

| السياسة في الإسلام | هل السلطة السياسية وكيلة على إيمان الناس؟
2025-06-15 164

هل السلطة السياسية وكيلة على إيمان الناس؟
الشيخ معتصم السيد أحمد
يُثار بين الفينة والأخرى سؤال في
قلب النقاشات الدينية والسياسية المعاصرة: هل تملك السلطة السياسية،
في أي دولة، صلاحية الوصاية على إيمان الأفراد؟ وهل يجوز أن تكون
الدولة، باسم الدين، حَكَماً على صدق المعتقدات أو مشروعيتها؟ هذا
السؤال لا يهم الباحثين في الفكر السياسي الإسلامي فحسب، بل يتقاطع
كذلك مع هموم الفقهاء والدعاة والمثقفين المؤمنين بالعدالة الدينية
والاجتماعية، خاصة في ظلّ ما نشهده من نماذج سلطوية دينية وغير
دينية على حدٍّ سواء.
يرى بعض منظّري الفكر العلماني أن
الجواب الواقعي عن هذا السؤال قد حُسم سلفاً من خلال التجربة
التاريخية. إذ يدّعون أن كلّ محاولة لدمج السلطة الدينية بالسلطة
السياسية تفضي حتماً إلى التسلّط، لا سيما عندما يتعلّق الأمر
بإدارة التنوّع المذهبي أو الديني. ويستدلّ هؤلاء على ذلك بأنّ
تاريخ الأديان زاخر بصراعات دامية كان وقودها إصرار بعض الفرق أو
السلطات على احتكار الحقيقة الدينية، وفرض تأويلها على الجميع. كما
يشيرون إلى أن تجارب الدمج بين السياسة والدين غالباً ما قادت إلى
تهميش الأقليات، وقمع المخالفين، وتحويل الدين إلى أداة أيديولوجية
لتكريس هيمنة الحاكم أو الجماعة الحاكمة.
يُقال في هذا السياق إنّ وجود دينٍ
قويّ إلى جوار دولةٍ قويةٍ أمرٌ غير ممكن ما لم يُفصل الدين عن
السلطة السياسية. ويذهب بعض منظّري العلمانية إلى أن التعايش السلمي
بين الأديان لا يتحقق إلا في ظلّ نظام مدني علماني، يقف على مسافة
واحدة من جميع المعتقدات، ويمنع منح أي دين أو مذهب امتيازاً
تشريعياً أو قانونياً. ويُفترض وفق هذا الطرح أن أي ارتباط بين
الدين والدولة يؤدي حتماً إلى الإقصاء أو الاستئثار.
لكن هذا الطرح، على ما فيه من
وجاهة من حيث الملاحظة التاريخية، لا يُنصف التجربة الإسلامية
بكليّتها، ولا يقدّم بديلاً مثالياً كما يدّعي. فصحيح أن التاريخ
الإسلامي – شأنه شأن معظم تواريخ الأمم – لم يكن خالياً من محاولات
الاستئثار والتسلّط باسم الدين، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ الإسلام –
كمنظومة فكرية وتشريعية – يجيز هذا النمط من الإقصاء. بل على العكس
تماماً، فإنّ المراجعة الواعية للنصوص الإسلامية تكشف عن روح منفتحة
تسمح بالتعدد، وتمنع الإكراه في الدين، وتُقرّ بأنّ لله فقط حقّ
الحساب والجزاء على الاعتقاد.
نعم، لقد كان الواقع السياسي في
كثير من الفترات يعكس هيمنة مذهب على حساب آخر، أو استغلالاً للدين
من قبل السلطة لتبرير سياساتها، كما جرى في عهد العباسيين مثلاً،
حيث تحوّل الاعتزال – في زمن المأمون والمعتصم – من مذهب فكري إلى
مشروع سياسي تَرافق مع فرض القول بخلق القرآن ومحاكمة علماء كبار
رفضوا هذا الرأي. لكن حين تغيّر ميزان القوى، وتبنّى المتوكل
العباسي مذهب أهل الحديث، انقلب على المعتزلة بنفس الأساليب التي
استخدموها من قبل. فالمشكلة – إذاً – ليست في المذهب المعتزلي أو
مذهب أهل الحديث في ذاتهما، بل في توظيف الدولة لهذه المدارس كمصادر
شرعية لتبرير احتكارها للسلطة وتقييد الحريات.
وفي المقابل، لم تختلف التجارب
العلمانية الحديثة كثيراً عن التجارب الدينية السلطوية في نمطها
الإقصائي؛ فعدد من الأنظمة التي تبنّت العلمانية في العالم
الإسلامي، بدعوى الدفاع عن الحريات والمواطنة، مارست في الواقع
نوعاً آخر من القمع، لكن هذه المرة باسم "تحييد الدين". فبدل أن
تكون العلمانية أداة لضمان حيادية الدولة كما تدعي، تحوّلت إلى غطاء
أيديولوجي لفرض نمط معيّن من الحياة العامة، لا يتسع للتعبير الديني
ولا يعترف بحقوق المتدينين في ممارسة شعائرهم. ففي تركيا اتاتورك،
على سبيل المثال، جرى التعامل مع الدين – خصوصاً الإسلام – على أنه
عائق أمام الحداثة، ففُرض حظر على الحجاب في المؤسسات الرسمية،
وأُغلقت مدارس تعليم القرآن، وتعرّض العلماء ورجال الدين لمضايقات
كثيرة، بحجة الحفاظ على الدولة المدنية. الأمر نفسه تكرر في تونس
البورقيبية، حيث سُنت قوانين تحدّ من الحضور الديني في التعليم
والإعلام، واعتُبرت المظاهر الإسلامية تهديداً للهوية
الوطنية.
