

| دراسات | معالجة التخلف في الأمة: نحو فهم حضاري للإسلام

معالجة التخلف في الأمة: نحو فهم حضاري للإسلام
معتصم السيد
أحمد
يُعتبر التقدّم الحضاري انعكاساً مباشراً للوعي الذي تحمله المجتمعات. فالوعي التقدمي والثقافة الحية المتطلعة نحو المستقبل يسهمان في صياغة واقع سياسي واجتماعي واقتصادي متطور. وبذلك، فإن التخلف ليس سوى تجلٍ لتخلف الإنسان ذاته على مستوى الفكر والسلوك.
فالتخلف الذي تعاني منه الأمة لا يمكن النظر إليه بمعزل عن جذوره المعرفية والقيمية والثقافية، التي تشكل الإطار العام للسلوك الحضاري لأي مجتمع. فحين يكون هناك خلل في هذه الأبعاد، فإن ذلك ينعكس بشكل مباشر على نمط الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للأمة.
والإسلام، في جوهره، ليس مجرد منظومة عبادية أو مجموعة أحكام تشريعية، بل هو بناء معرفي وقيمي يهدف إلى صياغة رؤية حضارية شاملة تعزز من كرامة الإنسان وتدفعه نحو تحقيق العدل والإحسان والنمو. هذه الرسالة الحضارية للإسلام تتجلى في الجمع بين القيم الروحية والمعرفية، وبين السعي الفردي نحو تحقيق الذات والسعي الجماعي نحو بناء مجتمع متوازن ومزدهر.
ومع ذلك، فإن الارتباط المشوه للمسلمين بالإسلام على المستويات الثلاثة: المعرفية، والقيمية، والثقافية، أدى إلى غياب هذه الرسالة عن واقع الأمة. فعلى المستوى المعرفي، نجد أن المسلمين انشغلوا في الغالب بالتفاصيل العقائدية والنقاشات الفقهية الدقيقة، بعيدًا عن فلسفة الإسلام ورؤيته الكلية للحياة. غابت القيم الأساسية التي تربط بين الإيمان والعمل، وبين الدين والحياة، وبين العبادة وبناء الإنسان والمجتمع.
أما على المستوى القيمي، فقد حدث تراجع في استيعاب القيم الكبرى التي جاء بها الإسلام، مثل العدل، والحرية، والكرامة الإنسانية. تم اختزال الإسلام في مجموعة من الأحكام والطقوس، بينما تراجع دور القيم الجوهرية في توجيه السلوك الفردي والجماعي. هذا أدى إلى فصل بين ما يُمارس كدين وبين ما يعيشه الناس كواقع، مما أنتج تناقضات عميقة بين المبادئ الإسلامية المثلى وحياة المسلمين اليومية.
وعلى المستوى الثقافي، تراجعت الثقافة الإسلامية الحية التي تحمل أفقاً إنسانياً شاملاً، وأصبحت محصورة في أنماط تقليدية محدودة لا تواكب التحديات المعاصرة. بدلاً من أن تكون الثقافة الإسلامية مصدر إلهام للإبداع والتجديد، أصبحت ثقافة مقلدة تفتقر إلى الديناميكية اللازمة لمواكبة التطور. هذا التشوه الثقافي ساهم في غياب رؤية حضارية تجعل من الإسلام قوة دافعة نحو التقدم.
لذا، فإن معالجة التخلف تتطلب إعادة بناء هذه الأبعاد الثلاثة بطريقة تعيد للإسلام دوره الحضاري. يتطلب ذلك وعياً معرفياً جديداً يعيد فهم الإسلام بوصفه رؤية شاملة للحياة، وإحياءً للقيم الجوهرية التي تنظم السلوك البشري نحو الخير والعدل، وتجديداً للثقافة الإسلامية لتكون منفتحة وديناميكية ومتصلة بواقع الحياة ومتطلباتها.
من الأسباب المحورية التي أسهمت في حالة التخلف الحضاري التي تعاني منها الأمة الإسلامية، الانحراف التاريخي الذي وقع بعد انتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى. هذا الانحراف لم يكن مجرد تغيّر في شكل السلطة أو بنيتها، بل كان تحولاً جوهرياً في طبيعة العلاقة بين الدين والدولة وبين الإسلام وحياة الناس.
