2 محرم 1447 هـ   28 حزيران 2025 مـ 3:01 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أفكار ونظريات |  نظرية التطور بعيون المؤمن: قراءة عقلية وإيمانية
2025-06-10   154

نظرية التطور بعيون المؤمن: قراءة عقلية وإيمانية


الشيخ مقداد الربيعي
لطالما سعى الإنسان منذ فجر وجوده إلى فهم العالم المحيط به، واستكشاف أسراره، وتفسير ظواهره. وفي هذه الرحلة المعرفية الطويلة، تشكلت ثلاث منظومات رئيسة للمعرفة: الدين، والعقل، والعلم. وقد ظن كثيرون عبر التاريخ أن هذه المنظومات متنافرة متعارضة، وأن إحداها لابد أن تزيح الأخرى لتحل محلها. غير أن التأمل العميق يكشف عن حقيقة مختلفة تماماً، وهي أن هذه المنظومات الثلاث متكاملة متناغمة، وأن كلاً منها يؤدي دوراً محورياً في مراتب مختلفة من فهم الوجود وتفسيره.

ولعل نظرية التطور تمثل نموذجاً مثالياً لاختبار هذه الفكرة. فمنذ أن قدم تشارلز داروين نظريته في أصل الأنواع عام 1859م، ثارت جدالات واسعة حول تعارضها المفترض مع الأديان السماوية. وقد اتخذ المتصارعون مواقف متطرفة: فمنهم من رفض النظرية جملة وتفصيلاً باسم الدين، ومنهم من تبنى النظرية ليعلن موت الإله والدين. والحقيقة أن كلا الفريقين قد أخطأ الفهم، ووقع في مغالطة منهجية كبرى، تتمثل في عدم إدراك تكامل مراتب العلل والأسباب.

فالعلم التجريبي، بما فيه نظرية التطور، يسعى لتفسير الظواهر الطبيعية عبر الأسباب المباشرة والعلل القريبة التي يمكن رصدها وقياسها. وهذا دور محوري لا غنى عنه لفهم آليات عمل الطبيعة. أما العقل البشري، فهو يتجاوز المحسوسات ليبحث عن العلل الوسطى والقوانين العامة التي تنتظم بها الظواهر. في حين يأتي الدين ليكشف عن علة العلل وسبب الأسباب، وهو الله سبحانه وتعالى، الذي أبدع هذا النظام البديع وأودع فيه قوانينه.

نظرية كونت والمراحل الثلاث لتطور العقل البشري
لقد قدم الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت (1798-1857م) نظرية شهيرة حول تطور العقل البشري، تقول بأن الإنسانية مرت بثلاث مراحل متتالية في تفسيرها للظواهر: المرحلة اللاهوتية، والمرحلة الميتافيزيقية، والمرحلة الوضعية العلمية. وقد رأى كونت أن هذه المراحل متعاقبة، بحيث تحل كل مرحلة محل سابقتها.
وهنا يكمن الخطأ؛ فانتهاج الغرب نهجاً إقصائياً لباقي طرق المعرفة واقتصاره على مخرجات العلم الحسي ونتائج المختبر وهو ما يعرف اليوم بـ"العلموية" أدى لهذه النتيجة.

غير أن التأمل العميق يكشف أن هذه المراحل ليست متعاقبة بل متكاملة، وأن كلاً منها تعالج مستوى مختلفاً من مستويات التفسير. فالمرحلة اللاهوتية تبحث في علة العلل وسبب الأسباب، والمرحلة الميتافيزيقية تبحث في العلل الوسطى والقوانين العامة، والمرحلة العلمية تبحث في العلل المباشرة والأسباب القريبة. ولا تعارض بين هذه المستويات الثلاثة، بل تكامل وتناغم.

وهنا يتجلى إعجاز القرآن الكريم، الذي أشار إلى هذه المستويات المختلفة من العلل قبل أربعة عشر قرناً، في سورة الواقعة: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾. فالقرآن لا ينكر الأسباب الطبيعية المباشرة للتناسل البشري، لكنه يوجه الأنظار إلى علة العلل: ﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾. وهكذا في الآيات التالية عن النبات والماء والنار، يقر القرآن بالأسباب الطبيعية، لكنه يردها إلى مسببها الأول ومبدعها الأعظم.

