24 جمادي الاول 1447 هـ   15 تشرين الثاني 2025 مـ 7:21 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | الاقتصاد الإسلامي |  أزمة العدالة في العالم المادي
2025-11-02   94

أزمة العدالة في العالم المادي


الشيخ معتصم السيد أحمد
في عالمٍ تتنازعه القوى المادية، وتُقاس فيه القيم بمقدار المنفعة لا بمقدار الحق، تبرز العدالة بوصفها أكثر المفاهيم إشكالاً في الفكر الإنساني الحديث. فهي من جهةٍ مطلبٌ دائم للحضارات، ومن جهةٍ أخرى أكثر المبادئ التي فشلت الأنظمة المادية في تحقيقها واقعاً. فالمسافة بين شعار العدالة وممارستها الحقيقية تكاد تكون المعيار الفاصل بين الرؤية الإلهية للعالم والرؤية المادية التي نزعت عن العدالة بعدها الأخلاقي والروحي، وحولتها إلى معادلةٍ باردةٍ بين المصالح.

ينطلق الإسلام من رؤية توحيدية تجعل العدالة من أسماء الله وصفاته، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾، فهي ليست مجرد قانونٍ ينظّم العلاقات، بل هي مبدأ وجوديّ يمثل انعكاس الإرادة الإلهية في النظام الكوني والاجتماعي على حد سواء. فالعدالة عند المسلمين ليست من وضع الإنسان، بل من فطرته التي أودعها الله فيه، وهي معيارٌ لقيام السمو الأخلاقي والاجتماعي، وليست فقط لتوازن الحقوق. ومن هنا كان العدل في الإسلام طريقاً إلى التقوى، كما جاء في قوله تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾. فكل عدالةٍ لا تقود إلى تزكية النفس واستقامة الضمير، تُعدّ ناقصةً مهما بلغت من التنظيم والدقة.

أما الرؤية المادية الحديثة، فقد انطلقت من تصورٍ مغاير تماماً. فبعد أن أقصت فكرة الله من الفضاء العام، جعلت الإنسان وحده مرجع القيم ومصدر القوانين. وهكذا نشأت العدالة بوصفها "توافقاً اجتماعياً" بين قوى متصارعة، هدفها حفظ التوازن لا تحقيق الفضيلة. في الفلسفة الوضعية، تُقاس العدالة بمقدار ما تمنحه الدولة من مساواة شكلية أمام القانون، بغض النظر عن مضمون هذا القانون نفسه، بينما تُحدّد المدرسة النفعية قيمتها بمقدار ما تحققه من لذةٍ أو منفعةٍ عامة، حتى لو كان ذلك على حساب المستضعفين. وبذلك فقدت العدالة معناها الجوهري وصارت وسيلةً لضبط النظام لا لبناء الإنسان.

ومن أخطر نتائج هذا التصور أن العدالة تحولت في الحضارة الحديثة إلى أداةٍ بيد الأقوياء. ففي النظام الرأسمالي، تُترجم العدالة إلى مبدأ تكافؤ الفرص في السوق، وهو مبدأٌ يبدو جميلاً في اللفظ، لكنه في الواقع يشرّع الفوارق الطبقية، لأن التنافس لا يكون بين متكافئين في القوة أو الثروة، بل بين من يملك ومن لا يملك. وبذلك يصبح الفقير مسؤولاً عن فقره، والمحروم متهماً بالعجز، بينما تُبرّر ثروات الأقوياء باعتبارها نتيجة "العدالة الاقتصادية". وفي المقابل، فإن الأنظمة الشمولية التي رفعت شعار المساواة المطلقة، اختزلت العدالة في الانضباط والطاعة، فذابت حرية الإنسان في سلطة الدولة. وهكذا فشلت كلا المدرستين في إقامة العدالة لأنها قامت على أساس ماديٍّ لا يربط بين الحق والضمير، ولا بين القانون والأخلاق.

إنّ العدالة في الرؤية الإسلامية ليست مفهوماً قانونياً فقط، بل مبدأً توجيهياً يشمل علاقة الإنسان بربه، وبنفسه، وبغيره. فهي تبدأ من داخل النفس، لأن الظلم في حقيقته فسادٌ في الباطن قبل أن يكون انحرافاً في السلوك. ومن هنا قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: «العدل أساسٌ به قوام العالم»، فهو لا يعني مجرد الإنصاف في القضاء، بل إقامة التوازن في كل شيء: بين الفرد والمجتمع، بين العقل والغريزة، بين الحقوق والواجبات. وقد جعل الإسلام العدالة شرطاً لكل سلطة، فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ﴾، أي أن العدالة لا تقوم إلا حين تكون السلطة أداةً لخدمة الإنسان لا لاستعباده.

