

| قادة محمديون (الأئمة وبعض الصحابة) | من نحر الحسين إلى عرش يزيد ..تتضح معالم الصراط

من نحر الحسين إلى عرش يزيد ..تتضح معالم الصراط
الشيخ معتصم السيد أحمد
منذ اللحظة التي أمر الله تعالى
عباده بأن يدعوه كل يوم في صلواتهم المتكررة قائلين: ﴿اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، لم تكن هذه الدعوة عبثاً، بل كانت نداءً
دائماً للتمايز بين دربين لا ثالث لهما: درب الذين أنعم الله عليهم
ودرب المغضوب عليهم والضالين. وهذا التمايز لم يُترك نظرياً، ولا وُضع
في إطار المفاهيم المجردة، بل جُسّد في شخصيات وأحداث حملت على عاتقها
تجسيد الحق والباطل، وتجسيد الإسلام الأصيل في مقابل الإسلام المزيف.
ومن بين كل تلك الأحداث التاريخية، تبقى كربلاء أعظم مفصل في رسم
ملامح الصراط المستقيم، إذ تكشف عن وجه الحسين كرمز للهداية والنعمة،
في مقابل يزيد الذي يمثل الغضب والضلال.
حين نقرأ في صلواتنا اليومية:
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، نتوجه ــ بوعي أو بغير
وعي ــ نحو نموذج بشري تمثلت فيه الهداية بكل أبعادها، ألا وهو الحسين
عليه السلام، الذي لم يكن مصداقاً جزئياً لتلك النعمة، بل كان ذروتها،
لأنه قدم كل ما يملك في سبيل بقاء الدين نقياً غير ملوث بأهواء
الطغاة. ولم يكن نحره الشريف مجرد مشهد مأساوي، بل كان إعلاناً عن أن
السير على الصراط المستقيم يحتاج إلى تضحيات بحجم الحسين، وأن
الانتماء إلى هذا الدرب ليس انتماءً لفظياً أو عاطفياً، بل هو موقف
ومصير. وفي المقابل، حين نُحذَّر من طريق المغضوب عليهم والضالين، فإن
يزيد وأمثاله هم الصورة المجسدة لهذا الانحراف، إذ استباح في سبيل
شهوته كل المقدسات، فقتل الحسين وقطع رأسه وأهانه وأهل بيته، ظناً منه
أن الحكم يستحق كل ذلك.
فهل يُعقل بعد هذا كله أن نقف على
الحياد؟ هل يمكن لمؤمن أن يردد هذه الآيات خمس مرات يومياً ولا يرى في
الحسين صراط الله، ولا يرى في يزيد سبيل الغواية؟ العجب كل العجب أن
لا يزال البعض يناقش أهمية ذكرى الحسين أو يتردد في إحيائها، بينما
الله تعالى يأمرنا أن نطلب الهداية من خلال النماذج البشرية، لا من
خلال شعارات معلقة في الفراغ. فالصراط الذي نرجو أن يهدينا الله إليه
هو الحسين، وطريق من نحذر الوقوع فيه هو يزيد، وإن تجاهل البعض هذه
الحقيقة، فالدين نفسه يلفظها إلى السطح في كل صلاة.
ومن هنا نفهم كيف استطاعت كربلاء أن
تظل حيّة في ضمير الأمة رغم تقلبات الزمن وتبدل الأحوال. فالقيم التي
تجلت فيها ــ من وفاء وتضحية وإخلاص وصبر وثبات ــ ليست شعارات عابرة،
بل هي جوهر الدين. ولولا وجود الحسين وتجربته التي جسدت الإسلام في
أسمى صوره، لبقيت مفاهيم مثل التوكل واليقين والتضحية مفاهيم ميتة لا
حياة فيها. الدين الذي نُزل ليحوّل حياة الإنسان إلى مسار كامل من
التوحيد، لم يكن ليُفهم على حقيقته من دون كربلاء، كما لم يكن من
الممكن فهم التسليم لولا قصة إبراهيم وابنه إسماعيل، رغم أن في القرآن
مئات الآيات عن التوحيد والتسليم. فالفكرة تحتاج إلى جسد، والمبدأ لا
يُدرك إلا إذا تمثل في شخص.
وهكذا نفهم أن كربلاء ليست لحظة في
الزمان، ولا حالة وجدانية مؤقتة، وإنما هي المعيار الذي نقيس به صدق
انتمائنا للدين. فبينما سُخّر الدين في بعض العصور لخدمة السلاطين،
جاءت عاشوراء لتعيد الإسلام إلى موقعه الطبيعي، موقع التسليم لله،
والرفض لكل طغيان. كانت الدماء التي سالت في كربلاء شاهداً على أن
الإسلام المحمدي لا يمكن أن يتعايش مع الظلم، ولا أن يُدجَّن ليكون
تابعاً للسلطة، وأن من يطلب الهداية الحقة لا يمكن أن ينظر إلى يزيد
إلا بصفته ممثلاً لكل من انحرف عن الصراط.
