| شخصيات إسلامية | الإمام محمد الجواد عليه السلام... سليل النبوة
2022-07-17 1584
الإمام محمد الجواد عليه السلام... سليل النبوة
إن حياة أهل البيت عليهم السلام في
تاريخ الأمة تفيض بالعطاء وتشع بالعلم والأدب، وشخصياتهم وسلوكهم
قدوة في الأخلاق الفاضلة والصفات العظيمة، فهم أعلم الخلق وأفضلهم
وأورعهم وأفقههم لم يأخذوا العلم من أحد سوى من بعضهم (ذرية بعضها
من بعض).
وكل واحد منهم عليهم السلام هو مدرسة إلهية جمع صفات الكمال واجتمعت فيه علوم الأولين والآخرين، ورغم أن بعضهم كان قد تولى منصب الإمامة بعمر صغير جداً لا يتعدى السبع سنوات، لكن دوره الذي أداه والعلم الذي أظهره ـ وهو في هذا السن ـ قد أذهل العقول وحير الألباب فأذعن له العلماء والفقهاء والفلاسفة كما في مناظرة الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام مع يحيى بن أكثم قاضي قضاة المأمون العباسي.
سؤال... وفشل السائل
لما عزم المأمون على تزويج الإمام الجواد من ابنته أم الفضل غاظ ذلك العباسيين واعترضوا لصغر سن الإمام وقالوا أتزوج ابنتك وقرة عينك صبيا لم يتفقه في دين الله، ولا يعرف حلاله من حرامه، ولا فرضا من سنة؟ فلو صبرت له حتى يتأدب ويقرأ القرآن ويعرف الحلال من الحرام
وكان عمر الإمام آنذاك تسع سنوات فقال لهم المأمون إنه لأفقه منكم وأعلم بالله ورسوله وسنته وأحكامه وأقرأ لكتاب الله منكم وأعلم بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وظاهره وباطنه وخاصه وعامه وتنزيله وتأويله منكم.
وفي الحقيقة لم يكن قول المأمون هذا إلا لمكيدة كان قد حاكها للإمام، وعندما طلب منه العباسيون اللجوء إلى المناظرة وافق على ذلك فاختاروا يحيى بن أكثم قاضي القضاة وعقد المجلس للمناظرة، فاستأذن ابن أكثم في الكلام من المأمون فقال له المأمون استأذن أبا جعفر في ذلك فاستأذنه فقال له عليه السلام سل إن شئت
فقال يحيى يا ابا جعفر أصلحك الله، ما تقول في مُحرم قتل صيداً؟
فقال الإمام الجواد عليه السلام قتله في حل أو حرم؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟ قتله عمداُ أو خطأً؟ حراً، كان المحرم أم عبداُ؟ صغيراُ كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كباره؟ مُصرَّاً على ما فعل أو نادماُ؟ في الليل كان قتله للصيد أم في النهار؟ محرماُ كان بالعمرة اذ قتله أو بالحج كان محرماُ؟
نزل هذا الجواب على أسماع الحضور كالصاعقة، فلم يكن أحد منهم يتوقع مثل هذا الجواب، فقد أراد الإمام أن يؤكد لهم أنه وريث العلم النبوي وكل ما جاء به صلوات الله عليه وآله عنده كما قال رسول الله ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، كان هذا الجواب بمثابة الفصل الذي قطع لسان يحيى وغيره فلم يتجرأ على سؤال الإمام عليه السلام ثانية وخاف من جواب أشد عليه من هذا الجواب فتكون نتيجته على سمعته قاسية وربما لا تحمد عقباها.
لقد لاحت علائم الهزيمة على وجه يحيى، وتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه وهو يرى العباسيين ينظرون إليه وقد عقدوا عليه آمالهم التي خابت ودهش بقية الحاضرين من جواب الإمام وسعة علمه فصاح المأمون وقد تصنع نشوة الانتصار الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم نظر إلى العباسيين وقال أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثم قال للإمام عليه السلام أنا مزوّجك ابنتي أم الفضل، فتم التزويج.
