8 محرم 1447 هـ   4 تموز 2025 مـ 1:03 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | قادة محمديون (الأئمة وبعض الصحابة) |  عاشوراء الحسين: بوابة الإسلام الحي ومعيار الانتماء الأصيل
2025-07-03   15619

عاشوراء الحسين: بوابة الإسلام الحي ومعيار الانتماء الأصيل


الشيخ معتصم السيد أحمد

لا يمكن فهم عاشوراء الحسين عليه السلام بمعزل عن بعدها الجوهري الذي يتجاوز الزمان والمكان، فليست هي مجرد واقعة تاريخية تجلس في ركن من أركان الذاكرة كما هو حال الحوادث الفلكلورية، وليست مأساة إنسانية مجردة لامست الوجدان فتحوّلت إلى بكاء موسمي تتداوله العاطفة الشيعية، إذ أن العاطفة وحدها لا تملك خلوداً، فهي بطبيعتها قابلة للتلاشي والخفوت مع مرور الزمن وتبدل الأحوال. ومن هنا، فإن بقاء الحدث في الضمير الإنساني لا ينبع من استثارة وجدانية سطحية، بل من عمق العلاقة بين الإنسان والحدث ذاته، فالذي يُبقي العاطفة مشتعلة ليس هو مجرد البكاء، بل هو المعنى الذي لا يزال حياً في واقع الإنسان.

 

فالحدث الذي لا ينسى هو الذي يبقى حياً في الضمير والوجدان لأنه يحمل في جوهره ما يتجاوز الظرف الزمني الذي وقع فيه، إنه القابل لإعادة إنتاجه على امتداد الأزمنة، بشرط أن يتسم بديناميكية تجعله قابلاً للتفاعل مع سياقات جديدة دون أن يفقد روحه، فليست عاشوراء نصاً ساكناً يتردد على المنابر، وإنما هي دلالة متحركة تجد لها صدى في كل عصر، لأنها ليست حدثاً في التاريخ، بل معياراً لفهم التاريخ. فالدينامية ليست من خصائص الزمان بل من خصائص الحدث الذي ولد من رحم القيم، وكلما بقيت هذه القيم حية في النفوس بقي الحدث بدوره متجدداً.

 

والقيم ليست مجرد مفاهيم نظرية مستقلة عن الواقع، بل هي حقائق مطلقة لا تُدرك إلا حين تتجسد في أفعال وأشخاص، فالعدل لا يُعرَف إلا بالعدل المجسّد، والرحمة لا تُلمس إلا من خلال الرحمة الفاعلة، والجمال لا يُبصَر إلا في الجميل، ومن هنا فإن كل قيمة لا تجد مظهرها في الخارج تبقى مستترة عن الفهم البشري. ولذلك، فإن الشخصيات التي مثلت القيم الكبرى بوضوح كالأنبياء والأئمة، هي التي تستحق الخلود في الضمير الإنساني، لأنها المنفذ الوحيد لفهم القيم الكبرى التي بها يُقام الدين وتُبنى الحياة.

 

وهكذا تُفهم كربلاء: ليست قصة مأساوية ولا مسرحاً للدموع، بل لحظة مفصلية تجلت فيها كل معاني الدين في قمة صفائها وتجردها، حتى تحولت إلى معيار لفهم الدين لا بوصفه عقيدة موروثة بل مشروعاً حياً يمتحن الواقع من خلاله. في كربلاء نجد صور الإيمان، والتسليم، والتوكل، والصبر، والإيثار، والرفض المطلق للطغيان، ولذلك فهي ليست تجربة من الماضي وإنما اختبار دائم للموقف الذي يتخذه الإنسان في مواجهة الانحراف.

 

لقد حاولت السلطة التي وُلدت بعد النبي صلى الله عليه وآله أن تفرغ الدين من محتواه القيمي وتُخضعه لسطوتها، فصار الدين أداة طيعة في يد الحاكم يوجهه حسب مصلحته، وهنا جاءت كربلاء لتعيد صياغة المعادلة: الحاكم يجب أن يخضع للدين لا أن يُخضع الدين له. ولهذا كانت ثورة الحسين عليه السلام إعادة تأسيس للدين، لا من خلال خطاب عقائدي نظري، بل من خلال تضحية عملية رسمت معالم الطريق الذي ينبغي أن يسلكه كل من يريد الانتماء إلى الله.

 

لقد جسدت عاشوراء المفارقة الكبرى بين الإسلام الذي يصوغ الواقع ويُطهّره من الظلم، وبين الإسلام الذي يُستخدم كواجهة يختبئ خلفها الطغيان، فالحسين حين وقف ليعلن رفضه للطاغية، لم يكن يسجل احتجاجاً عابراً، بل كان يُعلن عن خط أحمر يفصل بين الإسلام الحقيقي والإسلام المزيف. ومن هنا فإن البكاء على الحسين ليس عاطفةً مكررةً، بل هو موقف من العالم، وانحياز إلى الحق في وجه الباطل، وصرخة متجددة تعلن أن هناك معياراً حقيقياً للإسلام، وأن كل إسلام لا يعرف الحسين هو إسلام مغشوش لا يملك القدرة على مقاومة الاستبداد.

 

ولذلك فإن التشيّع لعاشوراء ليس طقساً تقليدياً، بل هو التزام دائم بالمفاصلة بين مشروع الله ومشروع الشيطان. فالحسين لم يكن بديلاً عن الإسلام، بل هو الإسلام نفسه حين تجلى في لحظة من أشد لحظات الانحراف. وهذا ما يفسر كيف بقيت عاشوراء حيّةً رغم تعاقب القرون: لأنها لم تكن حدثاً عاطفياً، بل كانت ديناً مجسداً، وقيماً ناطقة، وموقفاً نبوياً يعيد الدين إلى مكانه الصحيح.

 

وما نراه اليوم من ثورات وانتفاضات في العالم الإسلامي ضد الظلم، هو في جوهره محاولة بطيئة لفهم عاشوراء بعد طول اغتراب عن معناها، ومحاولة متعثرة لسحب الدين من يد السلطان إلى فضائه النقي، ولو عرف المسلمون الحسين حق المعرفة لما احتاجوا إلى كل هذا الألم، ولكنهم دفعوا ثمناً باهظاً لصمتهم التاريخي على الظالمين. إن استسلام الأمة لكل طاغية مرّ على تاريخها هو امتداد لصمتها يوم عاشوراء، ودم الحسين هو الصرخة التي تأخرت قروناً عن اسماع أكثر المسلمين حتى بدأت تُسمع من جديد.

 

فحين يرفع الشيعة راية الحسين، لا يعبّرون فقط عن ارتباط وجداني، بل عن رؤية واضحة لمعنى الدين، وفهم دقيق لجوهر الإسلام، ورفض لا يقبل المساومة لكل أشكال الطغيان.

فلو لم يرفع الشيعة راية الحسين، لكان في أصل إسلامهم خلل؛ لأن الإسلام لا يُختزل في الصلاة والصيام، وإنما هو مشروع تحرر كامل، جوهره رفض الطاغوت، وإقامة العدل، وتكريس التوحيد في واقع الناس. فكل من لم يعرف الحسين، لا يمكن له أن يعرف الصراط، ولا أن يسير على درب الذين أنعم الله عليهم، لأن عاشوراء هي الامتحان الذي لا تزال الأمة تفشل فيه حتى اليوم، فهل آن الأوان لنفهم من هو الحسين، وماذا تعني كربلاء؟

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م