19 جمادي الاول 1446 هـ   21 تشرين الثاني 2024 مـ 12:12 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | دراسات |  التربية العقلية بين الفلسفة والإسلام.. رؤية وتحليل
2021-12-26   1497

التربية العقلية بين الفلسفة والإسلام.. رؤية وتحليل

الحلقة الأولى
مدخل وتمهيد:
عند حراك الأفكار وتصادمها وتلاحقها يراجع الجذور والمنطلقات  وعند سعينا لبيان رؤية الإسلام من مطلق حضاري لا يقصي النتاج الفكري البشري نسعى إلى سلسلة تعرض نتاج كليهما ونبدأ من الجذور حتى نقطف  حلو الثمار في سلسة معرفية تبين لنا  جانبا من التربية العقلية التي هي منطلق للوصول إلى العقلانية السوية المتزنة .
في هذا الجزء نحلل المباني والأصول حيث تعد المباني في أي فلسفة من أهم الأسس التي تبنى عليها التطبيقات في مجال التنمية العقلانية للشعوب، لأنها عماد التربية ولها اثر مباشر على التعليم، و من أهم المقاربات التي يمكن عقدها بين التراكم البشري حول فلسفة التربية العقلية وأطروحة الإسلام تتمثّل في عدة جدليات: منها إمكان وعدم إمكان تنظير تربوي بمعزل عن الرؤية الميتافيزيقيا لوجود الله والحرية الإنسانية وخلود النفس، نحاول  في هذه المقالة عرض ونقد وتحليل الجدليات الفكرية بين الفلسفة العلمانية وبين ما تتبناه الفلسفة الإسلامية، وكذا الجدليات داخل المذاهب الإسلامية الكلاسيكية فيما بينها وجدلية التراث مع الحداثة حول نظريات التربية العقلانية بغية تقصي مقاربات تجمعهم كخطوة للوصول لنظام تربوي عقلاني يؤدي إلى تعايش سلمية قائم على احترام ثقافة وفلسفة كل إنسان دون تسييل الفلسفات على بعضها لصنع خليط غير متجانس مما تصبوا اليه بعض التطبيقات الفلسفية المعاصرة، بهدف الغزو الثقافي الذي يختبئ وراء مسميات رفيعة النظام الموحد في التعليم. 

مباني التربية العقلية في الفلسفات الغربية وتحليلها
إن فكرة التربية العقلية لم تكن بحثا مستحدثا إنما يعود إلى العصر اليوناني، ولكن هناك بعض المفارقات في الاطروحات فالبعض يسلم بضرورة وجود محرك ديني أو ما وراء المادة هو الذي يشكل الدافعية للتفكير العقلي الفلسفي الذي يترتب عليه اثر سلوك أخلاقي ومنهم من لا يعتقد بذلك فأرسطو (383- 322 ق. م) مثلا استبعد أي أساس ميتافيزيقي أو ديني لفلسفة أخلاقية ( )، خلافًا لسقراط (469- 399 ق. م) وأفلاطون (427- 347 ق. م) الذينِ كانا يقيمان فلسفتهما الأخلاقية على أساس ميتافيزيقي، وان نقطة المفارقة بين أرسطو وكانط هو التنظير والتطبيق فأرسطو يرى ان النظرية قابلة للتبديل والتعديل إثناء التطبيق بينما يذهب كانط إلى أن النظرية تتكفل بتنظيم التطبيق وتتحكم به؛ وعليه يجب تأسيس نظرية الأخلاق قبل تطبيقها.. لنستقرئ نماذج من التيارات الفلسفية الغربية المتفرعة من هذه الجذور وتحليل مبانيها ونقدها وفقا لهذه المفارقات:
1. مباني الفلسفة المثالية:
هذا الاتجاه الفلسفي من ثمار فلسفة افلاطون القائلة بوجود عالم المثل ثُمَّ طوره الألماني عمانوئيل كانط (1724- 1804م) المؤمن باثر عالم المثل على العقل العملي، وقد أكد على عدم امكان بناء فلسفة أخلاقية بمعزل عن الميتافيزيقيا وفلسفته الـ (ميتا أخلاقية) تؤمن بعدم امكان ضمان نتائج التربية والوصول للكمال بمعزل عن الإيمان بوجود مبدأ الخيّر المطلق وهو الله ويستدل بوجود مؤمنين تحملوا صعوبة الحياة الفاضلة باختيارهم نتيجة ادراكهم لوجود الكمال المطلق السائرون باتجاهه ويرون هذا امتثال متفرع من قاعدة اللزامية الأخلاق لأن في مرد الروح إلى الباري تعالى سوف تصل إلى كمالها الذي أنشاها لأجله وجعلها تكابد في عالم الحس.
ومن أهم مباني هذا الاتجاه، إرجاع الوجود برمته إلى الفكر بالمعنى الأشمل لهذا المصطلح وتختزل الحقيقة في ذلك، أيديولوجية مبتنية على العقل وسلطته، تؤمن بالروح وتقلل من دور المادة، ويتفق اتباعها على أن وجود الأشياء فرع القوى التي تدركها، واستحالت وجودها في عالم الحس بدون وجودها في المثل وعالم الافكار كما يبين ذلك العلامة مصباح اليزدي في مقارنته للأيديولوجيات ( ).
ابرز ممثلي لهذه الفلسفة باركلي وكانط وديكارت وهيجل وانقسمت الآراء عبر الزمن إلى مدارس متعددة مثل الذاتية والسيكولوجية والنقدية والمطلقة واخرها الديمومة المؤمنة بديمومة الروح وتمقت قيم العلمانية التي افرزتها الثورة الصناعية وقيم الماركسية وتناقض فلسفتها، وأهم مبانيها: 
1. الله أو (العقل المطلق) بتعبيرهم هو خالق الحقيقة والافكار وهو اساس المعرفة. 
2. وجود حقيقة وراء عالم الحس أو الحواس تسمى عالم الافكار أو عالم المثل، وهو عبارة عن نماذج خالدة لا تتغير وهي الاصل في كافة الحوادث الموجودة في الطبيعة. 
3. وجود النفس المدركة في عالم المثل قبل ان تسكن الجسد في عالم المادة.
4. التربية عملية ثابتة والمنهج مشتق من مفاهيم اليونان القدماء حول حرية الانسان.
5. تقديم العقل وتعظيمه واهمال الحواس وتركز على تدريبات العقل وتنمية الروح. 
6. الحفاظ على طبيعة الانسان وقدرته على التفكير وادراك المثاليات واخراج انسان حكيم.
7. انشقت الفلسفة المثالية إلى مدرستين تبع لتصوراتها عن الانسان: المدرسة الأولى تؤمن بالإنسان جسما وعقل وهو اسمى ما فيه ولذا يجب تربيته وتدريبه وتؤمن الثانية بان الانسان عقل وجسم والروح هي اسمى ما فيه ولذا يجب تربيتها وتهذيبها.