الجواب المفحم
لما تمت مراسيم الزواج وجلس الناس في أماكنهم قال المأمون للإمام إن رأيت ـ جعلت فداك ـ أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه ونستفيده، فقال الإمام عليه السلام
إن المحرم إذا قتل صيداً في الحلّ وكان الصيد من ذوات الطير، وكان من كبارها فعليه شاة، فإن كان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، واذا قتل فرخاً في الحلِّ فعليه حمل قد فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحجّ نحره بمنىً، وإن كان إحرامه للعمرة نحره بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد عليه المأثم، وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفّارة على الحُرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه، وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة.
ذهل الحاضرون لهذا الجواب فأنى ليحيى بن أكثم وغيره من هذه العلم؟ ورغم أن المأمون كان يتميز من الغيظ إلا أنه قال مرغماً أحسنت يا أبا جعفر أحسن الله إليك، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألةٍ كما سألك.
سؤال الإمام وعجز الخصم
فقال الإمام عليه السلام أبو جعفر ليحيى أسألك؟ قال ذلك إليك، فإن عرفتُ جوابَ ما تسألني عني وإلاَّ استفدتُه منك.
فقال أبو جعفر عليه السلام أخبرني عن رجلٍ نظر إلى امرأةٍ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار حُلّت له، فلما زالت الشمس حَرُمت عليه، فلما كان وقت العصر حُلّت له، فلما غربت الشمس حَرُمت عليه، فلما دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلما كان انتصافُ الليل حَرُمَت عليه، فلما طلع الفجر حلّت له، ما حالُ هذه المرأة، وبماذا حلّت له وحرُمت عليه؟
لقد سقط يحيى في الامتحان ثانية وهذه المرة ليست بأقل صدمة له من الأولى فلم ير إلا الرضوخ للإمام وسؤاله سؤال التلميذ إلى المعلم فقال له لا والله ما أهتدي إلى جواب هذه المسألة، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تُفيدناه.
فقال له الإمام عليه السلام هذه أمَةٌ لرجلٍ من الناس، نظر إليها أجنبيٌّ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلما كان الظهر أعتقها فَحَرُمَت عليه، فلما كان وقتُ العصر تزوّجها فحلّت له، فلما كان وقتُ المغرب ظاهر منها فَحرُمت عليه، فلما كان وقتُ العشاء الآخرة كفّر عن الظِهار فحلّت له، فلما كان نصف الليل طلّقها واحدةً فَحَرُمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلّت له.
نفاق المأمون
ساد المجلس السكون كأن على رؤوسهم الطير والإمام يبين من الأحكام ما جهله العلماء والفقهاء وعلى رأسهم قاضي القضاة وما إن انتهى الإمام من كلامه حتى قال المأمون موجها كلامه إلى العباسيين هل فيكم أحدٌ يجيب عن هذه المسألة بمثلِ هذا الجواب أو يعرفُ القول فيما تقدّم من السؤال؟
لم يستطيعوا إلا الاذعان فقالوا بأجمعهم لا والله، إنك أعلمُ وما رأى.
فقال لهم وهو يحاول أن يكون بموقف الموالي لأهل البيت والعارف بحقهم أمام الملأ ويحكم إن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين عليه السلام وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام وحكم له به، ولم يدع أحدا في سنه غيره، وبايع الحسن والحسين عليهما السلام وهما ابنا دون الست سنين، ولم يبايع صبيا غيرهما، أو لا تعلمون ما اختص الله به هؤلاء القوم؟ وإنهم ذرية بعضها من بعض يجري آخرهم ما يجري لأولهم.
فقالوا بأجمعهم صدقت ونهضوا وانصرفوا وهم يجرون أذيال الخيبة والخسران. لكن الخاسر الأكبر في هذه المناظرة هو المأمون نفسه لأن هزيمة يحيى تعني هزيمته لأن يحيى هو الممثل للسلطة العباسية، كما تعتبر غلبة الإمام على خصمه في المناظرة وهو بسن تسع سنوات انتصار لمبدأ النص على أهل البيت من الله.