في المرحلة الأولى من الإسلام، كان الدين يمثل منظومة قيمية متكاملة تقوم على العدل والمساواة والحرية، باعتبارها ركائز أساسية لحياة الأفراد والمجتمعات. إلا أن التحولات السياسية التي تلت تلك الحقبة أدت إلى بروز أنظمة حكم ركزت على تثبيت سلطتها، مما انعكس على المنظومة القيمية للإسلام. فقد تم تسخير الدين كأداة لتعزيز الهيمنة السياسية، عوضاً عن تطبيقه كرسالة حضارية شاملة تهدف إلى النهوض بالمجتمع.
إحدى الوسائل التي استخدمت لتحقيق ذلك كانت اختزال الإسلام في أطر طقوسية وشعائرية، حيث ركزت على الجوانب الشكلية للعبادات مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج، مع إهمال الجوانب القيمية التي تؤكد على تحقيق العدل ومقاومة الظلم وبناء مجتمع يرسخ الكرامة الإنسانية. هذا النهج جعل الإسلام يبدو وكأنه دين يُمارس لأجل الآخرة فقط، دون ارتباط فعلي بحياة الإنسان اليومية أو مشروع حضاري يسعى إلى تحقيق التقدم.
إضافة إلى ذلك، أدى هذا التحول إلى تفريغ الإسلام من محتواه الثوري الذي يدعو لتحرير الإنسان من قيود الاستبداد والطغيان. فبدلاً من أن يكون الدين قوة دافعة للإصلاح والتغيير، تحول إلى وسيلة لضبط الشعوب والسيطرة عليها. وأصبحت المنابر والمواعظ أدوات لتعزيز الطاعة للحكام، بدلاً من كونها محفزات للتفكر والإبداع والنهوض.
هذا الانحراف التاريخي ساهم في تغييب القيم الكبرى التي يمثلها الإسلام، مثل الحرية والعدالة والمساواة، وهي القيم التي كان من شأنها أن تبني مجتمعاً متوازناً ومزدهراً لو بقيت حاضرة وفاعلة. ومع مرور الزمن، ترسخت هذه الانحرافات حتى أصبحت جزءًا من التصور السائد عن الإسلام في حياة الناس، مما أدى إلى تكريس حالة التخلف والتراجع التي تعيشها الأمة اليوم.
إعادة قراءة هذه المرحلة من التاريخ بتجرد ووعي تعد خطوة أساسية لفهم جذور التخلف. إذ لا يمكن تحقيق إصلاح حقيقي دون إدراك تأثير تلك الانحرافات التاريخية التي أفرغت الإسلام من جوهره الحضاري، وأبعدته عن غاياته الأساسية المتمثلة في بناء مجتمع يحترم كرامة الإنسان ويسعى لتحقيق نهضته.
علاوة على ذلك، أهمل الفقه التقليدي البحث في حِكم الأحكام وقيم التشريعات، مما أدى إلى غياب رؤية متجددة للفقه تستوعب حاجات الإنسان المعاصرة وطموحاته في مختلف جوانب الحياة. فبينما كان الفقه في مراحل سابقة يسعى إلى تنظيم شؤون الناس في إطار من القيم والمبادئ الإسلامية، تطور هذا الفقه ليصبح محصوراً في تفاصيل فقهية تنحصر في الأحكام الظاهرة دون تعمق في الأبعاد العميقة التي تشكل أساس هذه الأحكام. هذه النظرة الضيقة للتشريع أسهمت في ضعف قدرة الفقه على التفاعل مع التغيرات المستمرة التي يشهدها المجتمع الإنساني، سواء على الصعيد الاقتصادي، الاجتماعي، أو السياسي.
الركود الذي أصاب الفقه التقليدي تمثل في تغييبه لعناصر الإبداع والتجديد التي يجب أن تكون حاضرة في فهم النصوص الدينية وتفسيرها في ضوء مستجدات العصر. وبذلك، بات الخطاب الإسلامي المتوارث، في كثير من الأحيان، عاجزاً عن تقديم تصور حيوي وملائم للإسلام بوصفه منظومة شاملة تهدف إلى تحسين حياة الإنسان في الدنيا قبل الآخرة.