2. مباني الفلسفة الواقعية 
العالم المادي الواقعي هو منطلق الاتجاه الارسطي وعليه تبنى مباني فلسفته التربوية بمعزل عن الميتافيزيقية، يستهدف الفعل الجزئي وتحققه الخارجي ولا يعير البعد الكلي اهتماما، تبع ارسطو كثيرين تبنوا الفصل بين "الله، الحرية والاختيار، خلود النفس" امنوا بفطرية الافكار وقابليتها على التكامل والارتقاء واكدوا على اهمية الحواس إلى جانب العقل، انحدرت هذه الفلسفة من ارسطوا عبر توماس الاكوني وتداولت عبر الزمن بيد الفلاسفة مثل "فرانسيس بيكون وجون لوك وملتون ورتشاد مولكاستر ومايكل دي مونتي وبراند رسل والفرد نورت وايتهد" وافرزت خط فلسفيا ينطلق من هدفين رئيسين هما دور التربية في نقل التراث الثقافي والتركيز على قيم المجتمع وقادته والثاني التدريب العقلي مع عدم اغفال الصحة النفسية والجسدية والكفاءة المهنية وممارسة الهوايات.
تبلورت الواقعية في كنف الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وانتشرت وانقسمت إلى ثلاثة اتجاهات وتعددت مبانيها: 
أ) الاتجاه الأول يؤمن ان العقل والمادة مخلوقان من خلق الإله يعملان بانتظام.
ب) الاتجاه الثاني لا يرى ضرورة لتفسير الكون بانه خلق الإلهي ويفصل بين الكون والإله تماما.
ج) اتفقت هذه الاتجاهات على ان الوجود الحقيقي هو الواقع المادي ولكنها اختلفت في مصدر هذا الوجود.
د) اهتمت باستكشاف قوانين الطبيعة التي تحكم المادة والمخلوقات العضوية واكتشاف التوافق بين مظاهر الوجودوالتوئمة بين المواد العلمية والانسانية وتبنت المنهج الرياضي والمنطقي( ). 

3. الفلسفة البرجماتية

جذور هذه الفلسفة يعود إلى هيرقليطس الذي انبثقت منه فلسفة الأضداد وافرزت الجدلية الماركسية، ابرز اعلام البراغماتية هم "شارلس بيرسي "وهو مستحدث لفظ البراغماتية و"جون ديو ووليم جيمس"، وتستند هذه الفلسفة إلى مدونات "شارل دارون" واما مبانيها: 
أ) الايمان بالتغير والتطور المستمر وا لتركيز على تسخير الطبيعة لخدمة الانسان.
ب) الافكار تابعة للعمل وثبوت صحتها يعود لنجاح تطبيقها في الممارسة.
ج) ليس للعقل موقع ولا وجود الا للمخ وعملياته. 
د) القيم وجودها رهينة نفعها للإنسان فاذا لم تنفعه فلا وجود لها.
هـ) الثقافة والفن والاخلاق والحقائق أمور نسبة متغيرة ومتطورة حسب الزمان والمكان. 
و) تركز على طريقة التعليم بدل التركيز على المنهج  وتدور حول رغبات التلميذ. 
ز) دور المعلم هو تدريب الطالب على التفاعل مع البيئة وبناء خبراته من التجربة. 
الانسان في الفلسفة البراغماتية يبني عالمه من خلال التفاعل الاجتماعي البيولوجي مع البيئة واعادة تنظيم الخبرات المستمر، افرزت البراجماتية مدارس معاصره هي التقدمية والتجديدية( ).