ولكن المأمون لا يستطيع أمام ما رآه من علم الإمام إلا الاعتراف بعلم الإمام، ونحن هنا نثبت كلمته لأنه أرغم على قول الحق رغم عداوته للإمام وأهل البيت عليهم السلام لأنه رأى من الإمام ما لا يمكن أن يجحد أو ينكر من الفضل والعلم وهذا القول وغيره من الأقوال له بحق الإمام تحسب كإفادات ضده في صحف التأريخ لأنه عمل بخلاف ما قال وأضمر خلاف ما أظهر فقد سوّد صحيفته بقتل الإمام الرضا عليه السلام ومهد لقتل الإمام الجواد بتزويجه من ابنته على يد أخيه المعتصم.
مع ابن أبي دؤاد
بعد أن تزوج الإمام من ابنة المأمون رجع إلى المدينة المنورة فأمضى خمس عشرة سنة من حياته الشريفة في عهد المأمون حتى مات المأمون سنة 218هـ ولما تولى بعده المعتصم الخلافة استدعى الإمام من المدينة إلى بغداد لنفس الغرض الذي استدعاه المأمون وهو مراقبته عن كثب والتضييق عليه وكان عمره الشريف عند استقدامه إلى بغداد ثلاث وعشرون سنة ولم يطل بقاؤه عليه السلام في بغداد سوى سنتين حتى دس إليه المعتصم السم عن طريق أم الفضل ابنة المأمون فمات منه وكان سبب قتله على ابن أبي دؤاد بالسم تحامل قاضي المعتصم ابن أبي دؤاد على الإمام وتحريض المعتصم على قتله لما أفحمه الإمام في قضية السارق بأدلته الساطعة من القرآن الكريم والحديث الشريف كما أفحم يحيى بن أكثم من قبل ولكن تبعات هذه المناظرة كانت شديدة الوطء على ابن أبي دؤاد فحقد كثيرا على الإمام وأضمر له الشر وحرض المعتصم على قتله لأنه أبطل قوله في الحكم أمام المعتصم وهذه المناظرة كما روتها المصادر هي عن زرقان صاحب ابن دؤاد وهي باختصار
أن ابن أبي دؤاد رجع ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتم فلما سأله زرقان عن سبب غمه وغضبه قال له وددت اليوم أني قد متُّ منذ عشرين سنة، دهش زرقان وهو يحاول أن يستجلي الأمر فسأله عن سبب ذلك فقال له ابن أبي دؤاد لما كان من أبي جعفر محمد بن علي بن موسى اليوم بين يدي المعتصم.
وكانت القصة التي تمنى ابن أبي دؤاد أنه مات قبل عشرين سنة ولم يشهدها هي أن سارقا أقر على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه فجمع المعتصم لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر الإمام عليه السلام فسأل المعتصم ابن أبي دؤاد عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع فقال ابن أبي دؤاد من الكرسوع.
فقال له المعتصم وما الحجة في ذلك؟ فقال لأن اليد هي الأصابع والكف إلى الكرسوع لقول الله تعالى في التيمم (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم). فأيد بعض الفقهاء رأيه في ذلك. وقال البعض الآخر أن القطع يجب أن يكون من المرفق ولما سألهم المعتصم عن الدليل في ذلك قالوا لأن الله لما قال (وأيديكم إلى المرافق) في الغسل دل ذلك على أن حد اليد هو المرفق.
حكم الإمام
كان الإمام ساكتا وهو يستمع إلى هذه الأجوبة من فقهاء البلاط العباسي الذين نصبهم العباسيون على الحكم بين الناس وهم ليسوا بأهل لذلك فالتفت المعتصم إلى الإمام وقال له ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟
فقال له الإمام عليه السلام قد تكلم القوم فيه. فاستنتج المعتصم من رد الإمام أن له رأيا آخر فقال له دعني مما تكلموا به، أي شيء عندك؟ فاستعفاه الإمام عليه السلام من الرد لكن المعتصم أقسم عليه بالله أن يقول ما عنده فقال الإمام
أما إذا أقسمت علي بالله أني أقول أنهم أخطأوا فيه السنة، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع ويترك الكف. فلما سأله المعتصم عن حجته في ذلك قال عليه السلام قول رسول الله السجود على سبعة أعضاء الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقال الله تبارك وتعالى (وإن المساجد لله) يعني بها الأعضاء السبعة التي يسجد عليها (فلا تدعوا مع الله أحدا) وما كان لله لم يقطع.
