| أفكار ونظريات | تأويل النظريات العلمية بين الحياد المعرفي والإسقاطات الأيديولوجية
تأويل النظريات العلمية بين الحياد المعرفي والإسقاطات الأيديولوجية
الشيخ مقداد الربيعي: النظريات العلمية هي نتاجٌ تراكمي لمجهودات كبيرة من البحث والتجريب والتحليل، هدفها تفسير الظواهر الطبيعية وفهم كيفية عمل الكون.
على مر العصور، قدمت هذه النظريات أسسًا لابتكارات واختراعات غيّرت حياة البشرية. ومع ذلك، ظهرت إشكالية في تأويل بعض النظريات العلمية وتوجيهها نحو دلالات معينة، حيث يسعى البعض إلى ربط هذه النظريات بمواقف فكرية أو فلسفية، مثل الإلحاد.
إن النظرية العلمية لا تُبنى لتخدم اتجاهًا فكريًا أو فلسفيًا معينًا، بل هي في جوهرها محاولة لإيجاد تفسير محايد لظواهر الكون استنادًا إلى الأدلة والتجارب.
العلوم، في صورتها المثلى، تعتمد على المنهج التجريبي الذي يتطلب الملاحظة، التجريب، والتحليل للوصول إلى استنتاجات يمكن اختبارها والتحقق منها. غير أن بعض الأفراد، سواء من داخل الأوساط العلمية أو خارجها، قد يعمدون إلى إعادة تفسير النظريات العلمية بطريقة تبرر رؤاهم الفكرية، مثل محاولة بعضهم إضفاء طابع إلحادي على النظريات المتعلقة بنشأة الكون وتطور الحياة.
من بين أكثر النظريات التي أُسيء تفسيرها بهذا الشكل هي نظرية التطور لداروين. رغم أن النظرية في جوهرها تُعنى بتفسير التغيرات البيولوجية عبر الزمن بناءً على الملاحظات الجينية والبيئية، بينما يروج آخرون لها كدليل علمي على نفي وجود خالق. ولكن، يجب أن نميز بين النظرية العلمية في صورتها التجريبية والموضوعية، وبين التأويلات الشخصية التي قد تُلصق بها لأغراض أيديولوجية.
فقد سعى الملاحدة بكل قوتهم على جعلها دليلاً على الإلحاد، مع أنها لا تدل أبداً على ذلك، فدارون نفسه لم ير تلازماً ذاتياً بين الإيمان بالتطور والإلحاد، بل صرّح أن : «وجود حاكم للكون مما دانت جموع من أعظم العقول التي وُجدت على الإطلاق» أصل الإنسان، ص131. بل صرّح في إحدى رسائله الخاصة ووصف نفسه بأنه ألوهي. سيرة تشارلز دارون ص92 ـ 93(theist)، بل صرح في معرض رده على رفيقه آسا Asa Gray بأنه لا يلزم أن تُقرأ تقريراته حول التطور قراءةً إلحادية. زيادة على ذلك هذا فرانسيس كولنز، الرئيس السابق لمشروع الجينوم البشري، يتراجع عن إلحاده فيقرأ التطور قراءة إيمانية ويعتبره آية باهرة على دقة تدبير الخالق في مخلوقاته. كتاب لغة الإله؛ وكذلك عالم الأحياء الكبير مايكل دنتن صاحب الكتاب النقدي الفذ: نظرية التطور في أزمة، ومن قبله كبير التطوريين في وقته ثيودور دوبزانسكي، وجمع غفير من التطوريين قديماً وحديثاً، رأوا في التطور - الموجّه كما ينعته البعض - سُنَّة الخالق السببية في إخراج أشكال الحياة من العدم للوجود.
وفي وسع البعض أيضاً أن يقرأ مخرجات الفيزياء قراءة إلحادية، فيدعي مثلاً أن فيزياء الكم قد ألغت السببية (هكذا جزافاً) ونقضت أصول المنطق البشري (أيضاً جزافاً) كامتناع اجتماع النقيضين وامتناع بطلان قانون الهوية، وامتناع وجود ذات واحدة في زمانين مختلفين؛ أقول : للبعض أن يقرأ مخرجات الفيزياء على هذا النحو ولكن كما قلنا في نظرية التطور من قبل نقول ههنا : فضلاً عن كون مخرجات الفيزياء الحديثة لا يلزم منها الإلحاد فإنه قد قرأها آخرون بشكل مختلف فلم يروا ما رأوا أولئك بل قرأوها قراءة إيمانية استدلوا بها على عظمة علم الله وجليل قدرته وضعف الإدراك البشري، بل ربما رأوا في دليلاً قاطعاً على صدق ما قاله إيمانويل كانت ـ وهو المؤمن بالخالق - بشأن الهوة العميقة التي تقف بين العقل وحقائق الأشياء في الخارج. بل نزيد فنقول أن ماكس بلانك، مؤسس النظرية الكمومية، كان قد صرّح بأنه: «لا بد لكل إنسان متعقل أن يعترف بالمكون الديني الذي بداخله ويسعى في تنميته لتعيش نفسه في تناغم واتزان. The Mystery of Being. P161
وللبعض أن يوظف مسألة الخير والشر توظيفاً إلحادياً فنقول أيضاً : هذا توظيف أملاه موقفك الانفعالي أو ـ تلطفاً في التعبير - طريقة نظرك للأمور، وإلا فقد وظفها آخرون توظيفاً إيمانياً فائق الجمال فرأوا في ثنائية الخير والشر، والعلاقة الجدلية بين عناصرها، أسراراً أخلاقية بعيدة الغور، ودروساً بليغة في الحكمة الإلهية، بل رأوا فيها دليلاً دامغاً على تمتعنا بإرادة أصلية لا وهمية؛ إرادة لا يتمكن بها الإنسان من نيل مراده فحسب وإنما يجترئ بها على إرادة خالقه الشرعية فيخالفها ليقدم إرادته الآثمة على إرادة ربه الخيّرة .