إن عاشوراء ليست مأساة تتكرر كل عام
فحسب، بل هي أيضاً عدسة نعيد من خلالها النظر إلى واقعنا، فنُقيّم فيه
الأنظمة والمواقف والمجتمعات من خلال مبادئ كربلاء. وإذا كانت ثورة
الحسين صرخة بوجه يزيد، فهي في الوقت نفسه دعوة أبدية للثورة على كل
سلطان جائر. ولهذا حين وقف الحسين أمام جيش يزيد، لم يتحدث فقط عن
حقوقه الشخصية، بل عن مسؤولية الإنسان المسلم تجاه الطغاة، قائلاً:
«من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله... فلم يغيّر عليه
بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله». هذه ليست دعوة
للثورة بقدر ما هي تأكيد على أن الإسلام لا يرضى بالحياد في معركة
الحق والباطل.
لقد تأخر المسلمون كثيراً حتى فهموا
هذه الحقيقة، وظلوا قروناً يُكيّفون الإسلام ليتماشى مع كل سلطان،
يبررون الظلم تحت عناوين فقهية وتأويلات انتقائية، فضاعت الأمة،
وتأخرت عن ركب الحضارة، وفقدت عزتها. وما نراه اليوم من اصطفاف الشعوب
العربية والإسلامية وراء الخط الحسيني المناهض والمقاوم للاستكبار
العالي، ليس إلا انتفاضة غير معلنة على ذلك الفهم المزيف للإسلام الذي
لم يعرف الحسين ولم يقف على ضاف كربلاء.
ولذا فإننا نقول بوضوح: الشيعة حين
يبكون الحسين ويُحيون عاشوراء لا يفعلون شيئاً خارج دائرة الإيمان، بل
هم يجددون ارتباطهم بالصراط المستقيم. فالإسلام الحقيقي هو التوحيد،
والتوحيد هو نفي الطغيان، وكربلاء هي ذروة هذا النفي، ومن لم يعرف
الحسين لم يعرف الإسلام، ولا يمكن لأمة أن تستعيد عزتها وهي تتجاهل
الحسين، أو تقف من ذكراه موقف اللامبالاة.
ومهما قال الآخرون، فبقاء ذكر الحسين
علامة إيمانية لا تنقص من قيمة الدين بل تعليها، لأنه إذا كانت القيم
هي جوهر الدين، فإن الحسين هو قمة تجسيد تلك القيم، فكل المعاني
العليا التي نقرأها في القرآن: من عدل ورحمة وكرامة وصبر ويقين وصدق
وعبودية... قد تجلت في الحسين. وإذا كانت القيم لا تُفهم إلا من خلال
من يُجسدها، فإن الحسين هو المرآة التي عكست تلك القيم بأعلى وضوح،
ومن هنا صار الحسين ليس مجرد شخص بل مقياساً، وكل دين لا يحتوي على
الحسين هو دين فارغ من محتواه القيمي.
ولا غرابة أن تكون كربلاء حاضرة في
وعي المؤمنين على امتداد القرون؛ لأنها لم تكن حادثة تستهلكها
العاطفة، بل قضية تتجدد كلما وُجد ظالم ومظلوم، كلما ساد التزوير باسم
الدين، وكلما سُخرت الأحكام لخدمة السلطان. وفي كل لحظة يرفع فيها
مؤمن صوته للحق، يُعاد تمثل عاشوراء، ويولد الحسين من جديد. فالإسلام
الحق لا يُعاد إنتاجه إلا من خلال بوابة كربلاء، والإصلاح لا يبدأ إلا
من لحظة الوقوف مع الحسين، ومعنى أن تكون مع الحسين هو أن تُجسّد قيمه
في حياتك، وتتمثل مواقفه في واقعك، وتعيد قراءة الدين لا من خلال فقه
السلطان، بل من خلال فقه الشهادة.
في نهاية المطاف، إن من يعرف الحسين
ويؤمن به، هو من يهتدي إلى الصراط المستقيم. ومن يقف على التل
متردداً، أو يختار الحياد، أو يُبرر لأعداء الحسين، فقد ضل السبيل.
فالهداية ليست كلمات نرددها، بل موقف يُترجم إلى فعل، وولاء يُترجم
إلى براءة. ولهذا فإن عاشوراء ليست يوماً نحييه، بل نهجاً نسير عليه،
وصراطاً نُهتدى به، وجسراً يُوصلنا إلى الذين أنعم الله عليهم، وفي
مقدمتهم الحسين بن علي، الذي به عرفنا الله، وبه عرفنا الصراط، وبه
نُجدد انتماءنا للإسلام المحمدي العلوي.