2 محرم 1447 هـ   28 حزيران 2025 مـ 3:23 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | أفكار ونظريات |  الاستقراء والإيمان: مقارنة بين طرق المعرفة
2025-06-19   102

الاستقراء والإيمان: مقارنة بين طرق المعرفة


الشيخ مقداد الربيعي
بينما المنهج العقلي البرهاني او ما يسمى بالمنهج الاستنباطي هو الأساس في الأبحاث الدينية، يُعَدُّ الاستقراء أحد أهم الأعمدة التي قام عليها الفكر العلمي الحديث، وقد ظهرت نزعة فكرية تسمى "النزعة الاستقرائية" تعتبر الاستقراء الطريقة الوحيدة الموصلة للمعرفة اليقينية. وقد ارتبطت هذه النزعة بالتيار العلموي، وأصبحت من أبرز معالم الفلسفة الوضعية التي هيمنت على الفكر العلمي لفترات طويلة.

في هذه المقالة نحاول الوقوف على طبيعة الاستقراء، وهل ينحصر طريق المعرفة اليقينية به؟

تعريف الاستقراء وتطوره التاريخي
يمكن تعريف الاستقراء بأنه «المنهج البحثي الذي يعتمد على الانتقال من عدد محدود من الحالات الخاصة إلى الكشف عن القوانين العامة». انظر: المنطق الوضعي، زكي نجيب (2/297). وقد تبلورت أهمية هذا المنهج مع بداية عصر النهضة العلمية، حيث شهد القرن السابع عشر مع فرانسيس بيكون بداية الاهتمام بالمنهج الاستقرائي، ثم تطور هذا الاهتمام ليصبح في القرن التاسع عشر رأيًا عامًا يرى أن «المنهج العلمي هو الاستقراء وحده، واستقر الرأي على أنه لا يوجد منهج يمثل الطريقة العلمية غیره». انظر: فلسفة العلم في القرن العشرين، دونالد جيلز (92 ـ 100).

الموقف المتطرف للنزعة الاستقرائية
لم يكتف أنصار النزعة الاستقرائية بتبني المنهج الاستقرائي، بل عملوا على تقديسه وجعله في مرتبة تفوق كل المناهج الأخرى، وخاصة المنهج الاستنباطي الذي كان سائدًا في العصور السابقة. وقد وصل الأمر بهم إلى اعتبار الصراع بين العلم والخرافة هو في حقيقته صراع بين منهجين. وقد عبّر برتراند رسل عن هذه الفكرة بقوله: «لم يكن الصراع بين جاليليو ومحاكم التفتيش صراعًا بين الفكر الحر والتعصب، وبين العلم والدين، بل كان صراعًا بين الاستنباط والاستقراء». فلسفة العلم في القرن العشرين، يمنى الخولي (166).

هذه النظرة المتحيزة جعلت أنصار العلموية يرون أن «الاستقراء هو الطريق الوحيد للحصول على العلم الصحيح، وادعى أتباعها أنه لا يمكن التوصل إلى القوانين والتنبؤات من المعطيات الحسية إلا عن طريق الاستقراء فقط». انظر: فلسفة العلم في القرن العشرين، دونالد جيلز (102).

رواد النزعة الاستقرائية
من أبرز الشخصيات التي تبنت النزعة الاستقرائية بشكل متطرف الفيلسوف الإنجليزي جون ستوارت مِل (توفي 1873م)، الذي «بالغ في الإعلاء من منزلة الدليل الاستقرائي حتى عده المنهج الوحيد للوصول إلى المعرفة الحقة، وأنكر استقلال كل الطرق الأخرى وأرجعها إلى الاستقراء، فليس للمعرفة الصحيحة عنده إلا طريق واحد هو الاستقراء فقط، فكل مكونات الذهن الإنساني ومحتوياته مجرد تعميمات استقرائية، ولا يستثنى من ذلك شيء البتة، حتى قوانين الرياضيات وقوانين الفكر الصورية، فهي في حقيقتها ما هي إلا تعميم ذهني عن طريق الاستقراء». انظر: تاريخ الفلسفة الحديث، وليم كلي رايت (418).

وقد سعى مِل من خلال كتابه الضخم "نسق المنطق" إلى تحقيق طموحه بأن يكون مؤسس منهج الاستقراء مثلما كان أرسطو مؤسس منهج القياس. فكما وضع أرسطو للقياس أشكالاً وضروبًا، فقد وضع مِل للاستقراء لوائح ومناهج.