ولأن الإسلام يربط العدالة بالله، فقد جعلها مقياساً للإيمان، واعتبر الظلم من أعظم وجوه الكفر. يقول تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾، أي أن رسالة الله في جوهرها تقوم على هذين الركنين: الصدق في القول والعدل في الفعل. ولذا فإن العدالة ليست قيمة اجتماعية نسبية، بل حقيقة مطلقة، لأن مصدرها المطلق هو الله نفسه. وأيّ عدالةٍ تنفصل عن هذا المصدر تفقد معيارها وتتحول إلى نسبيةٍ متقلبة.

إنّ ما نشهده اليوم من اتساع الفوارق الطبقية، واستغلال الإنسان للإنسان، وتبرير الحروب لأجل المصالح الاقتصادية، ليس إلا نتيجةً طبيعيةً لفقدان البعد الإلهي في فهم العدالة. فحين تُقاس القيم بالربح والخسارة، تُلغى إنسانية الإنسان، ويصبح الحق تابعاً للقوة لا للفضيلة. وهذا ما حذّر منه القرآن الكريم حين قال: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، فالمجتمع الذي يبتعد عن ذكر الله لا بد أن يقع تحت سلطان الأهواء، ويستبدل العدالة بالهيمنة، والرحمة بالمصلحة.

وفي المقابل، تطرح الرؤية الإسلامية نموذجاً مغايراً للعدالة، يقوم على ثلاثة أبعاد متكاملة: البعد العقدي الذي يجعل الله مرجع القيم، والبعد الأخلاقي الذي يزكي النفس من دوافع الأنانية والظلم، والبعد الاجتماعي الذي ينظّم العلاقات على أساس التكافل لا التنافس. فالزكاة، والوقف، وتحريم الربا، وتوزيع الثروات، كلها ليست مجرد أحكام مالية، بل منظومة عدلية تحفظ التوازن بين الغني والفقير، وتمنع تراكم الثروة في أيدٍ محدودة كما في قوله تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾.

وهكذا، فإن العدالة في الإسلام ليست مطلباً سياسياً مؤقتاً، بل رسالة إنسانية خالدة. إنها الميزان الذي به يُعرف صلاح الأمم وفسادها، وهي الغاية التي من أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾. فغاية الدين هي إقامة القسط، أي العدالة الشاملة التي تُنصف الإنسان في دنياه وآخرته.

لقد أثبتت التجربة أن العدالة المادية، مهما بلغت من التنظيم، عاجزةٌ عن معالجة جراح الروح الإنسانية، لأنها لا ترى في الإنسان إلا جسداً ومصلحة. أما العدالة التي دعا إليها الإسلام فهي التي تجمع بين القانون والضمير، بين الحقوق والواجبات، بين الفرد والمجتمع، وتستمد قوتها من وعي الإنسان بأنه خليفة الله في الأرض. فالعدل الحقيقي لا يتحقق إلا حين يعي الإنسان مسؤوليته أمام خالقه، ويتعامل مع الآخرين بما يحب أن يُعامل به.

وهكذا يتبيّن أن الفارق الجوهري بين العدالة في الإسلام والعدالة في الفكر المادي ليس في الوسائل أو الأنظمة، بل في المنطلق الوجودي نفسه: فالإسلام يجعل العدالة مظهراً من مظاهر الألوهية في الأرض، بينما تجعلها المادية نتاجاً للضرورة الاجتماعية. ولذلك، فكلّ عدالةٍ بلا إيمانٍ بالله، هي ظلٌّ بلا جوهر، ومبنى بلا أساس. والإنسانية لا يمكن أن تستقيم على عدالةٍ منقطعةٍ عن مصدرها الأعلى، لأنّها حينئذٍ تفقد البوصلة وتغدو أسيرة الأهواء. فكما أن الكون لا يقوم إلا على نظامٍ محكمٍ من العدل الإلهي، كذلك لا يقوم المجتمع الإنساني إلا على عدالةٍ تستمد روحها من الإيمان، وتُثمر سلاماً بين الإنسان ونفسه وربه والناس جميعاً.

وفي الختام، تُظهر أزمة العدالة في العالم المادي أن الإنسان حين يستغني عن السماء، يفقد القدرة على إنصاف نفسه والآخرين. فالعقل مهما بلغ لا يستطيع أن يكون حكماً مطلقاً في غياب مرجعٍ يتجاوز حدود المصلحة. لذلك تبقى العدالة الإلهية هي الأفق الذي تستعيد فيه الإنسانية معناها، إذ لا عدل بلا حق، ولا حق بلا مرجعٍ أعلى يضمن قدسيته. إنّ المستقبل الإنساني مرهونٌ بقدرته على إعادة وصل العدالة بالقيم، والحرية بالمسؤولية، والمجتمع بالله، فهناك فقط يمكن أن يولد التوازن الذي بحثت عنه الحضارات منذ فجر التاريخ.

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م