كان جميع من في المجلس يستمع وهو متعجب من علم الإمام وفقهه وأولهم المعتصم وكان أشدهم تعجبا وحسدا وسخطا وغيظا وحقدا ابن أبي دؤاد الذي قال في نفسه قامت قيامتي وتمنيت أني لم أك حياً.
إن هذا المجلس قد ضم كبار فقهاء الدولة وأعظم علمائها ولهم باع طويل في الفقه وهم يمثلون أعلى سلطة تشريعية في الدولة ومع ذلك عجزوا وهُزموا أمام شاب لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره.
الحقد الأسود
لم يستطع ابن أبي دؤاد صبرا على هزيمته أمام الخليفة فهذه الهزيمة هي هزيمة للنظام الحاكم فهو يمثل قضاء الدولة بأكملها، كما أن الإمام أثبت في هذه المناظرة أنه أعلم من في المجلس ومن بينهم الخليفة وهذا يعني أنه أحق بالخلافة منه وهو ما نفث به للمعتصم للتحريض على قتل الإمام فبعد تلك المناظرة بثلاثة أيام دخل ابن أبي دؤاد على المعتصم وهو يحاول أن يستميله أولا بالنصيحة التي هي في صالحه إن نصيحة الخليفة عليَّ واجبة وأنا أكلمه بما هو أعلم أني أدخل به النار. قال وما هو؟ فقال له
إذا جمع الخليفة في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدين، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، وقد حضر مجلسه أهل بيته وقوّاده ووزراؤه وكتابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل شطر هذه الأمة بإمامته ويدّعون أنه أولى منه بمقامه ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟
لقد أيقظ ابن أبي دؤاد الشيطان النائم داخل المعتصم فاستوى في جلوسه وتغير لونه لما تنبه له كما يقول ابن أبي دؤاد وقال له جزاك الله عن نصيحتك خيرا.
ومنذ هذه اللحظة بدأ المعتصم يفكر في وسيلة يتخلص فيها من الإمام فأشار إلى ابنة أخيه فقتلته بالسم فمضى عليه السلام شهيدا وله من العمر خمسة وعشرون عاما.
وكل واحد منهم عليهم السلام هو مدرسة إلهية جمع صفات الكمال واجتمعت فيه علوم الأولين والآخرين، ورغم أن بعضهم كان قد تولى منصب الإمامة بعمر صغير جداً لا يتعدى السبع سنوات، لكن دوره الذي أداه والعلم الذي أظهره ـ وهو في هذا السن ـ قد أذهل العقول وحير الألباب فأذعن له العلماء والفقهاء والفلاسفة كما في مناظرة الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام مع يحيى بن أكثم قاضي قضاة المأمون العباسي.
سؤال... وفشل السائل
لما عزم المأمون على تزويج الإمام الجواد من ابنته أم الفضل غاظ ذلك العباسيين واعترضوا لصغر سن الإمام وقالوا أتزوج ابنتك وقرة عينك صبيا لم يتفقه في دين الله، ولا يعرف حلاله من حرامه، ولا فرضا من سنة؟ فلو صبرت له حتى يتأدب ويقرأ القرآن ويعرف الحلال من الحرام
وكان عمر الإمام آنذاك تسع سنوات فقال لهم المأمون إنه لأفقه منكم وأعلم بالله ورسوله وسنته وأحكامه وأقرأ لكتاب الله منكم وأعلم بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وظاهره وباطنه وخاصه وعامه وتنزيله وتأويله منكم.