وبدلاً من أن تحقّق هذه الأنظمة
نموذجاً عادلاً في التعدد والحرية، وقعت في فخّ الإقصاء باسم
العلمانية، تماماً كما وقعت بعض الأنظمة الدينية في فخ الإقصاء باسم
الشريعة. وهذا يبيّن أن جوهر المشكلة لا يكمن في الشعار المرفوع –
سواء كان دينياً أو علمانياً – بل في البنية السلطوية التي تميل
بطبيعتها إلى احتكار الفضاء العام، ومصادرة ما يخالف رؤيتها، ولو
كان سلمياً. فسواء تذرّعت الأنظمة بالدين أو بالدستور العلماني،
فإنها إذا لم تؤمن بالتعدد، ولم تحترم الحريات، ستؤول في النهاية
إلى مشروع شموليّ، يعيد إنتاج القمع وإنْ غيّر أدواته
وشعاراته.
وبالتالي، فإن المراجعة العادلة
للتجارب السياسية، سواء التي رفعت لواء الإسلام أو التي تبنّت
العلمانية، تفضي إلى نتيجة واحدة: أنّ الإشكال الحقيقي يكمن في
الإنسان الحاكم، وفي طريقة ممارسته للسلطة، لا في الدين أو المرجعية
بحد ذاتها. فحين يكون الحاكم عدلاً، ويحتكم إلى قيم الحرية والكرامة
والمواطنة المتساوية، يمكن لأي منظومة – دينية كانت أم مدنية – أن
تؤسس لتعايش مستقرّ، وتحترم خصوصيات الأفراد والجماعات. أما حين
تُوظَّف الشعارات لتبرير التسلّط، فإن النتيجة ستكون واحدة، وإن
اختلفت العناوين.
لقد أكد القرآن الكريم بوضوح على
نفي الإكراه في الدين: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، وقال تعالى:
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن
شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، وقال في موضع آخر: ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾، ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾. فهذه
الآيات لا تترك مجالاً للشك في أن وظيفة النبي، ومن ثمّ وظيفة
الدولة الإسلامية، ليست فرض الإيمان على الناس، ولا التدخل في
ضمائرهم، بل دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وترك الأمر لله في
الحساب والمجازاة.
وعلى هذا الأساس، فإنّ كل سلطة
تدّعي أنها وكيلة على إيمان الناس، أو تحتكر التفسير الشرعي، أو
تُقصي المخالفين باسم الدين، فهي سلطة لا تمثل الإسلام، وإن رفعت
رايته. بل هي سلطة شمولية تحرّف الدين لخدمة مصالحها، وتستغلّ
قدسيته لتبرير سطوتها، كما صنع الخوارج الذين كفّروا الإمام علي بن
أبي طالب عليه السلام، ثم حاربوه. ومع ذلك، لما انتهت المعركة، قال
عنهم: «إخواننا بغوا علينا، لا نمنعهم مساجدنا».
إنّ هذه العبارة القصيرة تختزل
الفارق الجوهري بين الإسلام الحقيقي وبين الاستبداد باسم الإسلام.
فالإسلام يدعو إلى التسامح حتى مع من قاتل، ما دام لم يصرّ على
الاعتداء. والمسجد، وهو رمز الهوية الدينية الكبرى، لا يجوز أن
يُمنع عنه أحدٌ من أهل القبلة، لمجرد اختلاف في التأويل أو
المذهب.
وهكذا يمكن القول إن الإسلام، من
حيث هو دين الله، لا يمنح الدولة صك الوصاية على العقول والقلوب، بل
يضعها في موقع الخدمة والرعاية لا الهيمنة والسيطرة. ولذلك فإن
الإسلام لا يتعارض مع التعدد، ولا يمنع وجود معتقدات مختلفة داخل
المجتمع الواحد، بل يعتبر ذلك جزءاً من سنن الابتلاء والتمحيص
الإلهي في حياة البشر.
إنَّ تحرير الدين من قبضة الدولة
لا يعني نفي حضور الدين في المجال العام، كما يريد بعض دعاة العلمنة
المتطرفة، ولا يعني أيضاً تسليم الدين للسلطة كي تستخدمه متى شاءت
وكيف شاءت. بل المطلوب هو إيجاد صيغة متوازنة يكون فيها الدين
مرجعاً للقيم، والدولة ضامنة للحقوق، والإنسان حرّاً في اختياره،
خاضعاً في نهاية المطاف لحكم الله لا لحكم البشر.
وبالتالي فإنّ الطريق الأمثل نحو
تعايش سلمي حقيقي لا يمر بالعلمانية المتطرفة، ولا بالأنظمة الدينية
المستبدة، بل في إقامة دولة قائمة على العدل، تستمد قيمها من الوحي،
دون أن تدّعي حق التدخل في ضمائر الناس، أو فرض لون واحد من
الإيمان. وحينها فقط يتحقق ما عجزت عن تحقيقه الأنظمة القديمة
والجديدة على حد سواء: التعدد في ظل الوحدة، والإيمان في ظل
الحرية.
الأكثر قراءة
32354
19387
14897
11613