2 شوال 1446 هـ   31 آذار 2025 مـ 2:12 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | شخصيات إسلامية |  صلاح الدين الأيوبي بين التقييم الديني والتقييم السياسي
2025-02-12   224

صلاح الدين الأيوبي بين التقييم الديني والتقييم السياسي


الشيخ معتصم السيد احمد
لطالما شغل صلاح الدين الأيوبي حيّزاً مهماً في الذاكرة التاريخية الإسلامية، حيث ارتبط اسمه بحدث تحرير بيت المقدس، مما جعله في نظر الكثيرين بطلاً تاريخياً ورمزاً للجهاد. لكن دراسة الشخصيات التاريخية يجب أن تتم وفقاً لمنهج موضوعي بعيداً عن التصورات المذهبية والطائفية، لا سيما تلك الشخصيات التي كان لها تأثير واضح في منعطفات التاريخ الإسلامي. فالنظر إلى صلاح الدين من زاوية واحدة فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار مجمل أفعاله وإنجازاته، يجعل التقييم ناقصاً وأقرب إلى الخطاب العاطفي منه إلى التحليل الأكاديمي الرصين.
لا شك أن لصلاح الدين دوراً محورياً في التصدي للصليبيين واستعادة القدس، إلا أن ذلك لا يعني التغاضي عن السياسات التي انتهجها خلال فترة حكمه، والتي كان لها أثر بالغ على مسار الأمة الإسلامية. فقد أقام دولته على أنقاض الحكم الفاطمي، وأسقط النفوذ العباسي في بعض المناطق، وهو ما يُشير إلى أن مشروعه لم يكن محصوراً فقط في مقاومة الغزو الصليبي، بل شمل أيضاً إعادة تشكيل الخريطة السياسية للعالم الإسلامي وفق رؤيته الخاصة.
وإن كان انتصاره في معركة حطين عام 1187م نقطة تحول بارزة في الصراع مع الصليبيين، فإن النتائج التي ترتبت على ذلك، خاصة فيما يتعلق بمعاهداته معهم، تستدعي مراجعة وتحليلاً أعمق. فقد كان هذا الانتصار مقدمة لاستعادة بيت المقدس، وهو الحدث الذي جعل صلاح الدين يُصوَّر كبطل إسلامي، غير أن الجانب السياسي والعسكري بعد المعركة يكشف عن تنازلات مثيرة للجدل. فبعد استعادة القدس وسقوط مدن صليبية رئيسية، لم يواصل صلاح الدين الزحف لطرد الصليبيين نهائياً من المنطقة، بل دخل في سلسلة من المفاوضات التي انتهت بصلح الرملة عام 1192م مع ريتشارد قلب الأسد، الذي سمح للصليبيين بالاحتفاظ بشريط ساحلي يمتد من يافا إلى صور، وهي المناطق التي سبق أن حررها جيشه، الأمر الذي أعاد التوازن للصليبيين في المنطقة، ومنحهم موطئ قدم قوياً بعد أن كانوا على وشك الانهيار الكامل.
وقد أثار هذا الموقف انتقادات شديدة من معاصريه وحتى من المؤرخين اللاحقين، يقول العلامة حسن الأمين في كتابه (صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين) في صفحة 144: "لم يكد يطمئن إلى النصر الرائع في تلك المعركة، حتى أسرع إلى القيام بعمل لا يكاد الإنسان يصدقه، لولا أنه يقرأ بعينيه تفاصيله الواضحة، فيما سجله مؤرخو تلك الحقبة، المؤرخون الذين خدرت عقولهم روائع استرداد القدس، فذهلوا عما بعده، لم تتخدر أقلامهم فسجلوا الحقائق كما هي، وظل تخدير العقول متواصلا من جيل إلى جيل، تتعامى حتى عما هو كالشمس الطالعة، حصل بعد حطين أن صلاح الدين الأيوبي آثر الراحة بعد العناء، والتسليم بعد التمرد، فأسرع يطلب إلى الإفرنج إنهاء حالة الحرب وإحلال السلام"
ومن أجل هذا الموقف اتهمه العديد من الباحثين بأنه يسعى لتحقيق مصالحه الشخصية، إذ فضّل التحالف مع الصليبيين من أجل توسيع نفوذه على أنقاض الدولتين العباسية والفاطمية. وما يؤكد هذا الرأي هو أن العالم الإسلامي خضع عملياً لسلطانه ولملكيته الخاصة، حيث أنه بعد استقرار الأوضاع له، قام بتقسيم الأراضي الإسلامية بين أبنائه وأقربائه، وكأنه يورثها كإقطاعيات عائلية. وقد أورد ابن كثير تفاصيل هذا التقسيم، حيث جعل مصر لابنه العزيز عماد الدين أبي الفتح، ودمشق وما حولها لابنه الأفضل نور الدين علي، وحلب وما يتبعها لابنه الظاهر غازي غياث الدين، والكرك والشوبك وبلاد جعبر ومناطق واسعة على نهر الفرات لأخيه العادل، بينما خصص حماه ومقاطعات أخرى لابن أخيه الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر، وحمص والرحبة وما جاورهما لابن عمه أسد الدين بن شيركوه، وأعطى اليمن بأكمله لأخيه ظهير الدين سيف الإسلام طفتكين بن أيوب، كما جعل بعلبك وأعمالها لابن أخيه الأمجد بهرام شاه بن فروخ شاه، وبصرى وما يتبعها للظافر بن الناصر.