وربما هرع البعض إلى نبش إشكال السببية واختلال الاستدلال بظواهر عالم الشهادة على بواطن عالم الغيب، أو الحكم على الأخير بما يستخرجه الحس من الأول، وهذا أيضاً لا يلزم منه التحول للإلحاد؛ كيف وقد عبر هيوم ـ وهو حامل لواء التشكيك في السببية والأديان - على لسان فايلو في آخر كتاب الحوارات عن حاجة البشر للوحي؟!Dialogues and Natural History of Religion. P129
هذا التباين في التأويل يعكس حاجة الفرد إلى إضفاء معنًى أو تفسير يتفق مع معتقداته الشخصية، غير أن الحقيقة العلمية تظل محايدة، ولا تحمل في طياتها موقفًا فلسفيًا أو أخلاقيًا، بل الحق والانصاف ان دلالة هذه النظريات على المقولات الدينية أوضح وأكثر انسجاماً.
التعامل مع هذه النظريات العلمية بهذه الطريقة قد يكون نابعًا من سوء فهم للدور الحقيقي للعلم. العلم ليس وسيلة للإجابة عن الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى حول الغاية من الحياة أو وجود خالق، بل هو أداة تهدف إلى فهم آليات عمل الكون. هذه الآليات، حتى وإن فسّرت بعض جوانب نشأة الكون أو تطور الكائنات، تظل غير معنية بتحديد الغايات أو الأبعاد الفلسفية لهذه الظواهر.
وهنا يأتي دور البحث الفلسفي والعقلي فلكل أداة معرفية حقلها ونطاقها الخاص بها، فالعلم بمصطلح اليوم يعني ما تقتضيه التجارب والحس، وهو خاص بإثبات الأمور المادية فقط لا يتعداها لغيرها، ثم يأتي دور العقل ليجيب عن اسئلة الإنسان الكبرى (من أين والى أين وفي أين)، من دون القدرة على ذكر التفاصيل بل العقل قادر على إثبات كليات المسائل، كإثبات المبدأ والمعاد. لتصل النوبة الى الأداة المعرفية الثالثة وهي الوحي لبيان تفاصيل تلك الكبريات، وإرشاد العقل خشية وقوعه بمزالق الوهم.
الربط المتعمد بين العلم والإلحاد أو أي توجه فلسفي آخر هو نوع من التسييس للفكر العلمي. العلم يجب أن يظل في إطاره المعرفي المحايد الذي يعتمد على الأدلة والبراهين، ولا يخدم أيديولوجيات بعينها. فمن الخطأ أن نعتبر أن اكتشافات العلم تسعى إلى دعم أو هدم معتقدات شخصية. النظريات العلمية تتغير وتتطور مع مرور الزمن بناءً على الأدلة الجديدة، وهذا جزء من طبيعتها الديناميكية التي تجعلها بعيدة عن الجمود الفكري.
في النهاية، يجب أن نعي أن أي تأويل للنظريات العلمية يجب أن يتم بحذر وبعيدًا عن الإسقاطات الأيديولوجية. تبقى النظريات العلمية أدوات لفهم العالم الطبيعي، وليست وسائل لتأكيد أو نفي المعتقدات الشخصية، سواء كانت دينية أو إلحادية.
بل كيف وقد رأى آخرون أن هيوم قد جانب الصواب في التعرض للسببية بالشك والنقض وهو لا يعلم. ـ وربما كان يعلم! ـ أن ما فعله يعود على عين دعواه بالإبطال من أوجه كثيرة.
لا عذر لملحد في إلحادٍ بناه على ما سلف من قواعد وانصرم ذكره من شواهد وذاك لسبب جامع يأتي على ماسبق ونظائره مما لم أذكره، فاحفظه وتأمله حق التأمل وهو مهما كانت الهيئة التي يمكن أن نتخيلها للوجود المادي، فإنه لا دليل فيها (أي: تلك الهيئة) على عدم وجود الخالق؛ بل ما دام للوجود المادي هيئة تستحث الإدراك وتتيح نفسها للفهم بطريقة محددة، فالأصل في ميزان الخبرة البشرية أنها دالة على خالق يعلم ويفعل لا العكس؛ هذا
ما يقضي به المنطق الطبيعي، وهو المتسق تمام الاتساق مع إملاءات خبرتنا، إذ لسنا مكلفين لا قدراً ولا شرعاً، بأكثر مما به خبرتنا، فما الباعث على التنكر لها؟ ولم التعنت في إبطال دلالتها؟ حقاً الأصل في الاستصحاب بقاء ما كان على ما كان قاعدة أصولية رائعة طبقها الملحد فافترض بناء على شرطه في النظر ألا خالق حتى يكون الدليل على وجود الخالق، ونطبقها نحن فنستصحب أن هيئة الوجود معنى زائد على مجرد الوجود، وأن هذا المعنى الزائد أصل دليلنا على خالق مريد حتى يرد الدليل على انتفاء ذلك الأصل الموقف الثاني أعلم وأحكم وأسلم؛ لأن المثبت مقدّم على النافي؛ لأن المثبت معه زيادة علم؛ الله ما أروع أصولنا وقواعدنا وما أمتن ديننا!
تأذن