الوضعية المنطقية ودفاعها عن الاستقراء
كما برز تيار الوضعية المنطقية كمدافع قوي عن النزعة الاستقرائية، حيث يقول ريتشنباخ عن منهج الاستقراء: «يحدد هذا المبدأ صدق النظريات العلمية، ومن ثم فإن استبعاده من مجال العلم إنما يعني حرمان العلم من قدرته على تحديد ما إذا كانت نظرياته صحيحة أم باطلة. ومن الواضح أنه بدون هذا المعنى لن يكون في وسع العلم التمييز بين ما تبدعه قريحة الشاعر من صور وهمية وخيالية». فلسفة العلم في القرن العشرين، دونالد جيلز (106).
ويؤكد ريتشنباخ على مكانة هذا المبدأ بقوله: «مبدأ الاستقراء هو مبدأ مقبول من قبل العلم بلا تحفظ.. وليس في وسع كائن من كان أن يتشكك في قيمة هذا المبدأ بالنسبة للحياة اليومية أيضًا». نفس المصدر (107).

نقد النزعة الاستقرائية
ظهرت عدة تيارات فكرية في القرن العشرين تبنت نقد النزعة الاستقرائية، ومن أشهر روادها كارل بوبر ودوهيم وغيرهما ممن اندرج ضمن تيار نقد العلم. وقد تمحور النقد حول عدة نقاط أساسية:

استحالة الاستقراء الخالص:
من أقوى الانتقادات الموجهة للنزعة الاستقرائية هي استحالة وجود استقراء خالص من أي تأثير للعقل الإنساني. وقد أكد أينشتاين هذه الحقيقة بقوله: «ليس العلم مجموعة من القوانين وثبتًا بالوقائع غير المترابطة فيما بينها، إنه من خلق العقل الإنساني بواسطة أفكاره وتصوراته... إن التصورات الفيزيائية مخلوقات حرة للعقل الإنساني، وليس كما يظن محددة فقط بالعالم الخارجي». مدخل جديد إلى الفلسفة، عبد الرحمن بدوي (70).

ومن أوائل من نبهوا إلى هذه الحقيقة الفيلسوف وليم هيوول (توفي 1866م)، حيث «صحبه في آخر حياته شعور جاد بأن الاستقراء لا يكفي وحده، وأدرك بجلاء أن المعرفة الإنسانية ليست محصلة التجريب فقط، وإنما هي محصلة تفاعل العقل الإنساني ومكوناته مع معطيات الحس الخارجية». فلسفة العلم في القرن العشرين، يمنى الخولي (140).

مأزق الإثبات:
ومن أعمق المشكلات التي تواجه النزعة الاستقرائية هي عجزها عن إثبات صحة الاستقراء نفسه. وقد عبر برتراند رسل عن هذا المأزق بقوله: «لن يمكننا أبدا أن نستخدم التجربة لإثبات مبدأ الاستقراء دون الوقوع في الدور، ومن ثم علينا إما أن نقبل مبدأ الاستقراء على أساس وضوحه الذاتي، أو أن نمتنع عن تقديم أي تبرير لتوقعاتنا المتعلقة بالمستقبل». فلسفة العلم في القرن العشرين، دونالد جيلز (147). 

كما يصف هانز ريتشنباخ هذا المأزق بقوله: «هذا هو المأزق الذي يقع فيه صاحب النزعة التجريبية: فإما أن يكون تجريبيا كاملا، ولا يقبل من النتائج سوى القضايا التحليلية أو القضايا المستمدة من التجربة، وعندئذ يستطيع القيام باستقراء ويتعين أن يرفض أي قضية عن المستقبل، وإما أن يقبل الاستدلال الاستقرائي، وعندئذ يكون قد قبل مبدأ غير تحليلي، ولا يمكن استخلاصه من التجربة، وبذلك يكون قد تخلى عن التجربة، وهكذا تنتهي التجريبية الكاملة إلى القول: إن معرفة المستقبل مستحيلة». نشأة الفلسفة العلمية (93).

خلاصة ونتائج
إن نقد النزعة الاستقرائية ليس هدفه إلغاء أهمية الاستقراء في البحث العلمي، وإنما تصحيح النظرة المتطرفة التي تقصر المعرفة عليه. والخلاصة التي يمكن استخلاصها من هذا النقد هي ضرورة تبني نظرة متوازنة للمنهج العلمي تجمع بين الاستقراء والاستنباط، وتعترف بتعدد مصادر المعرفة الإنسانية وتكاملها.

فالمنهج العلمي الصحيح ليس منهجًا تجريبيًّا خالصًا، وإنما يجمع بين مكونات تجريبية وأخرى غير تجريبية قائمة على الاستنباط والتأمل. وبهذا، يمكن القول إنه لا فرق بينه وبين المنهج المتبع في إثبات الوجود الإلهي والأصول الدينية الأخرى، فمنهج الاستدلال فيها أيضا يجمع بين مكونات تجريبية وأخرى قائمة على الاستنباط.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م