وفي الحقيقة لم يكن قول المأمون هذا إلا لمكيدة كان قد حاكها للإمام، وعندما طلب منه العباسيون اللجوء إلى المناظرة وافق على ذلك فاختاروا يحيى بن أكثم قاضي القضاة وعقد المجلس للمناظرة، فاستأذن ابن أكثم في الكلام من المأمون فقال له المأمون استأذن أبا جعفر في ذلك فاستأذنه فقال له عليه السلام سل إن شئت
فقال يحيى يا ابا جعفر أصلحك الله، ما تقول في مُحرم قتل صيداً؟
فقال الإمام الجواد عليه السلام قتله في حل أو حرم؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟ قتله عمداُ أو خطأً؟ حراً، كان المحرم أم عبداُ؟ صغيراُ كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كباره؟ مُصرَّاً على ما فعل أو نادماُ؟ في الليل كان قتله للصيد أم في النهار؟ محرماُ كان بالعمرة اذ قتله أو بالحج كان محرماُ؟
نزل هذا الجواب على أسماع الحضور كالصاعقة، فلم يكن أحد منهم يتوقع مثل هذا الجواب، فقد أراد الإمام أن يؤكد لهم أنه وريث العلم النبوي وكل ما جاء به صلوات الله عليه وآله عنده كما قال رسول الله ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، كان هذا الجواب بمثابة الفصل الذي قطع لسان يحيى وغيره فلم يتجرأ على سؤال الإمام عليه السلام ثانية وخاف من جواب أشد عليه من هذا الجواب فتكون نتيجته على سمعته قاسية وربما لا تحمد عقباها.
لقد لاحت علائم الهزيمة على وجه يحيى، وتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه وهو يرى العباسيين ينظرون إليه وقد عقدوا عليه آمالهم التي خابت ودهش بقية الحاضرين من جواب الإمام وسعة علمه فصاح المأمون وقد تصنع نشوة الانتصار الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم نظر إلى العباسيين وقال أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثم قال للإمام عليه السلام أنا مزوّجك ابنتي أم الفضل، فتم التزويج.
الجواب المفحم
لما تمت مراسيم الزواج وجلس الناس في أماكنهم قال المأمون للإمام إن رأيت ـ جعلت فداك ـ أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه ونستفيده، فقال الإمام عليه السلام
إن المحرم إذا قتل صيداً في الحلّ وكان الصيد من ذوات الطير، وكان من كبارها فعليه شاة، فإن كان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، واذا قتل فرخاً في الحلِّ فعليه حمل قد فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحجّ نحره بمنىً، وإن كان إحرامه للعمرة نحره بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد عليه المأثم، وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفّارة على الحُرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه، وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة.
ذهل الحاضرون لهذا الجواب فأنى ليحيى بن أكثم وغيره من هذه العلم؟ ورغم أن المأمون كان يتميز من الغيظ إلا أنه قال مرغماً أحسنت يا أبا جعفر أحسن الله إليك، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألةٍ كما سألك.
سؤال الإمام وعجز الخصم
فقال الإمام عليه السلام أبو جعفر ليحيى أسألك؟ قال ذلك إليك، فإن عرفتُ جوابَ ما تسألني عني وإلاَّ استفدتُه منك.
فقال أبو جعفر عليه السلام أخبرني عن رجلٍ نظر إلى امرأةٍ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار حُلّت له، فلما زالت الشمس حَرُمت عليه، فلما كان وقت العصر حُلّت له، فلما غربت الشمس حَرُمت عليه، فلما دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلما كان انتصافُ الليل حَرُمَت عليه، فلما طلع الفجر حلّت له، ما حالُ هذه المرأة، وبماذا حلّت له وحرُمت عليه؟
لقد سقط يحيى في الامتحان ثانية وهذه المرة ليست بأقل صدمة له من الأولى فلم ير إلا الرضوخ للإمام وسؤاله سؤال التلميذ إلى المعلم فقال له لا والله ما أهتدي إلى جواب هذه المسألة، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تُفيدناه.
فقال له الإمام عليه السلام هذه أمَةٌ لرجلٍ من الناس، نظر إليها أجنبيٌّ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلما كان الظهر أعتقها فَحَرُمَت عليه، فلما كان وقتُ العصر تزوّجها فحلّت له، فلما كان وقتُ المغرب ظاهر منها فَحرُمت عليه، فلما كان وقتُ العشاء الآخرة كفّر عن الظِهار فحلّت له، فلما كان نصف الليل طلّقها واحدةً فَحَرُمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلّت له.