فكيف يمكن تجاهل كل هذه الوقائع عند تقييم تاريخ صلاح الدين؟ فعلى أقل تقدير، لا ينبغي النظر إليه من زاوية دينية بحتة، بحيث يُقدَّم كأحد الصالحين أو القادة الربانيين الذين يجب أن يُبنى الولاء والبراء حولهم في الأمة. بل هو أحد الحكام الذين استطاعوا تطويع الأحداث التاريخية لتحقيق أهدافه الخاصة، وقد نجح في توسيع نفوذه وتأسيس مملكته الأيوبية. وحتى إذا افترضنا أنه قاتل الصليبيين من أجل الإسلام وإعادة أمجاد الأمة، فقد نال أجر ذلك عبر سيطرته على العالم الإسلامي. وعليه، فإن الاختلاف حول شخصيته لا ينبغي أن يكون انقساماً دينياً أو أخلاقياً بين مؤيد ومعارض، فهو ليس قديساً أو قائداً دينياً معصوماً، بل هو شخصية سياسية يجب أن تُقيَّم من هذا المنطلق، لا من منظور ديني أو أخلاقي. 
وبيت المقدس وإن كان رمزاً دينياً إلا أن فتحه وتحريره يجب أن يقيم سياسياً لأن نية القربى لله بهذا العمل لا يعلمها غير الله تعالى، والأمر الوحيد الذي يمكن تقييمه دينياً وأخلاقياً هي المظالم التي صدرت من صلاح الدين في حق المسلمين، لأن الظلم والتعدي على حقوق الآخرين مدان بحكم الدين والأخلاق، وصلاح الدين ليس بريئاً من دماء المسلمين والتعدي على حقوقهم ومصادرة حرياتهم كما فعل في مصر، فبينما كان حريصاً على مصالحة الصليبيين نجده كان شديداً على الفاطميين، حيث تعدى عليهم وأسرف في قتالهم وسفك دمائهم من دون أي مبرر لذلك، سوى توسيع ملكه وسلطانه، ولم يقف عند هذا الحد وإنما تعدى حتى على الكتب والمكتبات وكان من بينها مكتبة الفاطمية في القصر الفاطمي حيث قام بإحراقها، وهي تحتوي على ما يزيد عن مئتي ألف مجلد في سائر العلوم والفنون، من الفقه والحديث واللغة والتاريخ والأدب والطب والكيمياء والفلك وغيرها، الأمر الذي يكشف عن حقده على كل ما يتعلق بتراث الفاطميين.
في الختام، يجب أن نعي أن صلاح الدين الأيوبي كان شخصية معقدة تجمع بين جوانب من البطولة السياسية والعسكرية، وبين سياسات تثير الجدل وتستدعي المراجعة. ورغم أن تحرير بيت المقدس يبقى حدثاً تاريخياً بارزاً في سجل الأمة الإسلامية، فإن التقييم الشامل له لا ينبغي أن يقتصر على هذه اللحظة العظيمة فقط. بل يجب أن يشمل جميع مواقفه السياسية والعسكرية، وتحديد مدى تأثير تلك السياسات على الأمة الإسلامية بشكل عام.
إن نظرنا إلى صلاح الدين كحاكم سياسي لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار المصالح الشخصية وتوسيع النفوذ الذي سعى إليه، بالإضافة إلى الإجراءات التي اتخذها ضد المسلمين والفئات المختلفة في مجاله. لذلك، فإن تقويم شخصيته يجب أن يكون بعيداً عن التصورات الطائفية أو المذهبية الضيقة، وأن يتم من خلال دراسة موضوعية تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الواقع السياسي الذي عاش فيه.
صلاح الدين لم يكن في النهاية شخصية معصومة أو قديساً، بل كان حاكماً يسعى لتحقيق أهدافه السياسية والسلطوية ضمن سياقات تاريخية صعبة ومعقدة، مما يجعل من تقييمه أمراً يتطلب موضوعية وحياداً علمياً بعيداً عن التقديس أو التهجم.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م