إضافة إلى ذلك، فإن الاصطفافات الداخلية والتمذهب في العالم الإسلامي قد أسهمت بشكل كبير في تعميق هذا التوجه السلبي. فقد أدى الانقسام بين المذاهب الإسلامية إلى تضييق الأفق الفكري، حيث تم تحويل الإسلام إلى محاور مذهبية متنازعة بدلاً من أن يكون مشروعاً حضارياً موحداً يتجاوز هذه الاختلافات. وبالتالي، كانت هذه الانقسامات أحد العوامل التي أدت إلى غياب الوحدة الفكرية والرؤية المشتركة التي يمكن أن تساهم في تقدم الأمة.
نتيجة لذلك، لم ينجح الخطاب الإسلامي المتوارث إلا نادراً في تقديم تفسير حيوي للإسلام يمكنه الاستجابة لتحديات العصر. بل في كثير من الأحيان، كان هذا الخطاب يعزز من الانقسام بين المسلمين ويفصل الدين عن واقعهم، مما جعل الإسلام يبدو بعيداً عن التفاعل مع متطلبات العصر ومتغيرات الحياة الحديثة.
ما تحتاجه الأمة اليوم هو إعادة صياغة الخطاب الإسلامي بشكل يتماشى مع متطلبات العصر ويعكس الفهم الصحيح والشامل للدين، بحيث يصبح تقدم الإنسان وتطويره جزءاً أساسياً من هذا الفهم. هذه الصياغة لا تقتصر على تحديث اللغة أو أسلوب الخطاب، بل تتطلب تفكيك التصورات التقليدية التي تحد من قدرة الأمة على التقدم. يجب أن نعيد النظر في القيم الدينية والتشريعية من منظور يتجاوز الجمود التاريخي والتفسير السطحي الذي قد يكون أسهم في تهميش دور الإنسان في تحقيق النهضة. كما ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار النصوص القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة في سياق عصري يعزز قدرة الأمة على مواجهة التحديات المعاصرة.
من خلال هذه الرؤية الجديدة، يجب أن تكون المسألة المركزية هي الإنسان ذاته. الإسلام في جوهره يكرم الإنسان ويمنحه مكانة رفيعة في الكون، ويُحَمِّلُه المسؤولية الكبرى تجاه نفسه ومجتمعه والعالم. إذا تم التركيز على تعزيز كرامة الإنسان في هذا الخطاب الجديد، فإن ذلك سيمكننا من إحياء القيم الحضارية التي دعا إليها الإسلام مثل العدل والمساواة والحرية والتنمية، مما يؤدي إلى النهوض بالمجتمعات نحو مستقبل أفضل وأكثر إشراقاً.
فالقيمة المحورية لهذا الخطاب هي كرامة الإنسان، يقول تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء: 70)، فالله سبحانه وتعالى يبين في هذه الآية الكريمة أن تكريم الإنسان هو جزء أساسي من خطة الخلق، وأنه قد فُضّل على كثير من المخلوقات الأخرى من أجل أن يحمل أمانة التقدم والحفاظ على الأرض. إذا تم تطبيق هذه القيمة في الفكر الإسلامي المعاصر، فإنها ستجعل الإنسان أكثر وعياً بدوره الحضاري، وستدفعه للارتقاء بواقع مجتمعه نحو البناء والإعمار.
الخلاصة
إن التخلف الذي تعاني منه الأمة ليس قدراً محتوماً، بل نتيجة فهم مشوه للإسلام الذي عُزل عن واقع الحياة. المطلوب اليوم هو خطاب إسلامي يعيد الإنسان إلى موقعه المحوري في بناء الحضارة، ويجمع بين المضمون الروحي والغايات القيمية لإسلام يليق بمستقبل الإنسانية. فالركيزة الأساسية لهذا الخطاب هي إحياء الإنسان كقيمة محورية في الإسلام، من خلال ربط المفاهيم الدينية بالواقع الحياتي والمساهمة الفاعلة في تحقيق التقدم على مختلف الأصعدة.