون في دعواهم إلى آيات قرآنية محددة، منها قوله تعالى في شأن أمهات المؤمنين: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾، حيث يزعمون أن النص واضح في الإشارة إلى ساتر مادي يُنصب بين المتحدثين. كذلك يستشهدون بقوله تعالى حكاية عن نبي الله سليمان: ﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾، مشيرين إلى أن المعنى هنا يتعلق بالاختفاء خلف حاجز أو غياب الرؤية.

 

بناءً على هذا الفهم الظاهري، يخلصون إلى أن كلمة "الحجاب" في القرآن لا تحمل أي دلالة على وجوب ستر المرأة لشعرها أو بدنها، وأن الاستدلال بالآيات القرآنية على هذا الحكم محض افتراء على النص الإلهي.

 

وفي مقام الجواب نقول:

أولاً: عدم الاستدلال المباشر

 

الحقيقة الأولى التي يجب توضيحها هي أن الفقهاء عبر التاريخ الإسلامي لم يعتمدوا بشكل أساسي على آيات الحجاب المكاني لإثبات وجوب الستر الشرعي. بل استندوا إلى نصوص قرآنية أخرى صريحة وواضحة الدلالة، مثل آيات سورة النور والأحزاب التي تأمر بإدناء الجلابيب وعدم إبداء الزينة إلا ما ظهر منها. فالبنية الاستدلالية لحكم الحجاب لا تقوم على التفسير اللغوي لكلمة "حجاب" فحسب، بل على مجموعة متكاملة من الأدلة النصية والإجماعية، واليك بعض الآيات التي التس استدل بها الفقهاء على وجوب الستر: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) الأحزاب: 59، وقوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ...) النور: 31، وقوله عز من قائل: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) النور: 60.

 

ثانياً: استخلاص الحكمة التشريعية

 

إن الوقوف عند المعنى الحرفي للحجاب المكاني يمثل قصوراً منهجياً في فهم النص القرآني. فالآية الكريمة ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ تكشف عن علّة التشريع والحكمة منه، وهي تطهير القلوب من الشوائب والريبة ودفع وساوس الشيطان. هذه الحكمة الربانية لا تقتصر على حالة واحدة من حالات التواصل بين الجنسين، بل هي مبدأ عام يحكم جميع أشكال التفاعل الاجتماعي.

 

والسؤال المنطقي هنا: إذا كان الفاصل المكاني مطلوباً لتحقيق طهارة القلوب في حالة الحوار العابر، فكيف بالظهور المباشر والاختلاط المستمر؟ أليس الستر الشخصي أولى وأحرى بالوجوب لتحقيق ذات الغاية؟

 

ثالثاً: شمولية الحكم

 

القول بأن حكم الحجاب المكاني خاص بنساء النبي صلى الله عليه واله وسلم لا يستقيم مع طبيعة التشريع الإسلامي. فالحكمة المذكورة - وهي طهارة القلوب - حاجة إنسانية عامة لا تختص بفئة دون أخرى. بل إن نساء المؤمنين عموماً أكثر حاجة لهذه الحماية، إذ لم ينلن من العصمة والتربية الخاصة ما نالته أمهات المؤمنين في بيت النبوة.

 

وهنا تكمن قوة الاستدلال بالحكمة التشريعية: فالمنطق الشرعي يقتضي أن ما شُرع لحماية الأكمل والأطهر، يُشرع من باب أولى لحماية من هم دونهم في المرتبة.

 

رابعاً: التكامل التشريعي

 

الحق أن الفصل المكاني والستر الشخصي يتكاملان في تحقيق المقصد الشرعي ذاته. فكلاهما يهدف إلى صيانة المجتمع من الفتنة، وحفظ القلوب من الزلل، وإقامة علاقات إنسانية قائمة على الاحترام والطهر. والفقيه الحصيف لا يكتفي بالظاهر اللفظي، بل يغوص في أعماق النصوص ليستخرج منها الحِكَم والمقاصد الكلية.

 

الخلاصة

 

شبهة الحجاب المكاني تمثل نموذجاً للقراءة السطحية التي تتجاهل عمق التشريع الإسلامي وحكمته. فالحجاب الشرعي ثابت بنصوص صريحة ومستقلة، والاستئناس بآيات الحجاب المكاني إنما يأتي من باب التأكيد والتعضيد، لا من باب الاستدلال الأساسي. إن فهم الشريعة يتطلب النظر الشمولي الذي يجمع بين النصوص والمقاصد، ويربط بين الأحكام والحِكَم، ويستحضر السياق الكلي للرسالة الإلهية.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م