نفاق المأمون
ساد المجلس السكون كأن على رؤوسهم الطير والإمام يبين من الأحكام ما جهله العلماء والفقهاء وعلى رأسهم قاضي القضاة وما إن انتهى الإمام من كلامه حتى قال المأمون موجها كلامه إلى العباسيين هل فيكم أحدٌ يجيب عن هذه المسألة بمثلِ هذا الجواب أو يعرفُ القول فيما تقدّم من السؤال؟
لم يستطيعوا إلا الاذعان فقالوا بأجمعهم لا والله، إنك أعلمُ وما رأى.
فقال لهم وهو يحاول أن يكون بموقف الموالي لأهل البيت والعارف بحقهم أمام الملأ ويحكم إن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين عليه السلام وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام وحكم له به، ولم يدع أحدا في سنه غيره، وبايع الحسن والحسين عليهما السلام وهما ابنا دون الست سنين، ولم يبايع صبيا غيرهما، أو لا تعلمون ما اختص الله به هؤلاء القوم؟ وإنهم ذرية بعضها من بعض يجري آخرهم ما يجري لأولهم.
فقالوا بأجمعهم صدقت ونهضوا وانصرفوا وهم يجرون أذيال الخيبة والخسران. لكن الخاسر الأكبر في هذه المناظرة هو المأمون نفسه لأن هزيمة يحيى تعني هزيمته لأن يحيى هو الممثل للسلطة العباسية، كما تعتبر غلبة الإمام على خصمه في المناظرة وهو بسن تسع سنوات انتصار لمبدأ النص على أهل البيت من الله.
ولكن المأمون لا يستطيع أمام ما رآه من علم الإمام إلا الاعتراف بعلم الإمام، ونحن هنا نثبت كلمته لأنه أرغم على قول الحق رغم عداوته للإمام وأهل البيت عليهم السلام لأنه رأى من الإمام ما لا يمكن أن يجحد أو ينكر من الفضل والعلم وهذا القول وغيره من الأقوال له بحق الإمام تحسب كإفادات ضده في صحف التأريخ لأنه عمل بخلاف ما قال وأضمر خلاف ما أظهر فقد سوّد صحيفته بقتل الإمام الرضا عليه السلام ومهد لقتل الإمام الجواد بتزويجه من ابنته على يد أخيه المعتصم.
مع ابن أبي دؤاد
بعد أن تزوج الإمام من ابنة المأمون رجع إلى المدينة المنورة فأمضى خمس عشرة سنة من حياته الشريفة في عهد المأمون حتى مات المأمون سنة 218هـ ولما تولى بعده المعتصم الخلافة استدعى الإمام من المدينة إلى بغداد لنفس الغرض الذي استدعاه المأمون وهو مراقبته عن كثب والتضييق عليه وكان عمره الشريف عند استقدامه إلى بغداد ثلاث وعشرون سنة ولم يطل بقاؤه عليه السلام في بغداد سوى سنتين حتى دس إليه المعتصم السم عن طريق أم الفضل ابنة المأمون فمات منه وكان سبب قتله على ابن أبي دؤاد بالسم تحامل قاضي المعتصم ابن أبي دؤاد على الإمام وتحريض المعتصم على قتله لما أفحمه الإمام في قضية السارق بأدلته الساطعة من القرآن الكريم والحديث الشريف كما أفحم يحيى بن أكثم من قبل ولكن تبعات هذه المناظرة كانت شديدة الوطء على ابن أبي دؤاد فحقد كثيرا على الإمام وأضمر له الشر وحرض المعتصم على قتله لأنه أبطل قوله في الحكم أمام المعتصم وهذه المناظرة كما روتها المصادر هي عن زرقان صاحب ابن دؤاد وهي باختصار
أن ابن أبي دؤاد رجع ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتم فلما سأله زرقان عن سبب غمه وغضبه قال له وددت اليوم أني قد متُّ منذ عشرين سنة، دهش زرقان وهو يحاول أن يستجلي الأمر فسأله عن سبب ذلك فقال له ابن أبي دؤاد لما كان من أبي جعفر محمد بن علي بن موسى اليوم بين يدي المعتصم.
