

| أفكار ونظريات | لماذا يفضل بعض العلماء الخيال العلمي على فكرة الخلق؟

لماذا يفضل بعض العلماء الخيال العلمي على فكرة الخلق؟
الشيخ مقداد الربيعي
في مشهد غريب من مشاهد التناقض العلمي المعاصر، نجد علماء بارزين يتقبلون تفسيرات تنتمي لأفلام الخيال العلمي أكثر من تقبلهم لفكرة وجود خالق للكون. فعالم الفيزياء الفلكية الشهير نيل ديجراس تايسون، مدير قبة هايدن السماوية، يضع احتمالية أن تكون حياتنا مجرد برنامج محاكاة حاسوبي عند 50%، بينما يضع احتمالات وجود إله عند الصفر المطلق. هذا التناقض الصارخ يكشف عن أزمة فكرية حقيقية تواجه الأوساط العلمية اليوم.
السبب الجوهري وراء هذا الانحياز يكمن في رؤية متطرفة تُعرف بـ"المادية العلمية"، وهي الاعتقاد الجازم بأن كل شيء في الوجود له سبب مادي محض، وأن ما هو غير مادي غير موجود على الإطلاق. المفارقة الكبرى هنا أن هذه الرؤية ذاتها فلسفية وليست علمية، إذ لا يمكن إثباتها بالطرق العلمية التجريبية التقليدية.
يصبح تايسون نموذجاً واضحاً للعالم الذي ينظر للعالم من خلال عدسات المادية العلمية الملونة. فاستنتاجه بإمكانية وجودنا على قرص صلب لحاسوب شخص ما يتطلب ضمنياً وجود مادة عالية الذكاء تتجاوز نطاق وجودنا، برمجته وتدير تشغيله. هذا الاحتمال ليس أكثر منطقية من احتمال وجود إله خالق، بل قد يكون أقل منطقية منه.
الفيلسوف البريطاني الملحد كولن ماكجين يلقي ضوءاً مهماً على هذه المسألة عندما يشكك في كون المادة هي كل ما في الوجود، قائلاً: "وهكذا فإن المادية موجودة في ظل خلفية من أشياء غير مادية تماماً. فلو تفحصنا الأمر سنرى أن المكان والزمان يقفان إلى جانب الله، وليس إلى جانب المادة... العلاقة بين الفيزياء والمادية هي في الواقع مثيرة للجدل تماماً؛ لذا علينا ألا نفترض أن كل ما تتعامل معه الفيزياء هو مادي بالمعنى الدقيق للكلمة" (Physics and Physicalism).
إذا كانت هناك أشياء غير مادية لكنها حقيقية، فلماذا لا يمكن أن يكون الله ضمنها بل حتى مصدرها؟ هذا التساؤل المنطقي يواجه صمتاً مريباً من أنصار المادية العلمية.
حتى في أكثر فروع الفيزياء تخصصاً - فيزياء الجسيمات - نجد ظواهر تتحدى المفهوم الضيق للمادية. فالجسيمات الافتراضية تظهر للوجود ثم تختفي منتهكة قانون حفظ الطاقة، مما يشير إلى وجود شريحة مختلفة بين الوجود المادي والعدم. إذا كانت هذه هي الشريحة بين المادي واللامادي، فهل توجد طبقات أعمق من ذلك؟
الأمر الأكثر إثارة للجدل أن كوننا نفسه يتحدى مبادئ المادية الصارمة. فقد كانت له بداية واضحة (الانفجار العظيم)، ومصدره غير مادي بوضوح. والأغرب من ذلك، أن الكون يتوسع باستمرار وكمية الطاقة المظلمة فيه تتزايد فعلياً. كيف يكون هذا ممكناً إذا كان الكون مجموعة محدودة من الأشياء المادية؟
يلخص جيرالد شرودر، عالم الفيزياء من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، هذه المعضلة بوضوح: "النظام المادي الذي نشير إليه على أنه كوننا يشمل الغير مادي. لا يمكن أن يكون مغلقاً. فبدايته بأسرها تطلبت حدثاً غير مادي، أطلق عليه الانفجار الكبير، ونسميها الخلق. دع 'القوة الخلقية' تكون مجالاً محتملاً إذا كانت فكرة الإله تزعجك، لكن عليك أن تدرك حقيقة أن غير المادي هو الذي أدى إلى ما هو مادي" (The Hidden Face of God).
هذا الاحتمال أكثر انسجاماً مع ما نعرفه عن الكون من المحاكاة الحاسوبية التي يتبناها تايسون وأمثاله.
عندما نواجه السؤال الأزلي "لماذا يوجد شيء بدلاً من لا شيء؟" الذي طرحه الفيلسوف الألماني جوتفريد لايبنيز، نجد أنفسنا أمام ثلاثة خيارات منطقية فقط:
أولاً: الصدفة العرضية - لكن حتى الصدفة تحتاج لشيء تنشأ منه، والعدم المطلق لا يمكن أن ينتج شيئاً حتى بالصدفة.
ثانياً: الضرورة - كما اقترح ستيفن هوكينغ، لكن هذا يتطلب وجود قانون سابق للضرورة، مما يوقعنا في استدلال دائري.
ثالثاً: القرار الواعي - وهو الخيار الوحيد المنطقي الذي يتطلب صانع قرار قادر على إحداث الوجود من العدم.
رغم أن العلم عاجز عن إثبات أي من هذه النظريات الثلاث كما يعترف سام هاريس قائلاً: "أي شخص نزيه فكرياً سوف يعترف بأنه لا يعرف سبب وجود الكون. العلماء، بالطبع، يعترفون بسهولة بجهلهم بشأن هذه المسألة" (Letter to a Christian Nation)، إلا أن رفض احتمال الخيار الثالث (القرار الواعي) يكشف عن تحيز لا مبرر له علمياً.
بول ديفيز، وهو عالم فيزيائي معترف به، ينتقد هذا التحيز بوضوح قائلاً: "ليس هناك شك في أن بعض العلماء يعارضون بشكل مزاجي أي شكل من أشكال الميتافيزيقيا... أنا شخصياً لا أشاركهم هذا الازدراء. على الرغم من أن العديد من النظريات الميتافيزيقية والإيمانية تبدو مفتعلة أو طفولية، إلا أنها من الواضح ليست أكثر عبثية من الاعتقاد بأن الكون موجود، وهو موجود بالشكل الذي هو عليه، بلا سبب" (The Mind of God).
خلاصة القول:
المشكلة الحقيقية ليست في العلم ذاته، بل في التحيز الفلسفي الذي يحد من آفاق البحث العلمي. عندما يقبل عالم بارز نظرية المحاكاة الحاسوبية بنسبة 50% ويرفض فكرة الخالق بنسبة 0%، فإن هذا ليس موقفاً علمياً بل موقفاً أيديولوجياً. العلم الحقيقي يتطلب الانفتاح على جميع الاحتمالات المنطقية، وليس الانحياز لما يتماشى مع قناعات فلسفية مسبقة.
إن إصرار بعض العلماء على تفسيرات من وحي الخيال العلمي، رغم عدم قابليتها للإثبات التجريبي، بينما يرفضون فكرة الخلق الأكثر انسجاماً مع المعطيات العلمية، يكشف عن أزمة منهجية حقيقية تحتاج لمراجعة جذرية.