نظرية التطور بين العلم والدين
عندما نتأمل نظرية التطور من هذا المنظور المتكامل، تنحل الإشكالات المتوهمة، ويتضح أنها لا تتعارض مع الإيمان بالله خالقاً للكون ومبدعاً للحياة. فنظرية التطور، على تقدير صحتها، تفسر الآليات المباشرة لتنوع الكائنات الحية وتطورها عبر ملايين السنين، من خلال الانتخاب الطبيعي والطفرات الوراثية وغيرها من العوامل. لكنها لا تستطيع - ولا تدعي - أنها تفسر أصل الحياة ذاتها، أو سبب وجود هذه القوانين الدقيقة التي تحكم عملية التطور.

الإيمان بالله لا يمثل بديلاً عن التفسيرات العلمية، بل هو المفسر لقابلية الكون للتفسير أصلاً. إنه يجيب على سؤال "لماذا" بينما يجيب العلم على سؤال "كيف". وهذا ما يؤكده جون لينكس بقوله: «النقطة التي نريد هنا أن نلم بها أن الله ليس بديلًا عن العلم كتفسير، فلا يجوز أن نفهمه فقط كإله للفراغات، بل على النقيض من ذلك هو أساس جميع التفاسير، فإن وجوده هو الذي قدم إمكانية التفسير نفسها - التفسير العلمي وغيره - من المهم التأكيد على هذا الأمر؛ لأن المؤلفين المؤثرين مثل ريتشارد دوكنز سيصرون على تصور الله كبديل تفسيري للعلم وهذه فرية لا توجد في الفكر الديني بأي عمق كان لذلك يحارب دوكنز أعداء وهميين». أقوى براهين جون لينكس، جمع أحمد حسن (۲۰۸).

تتهاوى الدعوى العلموية أمام اعتراف صفوة العلماء والباحثين بقصور العلم التجريبي وعجزه عن الإجابة على كثير من الأسئلة الجوهرية التي تشغل العقل البشري. فقد استقر في الوعي العلمي المعاصر أن العلم التجريبي محدود بطبيعته ومنهجه، وأنه غير قادر على الإحاطة بكل جوانب الواقع.

وفي هذا السياق يقر برتراند رسل - الفيلسوف الإنجليزي الملحد - بقصور العلم قائلاً: «العلماء يعترفون في تواضع بوجود مناطق يجد العلم نفسه عاجزا عن الوصول إليها». الدين والعلم (۱۷۱) .
ويشير ألبرت أينشتاين إلى عجز العقل البشري عن الإحاطة بأسرار الكون رغم كل التقدم العلمي، فيقول: «العقل البشري مهما بلغ من عظمة التدريب وسمو التفكير عاجز عن الإحاطة بالكون، فنحن أشبه الأشياء بطفل دخل مكتبة كبيرة، ارتفعت كتبها حتى السقف، فغطت جدرانها، وهي مكتوبة بلغات كثيرة، فالطفل يعلم أنه لا بد أن يكون هناك شخص قد كتب تلك الكتب، ولكنه لا يعرف من كتبها، ولا كيف كانت كتابته لها، وهو لا يفهم اللغات التي كتبت بها». أينشتاين، عبد الرحمن مرحبا (١٤٥)، بواسطة قصور العلم البشري، قيس القرطاس (٩٦).
ويعبر السير جيمس جينز عن هذه المحدودية بتشبيه بليغ: «إن العلم يصطاد في بحر الواقع بنوع معين من الشباك يسمى بالمنهج العلمي، وقد يكون في البحر الذي لا يمكننا أن نسبر غوره الكثير مما تعجز شباك العلم عن اقتناصه». بساطة العلم، بيك ستانلي (۲۲۹).

يوضح بول كلارنس إبرسولد - أستاذ الطبيعة الحيوية المعاصر - الفرق بين قدرة العلم على وصف الظواهر وعجزه عن تفسير غاياتها: «تستطيع العلوم أن تمضي مظفرة في طريقها ملايين السنين مع ذلك فسوف تبقى كثير من المشكلات حول تفاصيل الذرة والكون والعقل كما هي يصل الإنسان إلى حل لها أو الإحاطة بأسرارها وقد أدرك رجال العلم أن وسائلهم وإن كانت تستطيع أن تبين لنا بشيء من الدقة والتفصيل كيف تحدث الأشياء، فإنها لا تزال عاجزة كل العجز عن أن تبين لنا لماذا تحدث الأشياء؟!
إن العلم والعقل الإنساني وحدهما لن يستطيعا أن يفسرا لنا لماذا وجدت هذه الذرات والنجوم والكواكب والحياة والإنسان بما أوتي من قدرة رائعة، وبرغم أن العلوم تستطيع أن تقدم لنا نظريات قيمة عن السديم ومولد المجرات والنجوم والذرات وغيرها من العوالم الأخرى، فإنها لا تستطيع أن تبين لنا مصدر المادة والطاقة التي استخدمت في بناء هذا الكون، أو لماذا اتخذ الكون صورته الحالية ونظامه الحالي». الله يتجلى في عصر العلم، تحرير جون كلوفر مونسيما (٤٢).

وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بأسلوب بليغ في الآيات التي ذكرناها من سورة الواقعة، حيث يوجه الأنظار إلى أن العلل الطبيعية المباشرة - مهما بلغت من الدقة والتعقيد - تظل مجرد وسائط لتحقيق مراد الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ﴾.

تكامل المعرفة في دراسة التطور
عندما ندرس نظرية التطور من منظور تكاملي، نستطيع أن نرى كيف تتضافر المنظومات المعرفية الثلاث (الدين والعقل والعلم) لتقديم فهم أعمق وأشمل للظاهرة:

العلم التجريبي: يقدم لنا الأدلة المادية على حدوث التطور، من خلال السجل الأحفوري، والأدلة الجينية المقارنة، والتشريح المقارن، والتوزيع الجغرافي للكائنات، والتطور المرصود. ويفسر آليات التطور المباشرة كالانتخاب الطبيعي والطفرات الوراثية والانجراف الجيني وغيرها.
العقل البشري: يستنبط من هذه الأدلة المادية القوانين العامة والأنماط الكلية التي تحكم عملية التطور، ويضع النظريات التفسيرية التي تربط بين الظواهر المختلفة، ويتجاوز المحسوسات إلى المعقولات.
الدين: يكشف عن الإرادة الإلهية وراء هذه العملية كلها، ويبين غاياتها ومقاصدها الكبرى، ويجيب عن الأسئلة الوجودية العميقة التي لا سبيل للعلم التجريبي إلى الإجابة عنها: لماذا وجدت الحياة أصلاً؟ ولماذا هذه القوانين بالذات وليس غيرها؟ وما غاية هذا كله؟

الانسجام بين الإيمان والتطور
إن الإيمان بالله خالقاً للكون لا يتعارض مع الإقرار بنظرية التطور كتفسير للآليات المباشرة لتنوع الكائنات الحية، بل إن فهم هذه الآليات المذهلة في دقتها وتعقيدها يزيد المؤمن إيماناً بعظمة الخالق وحكمته. فكما أن معرفتنا بقوانين الفيزياء التي تحكم حركة الأجرام السماوية لا تنفي كون الله هو خالقها ومدبرها، فكذلك معرفتنا بآليات التطور لا تنفي كون الله هو مبدع الحياة ومقدر أطوارها.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 12-14]. فهذه الآيات الكريمة تصف التطور الجنيني للإنسان عبر مراحل متعاقبة، وتنسب كل مرحلة إلى الله تعالى، مع أننا نعلم اليوم التفاصيل البيولوجية الدقيقة لهذه المراحل. فكذلك يمكن فهم التطور الكبير للكائنات الحية عبر الأزمنة الجيولوجية.

خاتمة: نحو رؤية تكاملية للوجود
إن الصراع المفترض بين الدين والعلم، وبخاصة في قضية التطور، هو في حقيقته صراع وهمي ناشئ عن فهم قاصر لطبيعة المعرفة ومراتبها. فالتناقض ليس بين الدين والعلم، بل بين تأويلات بشرية للدين وتأويلات بشرية للعلم. أما الحقائق الدينية والعلمية في ذاتها فلا يمكن أن تتناقض، لأنها جميعاً تعبر عن جوانب مختلفة من الحقيقة الواحدة.

وعندما نفهم أن كلاً من الدين والعقل والعلم له دور محدد في مراتب مختلفة من تفسير الوجود، نستطيع أن نتجاوز هذا الصراع الوهمي إلى رؤية تكاملية تنظر إلى الوجود في شموليته وتكامله. 

لقد أكد القرآن الكريم هذا المعنى في الآيات التي استشهدنا بها من سورة الواقعة، حيث يقر بالأسباب الطبيعية المباشرة للإنجاب والإنبات والمطر والنار، لكنه يردها جميعاً إلى الله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾، ﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾، ﴿أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ﴾، ﴿أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ﴾.

وهكذا، فإن نظرية التطور - على تقدير صحتها - لا تنفي وجود الله تعالى ولا دوره في خلق الكون وتدبيره، بل هي تكشف عن بعض الآليات التي اختارها سبحانه وتعالى لتحقيق مراده في خلقه. وبهذا الفهم المتكامل، نستطيع أن نقرأ كتاب الكون وكتاب الوحي قراءة واحدة متناغمة، تزيدنا علماً وإيماناً، وتعمق فهمنا لعظمة الخالق وحكمته وقدرته.


جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م