وكانت القصة التي تمنى ابن أبي دؤاد أنه مات قبل عشرين سنة ولم يشهدها هي أن سارقا أقر على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه فجمع المعتصم لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر الإمام عليه السلام فسأل المعتصم ابن أبي دؤاد عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع فقال ابن أبي دؤاد من الكرسوع.
فقال له المعتصم وما الحجة في ذلك؟ فقال لأن اليد هي الأصابع والكف إلى الكرسوع لقول الله تعالى في التيمم (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم). فأيد بعض الفقهاء رأيه في ذلك. وقال البعض الآخر أن القطع يجب أن يكون من المرفق ولما سألهم المعتصم عن الدليل في ذلك قالوا لأن الله لما قال (وأيديكم إلى المرافق) في الغسل دل ذلك على أن حد اليد هو المرفق.
حكم الإمام
كان الإمام ساكتا وهو يستمع إلى هذه الأجوبة من فقهاء البلاط العباسي الذين نصبهم العباسيون على الحكم بين الناس وهم ليسوا بأهل لذلك فالتفت المعتصم إلى الإمام وقال له ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟
فقال له الإمام عليه السلام قد تكلم القوم فيه. فاستنتج المعتصم من رد الإمام أن له رأيا آخر فقال له دعني مما تكلموا به، أي شيء عندك؟ فاستعفاه الإمام عليه السلام من الرد لكن المعتصم أقسم عليه بالله أن يقول ما عنده فقال الإمام
أما إذا أقسمت علي بالله أني أقول أنهم أخطأوا فيه السنة، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع ويترك الكف. فلما سأله المعتصم عن حجته في ذلك قال عليه السلام قول رسول الله السجود على سبعة أعضاء الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقال الله تبارك وتعالى (وإن المساجد لله) يعني بها الأعضاء السبعة التي يسجد عليها (فلا تدعوا مع الله أحدا) وما كان لله لم يقطع.
كان جميع من في المجلس يستمع وهو متعجب من علم الإمام وفقهه وأولهم المعتصم وكان أشدهم تعجبا وحسدا وسخطا وغيظا وحقدا ابن أبي دؤاد الذي قال في نفسه قامت قيامتي وتمنيت أني لم أك حياً.
إن هذا المجلس قد ضم كبار فقهاء الدولة وأعظم علمائها ولهم باع طويل في الفقه وهم يمثلون أعلى سلطة تشريعية في الدولة ومع ذلك عجزوا وهُزموا أمام شاب لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره.
الحقد الأسود
لم يستطع ابن أبي دؤاد صبرا على هزيمته أمام الخليفة فهذه الهزيمة هي هزيمة للنظام الحاكم فهو يمثل قضاء الدولة بأكملها، كما أن الإمام أثبت في هذه المناظرة أنه أعلم من في المجلس ومن بينهم الخليفة وهذا يعني أنه أحق بالخلافة منه وهو ما نفث به للمعتصم للتحريض على قتل الإمام فبعد تلك المناظرة بثلاثة أيام دخل ابن أبي دؤاد على المعتصم وهو يحاول أن يستميله أولا بالنصيحة التي هي في صالحه إن نصيحة الخليفة عليَّ واجبة وأنا أكلمه بما هو أعلم أني أدخل به النار. قال وما هو؟ فقال له
إذا جمع الخليفة في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدين، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، وقد حضر مجلسه أهل بيته وقوّاده ووزراؤه وكتابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل شطر هذه الأمة بإمامته ويدّعون أنه أولى منه بمقامه ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟
لقد أيقظ ابن أبي دؤاد الشيطان النائم داخل المعتصم فاستوى في جلوسه وتغير لونه لما تنبه له كما يقول ابن أبي دؤاد وقال له جزاك الله عن نصيحتك خيرا.
ومنذ هذه اللحظة بدأ المعتصم يفكر في وسيلة يتخلص فيها من الإمام فأشار إلى ابنة أخيه فقتلته بالسم فمضى عليه السلام شهيدا وله من العمر خمسة وعشرون عاما.
الأكثر قراءة
25874
18683
13876
10739