4. نقد الفسفات الغربية 
أ) نقد المثالية والواقعية
احتدم الصراع بين الفلسفات التربوية الثلاثة وتراشق انصارها تسفيه مفاهيم الفلسفات المقابلة. فلقد انبرى جون ديوي بوصف المثالية والواقعية بانهما يقدمان تربية تقليدية روتينية لا تنمي الخبرة وتعيش في الماضي وتفصل بين العقل والخبرة الجسدية، وتعد هذه الثنائية من اسوء انواع التربية، ويمكن خلاصة ما يرد على الفلسفة المثالية من نقد في انها تدعوا إلى الكسل والخمول الجسدي وان استبعادها للخبرة ادى إلى جمودها وانحسارها وانها غير ديمقراطية وتناقض بين الفكر والتطبيق وتعيق تقدم الفرد والمجتمع بتركيزها على النخبة منهم فقط وجمودها على الماضي ومنحه صفة الدوام والإلزام.
واما ما يرد  من الانتقادات التي وجهت إلى الفلسفة الواقعية فتأثر مبادئها بالآراء الشخصية وتركز على اعداد نخبة من المثقفين للقيادة المؤسسات وعدم تقديم برنامج ديمقراطي وثبات مفاهيمها وعدم تطورها وتركيزها على التربية العقلية دون التربية الجسدية واهمال حاجات المتعلم ومتطلبات البيئة( ).
ب) نقد الفلسفات الحديثة 
قام اتباع الفلسفة المثالية برد الهجوم الذي طالهم من مناؤيهم واصدر"هيرمان هارل هورن" كتاب نشره عام 1910 رد فيه على جون ديوي وكتاب اخر اسماه "فلسفة التربية" صدر عام 1927.
وشارك في هذا المعترك ممثلوا الواقعية، فقد الف "فريدريك بريد" كتاب صرح فيه بتفوق الواقعية على البراجماتية وكذا كتب "الفرد نورث وايتهد "كتاب "أهداف التربية" الذي اصدره عام 1929ينقد البراجماتية فيه، من ابرز الانتقادات على البراغماتية والتقدمية ما يلي:
1. تفتقر البراغماتية التقدمية إلى الهدفية اذ إنها أولت اهتماما مبالغ فيه برغبات الناشئة وشغلتهم بالنشاط الاجتماعي بغيت تحقيق التكيف واهملت الدراسة الجادة العقلية والاكاديمية وحولت المدرس إلى قاعة تدريب اشبه بالسرك يقلد فيه الناشئة قادتهم. 
2. تركز الفلسفات التقدمية الحديثة على منح فرص اكثر لذوي الشهادات وان كان محصول عليها بدون تفوق. 
3. "الحقيقة" في الفكر التقدمي صنيعة الانسان فلا تحتاج للكشف ومنحصرة بالخبرة والتدريب.
4. نزلت مفهوم العقل من مستوى التفكير والعقلانية إلى مستوى الذكاء لتدبير امور المعاش.
5. قللت من شأن القيم الاخلاقية والجمالية لدرجة جعلها نسبية وغير صادقة. 
6. اجحاف دور المعلم واختزاله في التوجيه فقط واعطاء الاهمية القصوى للطفل. 
ج) خلاصة ونتيجة
اغلب الفلسفات الحديثة الغربية تعاني خلل في تنظيم المباني الانسانية وفي تامين احتياجات الانسان ببعديه الروحي والمادي، فالمثالية متنكرة للمادة ومكتفية بالحاجات العلوية والواقعية تنصلت من تلبية الحاجة المعنوية وارادة تعويضها بالمادية وتقلبت البراجماتية وتذبذبت بين الاتجاهين حسب الزمان والمكان، لذلك انحسرت هذه الفلسفات نحو الابقاء على النوع البشري فحسب دون الالتفات إلى رقيه النوعي الذي يوصله إلى كماله الذي هو غاية وجوده وانعكس النقص في الغاية على الوسائل المعرفية والتطبيقية واقتصرت على منج العقل والحواس وغياب الوحي نتج عنه رؤية ضبابية مشوشة حول علاقة الانسان اذ لا يمكن للحواس اختراق عالم الغيب والانباء عنه وكذلك لا تكشف ما في النفوس.


الدكتورة مواهب الخطيب

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م