

| دراسات | مقايضة الروح بالذهب: نقد لسباق النجاح المادي
2025-07-02 31

مقايضة الروح بالذهب: نقد لسباق النجاح المادي
الشيخ مصطفى الأحمد الهجري
في خضم الحياة المعاصرة، يجد
الإنسان نفسه في سباق محموم وراء أهداف مادية لا تنتهي، كالعداء
الذي يطارد خط النهاية الذي يبتعد كلما اقترب منه. تتنوع هذه
الأهداف بين المال والشهرة والمكانة الاجتماعية، وتصبح بمثابة
الآلهة الجديدة التي يسجد لها الإنسان المعاصر، غافلاً عن حقيقة
أساسية: أن هذه الأهداف، مهما بدت مبهرة وجذابة، ليست سوى سراب
يتلاشى حين الوصول إليه. وقد أشار القرآن الكريم لهذه الحقيقة بقوله
تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ
يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ
سَرِيعُ الْحِسَابِ). النور: 39. فيبين حال طالب الدنيا وسعيه وراء
أهدافه التي يوصفها بأنها وهم وسراب، حتى إذا حصل عليها انكشفت له
الحقيقة ولم يجد لها القيمة التي كانت يحتسب، لكن بعد وفاة الأوان
وحلول وقت الحساب.
كما اتفقت الأبحاث النفسية
والفلسفية مع هذه الحقيقة القرآنية في أن السعي وراء الدنيا هو
الجوع الذي لا يُشبع
وقد عبر الفيلسوف الأمريكي وليم
جيمس عن ذلك بقوله: «الطموحات البشرية لا تشبع. فكلما ارتقى المرء
هدفًا، بدا هدفٌ آخر أكثر جاذبية». (James, William. The Varieties
of Religious Experience. 1902). هذه الحقيقة تكشف عن العيب الجوهري
في منطق السعي المادي: فالإنسان يجد نفسه في دوامة لا تنتهي من
المطاردة والسعي، دون أن يذوق طعم الرضا الحقيقي.
كما ان مثل هذا السعي يحول الإنسان
الى وحش كاسر يدوس كل من حوله لتحقيق غاياته وخير من يجسد هذه
النظرة الأنانية الفيلسوف فريدريك نيتشه حيث يرى أن «الإنسان القوي
هو من يستطيع تحقيق ذاته واستغلال كل ما حوله في سبيل غاياته
الشخصية». (Nietzsche, Friedrich. Thus Spoke Zarathustra.
1883).
تجربة من عالم الواقع
إن مبدأ المقارنة الاجتماعية يزيد
من حدة هذه المشكلة. فكما يوضح سام بولك، المتداول السابق في وول
ستريت، في تجربته الشخصية: «لقد انتقلت من فرحة غامرة عند حصولي على
أول مكافأة - 40 ألف دولار - إلى خيبة أمل عندما لم أتلقّ في عامي
الثاني في صندوق التحوّط سوى 1.5 مليون دولار». (بولك، سام. صحيفة
نيويورك تايمز، 2014). هذا المثال يوضح كيف أن الإنسان، مهما حقق من
مكاسب مادية، يبقى في حالة شعور بالنقص طالما أن هناك من هو أفضل
منه حالاً.
وتحذر الفيلسوفة سيمون فايل من
خطورة اعتماد النجاح الدنيوي كمعيار وحيد للسعادة، حيث تقول:
«المجتمع الذي يعتبر النجاح الدنيوي معيارًا للسعادة، هو مجتمع خالٍ
من الروح». (Weil, Simone. Gravity and Grace. Routledge, 1952).
هذا التحذير يلفت الانتباه إلى أن التركيز المفرط على الماديات يؤدي
إلى إفقار الحياة الروحية والمعنوية للإنسان.
إن الحل لا يكمن في رفض الأهداف
المادية كلياً، بل في إعادة تعريف موقعها في سلم الأولويات. يجب أن
تكون هذه الأهداف وسائل لتحقيق غايات أسمى: خدمة الآخرين، تطوير
الذات، البحث عن المعرفة، وتحقيق القيم الأخلاقية والروحية. كما
يقول ألبرت شفايتزر: «الإنسان الذي يسعى فقط إلى تحقيق أهدافٍ
دنيوية يفقد روحه في رحلته، ولا يجد السعادة التي طالما رغب فيها».
(Schweitzer, Albert. Culture and Ethics. 1923).
خاتمة: الماء الحقيقي والسراب
الكاذب
إن جعل الأهداف الدنيوية غاية
نهائية للحياة يحول الإنسان إلى عبد للماديات، يركض وراء سراب لا
ينتهي. الحكمة تكمن في إدراك أن هذه الأهداف، مهما بدت جذابة، ليست
سوى وسائل يجب أن تخدم غايات أسمى. السعادة الحقيقية تكمن في
الغايات الروحية والأخلاقية التي تمنح الحياة معنى حقيقياً، وليس في
تراكم الممتلكات أو تحقيق المكاسب المادية.
كما يخبرنا القرآن الكريم: (وما عند الله خير وأبقى) (سورة القصص، آية 60)، فالباقي الحقيقي هو ما يبنيه الإنسان من قيم وأعمال صالحة، وليس ما يجمعه من متاع زائل.
الأكثر قراءة
32532
19420
14939